لن نتوقف عن حب “مو صلاح”… لكن هل يغفر” النجاح” كل شيء؟ / أحمد الفخراني

 أحمد الفخراني ( مصر ) –  الإثنين 5/2/2024 م …




أثار موقف محمد صلاح من الحرب الإسرائيليّة على غزة مناقشات حول قيم التفكير في واقعنا ومساراته، ويمكن رصد الدفاع عن محمد صلاح ضمن ثلاثة “منطلقات أيديولوجية” تحافظ في نهاية المطاف على حقيقة أنه مجرد لاعب كرة قدم لا يمكن تحميله أكثر مما ينبغي.

تتعرض جماهيرية محمد صلاح الجارفة إلى انتقادات واضحة بعد عدة مواقف لم تلبِ تطلعات الجماهير، التي شعر بعضها بالخذلان تجاه نجمها المحبوب. وعلى رغم من أن صلاح أهم لاعب مصري وإفريقي في تاريخ كرة القدم، وجماهيريته وإنجازاته وشهرته عابرة للحدود، لا يحق لنا كمصريين أن نشعر بالملكية والاستحقاق تجاهه، ولا يحق لأحد أن يشكك في انتمائه وولائه لمصر.

لكن مكانة صلاح الكرويّة وشهرته لا تجعله فوق أي نقد، خصوصاً أنه صار محل تشكيك ومراجعة بسبب مواقفه المتراكمة، وأولها كان دعمه للاعب عمرو وردة، الذي اتهم بالتحرش، ثم موقفه غير المرضي للكثيرين بخصوص الحرب الإسرائيليّ على غزة، واستخدامه حقيقة لا يمكن الجدال حولها بأن كل “الأرواح مقدسة”.

هذه البديهيّة التي أشار إليها صلاح، تعمي عن حقيقة أخرى، فهذا التعبير يعني مساواة الجلاد بالضحية، وفي الوقت نفسه تهرب من الدعم المباشر، لغزة وفلسطين، نتيجة حسابات وكيله رامي عباس.

عباس كولومبي الجنسية ذو أصول لبنانية، ومعروف بكونه ينتمي سياسيا للتيار اليميني، وأحد داعمي دونالد ترامب، وصلاح مدرك لهذه الحسابات التي تتعلق بشروط الرعاة والفوز بالكرة الذهبية، التي قد يحرمه منها موقف سياسي.

ناهيك بأن صلاح مجرد لاعب كرة قدم في نهاية الأمر، وليس سياسيا في يديه قرارات مصيرية كـ(فتح معبر رفح)، كما يقول دائما المدافعين عنه، لكنه يملك بحكم جماهيريته العريضة في العالم تأثيراً، لكنه اختار مساراً يضمن ألا يتأثر نجاحه الفردي، القيمة الأعلى التي يرفعها مؤيدوه في وجه منتقديه.

من حق صلاح أن يختار نجاته الفرديّة، ويحق أيضاً للمصريين بناء على اختياراته، أن تختلف مشاعرهم تجاهه، وأن يشعر البعض أنه لم يعد يمثلهم، وأن يتعمق شعورهم بالغربة تجاهه، دون استحقاق أو تملك.

من حق البعض أيضاً أن يفك تلك الشراكة المتوهمة معه، كرمز وكملهم، والتي لا يمكن إعفاء صلاح نفسه من زرعها في مخيلة الجماهير، فهناك أكثر من تصريح لصلاح يرى فيه نفسه كملهم للجماهير، متحدثا عن قضايا أكبر من هموم لاعب كرة قدم، كتغيير عقلية المصريين تجاه قضايا النساء، وحملته ضد المخدرات، والإعلانات التجارية التي تقدّمه بصورة الملهم للمصريين، وهي إعلانات تمت بإرادته.

لا ننسى أن صلاح وهو أول من استخدم الجماهير في معاركه المستحقة ضد اتحاد الكرة البليد، بخروجه علناً في فيديوهات لايف، لمهاجمة اتحاد الكرة المصري، في سابقة لم تحدث من قبل، متأكدا من ولاء الجماهير المصرية له، والتي دعمته، وبكت من أجله في كل أزمة تعرض لها، كابن لها وفرد من أفراد عائلتها.

ما حدث أن تلك الشراكة والشعور بالقرابة بالنسبة للبعض قد انتهت، صلاح مجرد لاعب كرة قدم، عالمي، لكنه ليس شريكا في شيء. اختار النجاة الفردية، وأسقط الموقف الأخلاقي، طالما أن النجاح الفردي بالنسبة للبعض يغفر كل شيء، فهنيئا له، ولهم.

شبكات الرعاة… صلاح ليس حرا

تأخر رد فعل محمد صلاح على حرب السابع من أكتوبر بشكل لافت للنظر، حتى إن لافتة ساخرة انتشرت في إحدى مظاهرات نيويورك الداعمة للفلسطينيين، يظهر فيها صلاح كمفقود شوهد آخر مرة في العشية السابقة للكريسماس.

قال الباحث محمد نعيم في ملاحظة ساخرة وصائبة في الوقت نفسه، أن صلاح لن يتحرك إلا بعد حدوث كارثة إنسانية كبيرة يمكن للغرب فهمها، وسيراعي في لغته التوازن الدقيق الذي لا يغضب الرعاة.

وهذا ما حدث بالفعل، فالفيديو الذي بدأ فيه صلاح حديثه “أنه يصعب دائما الحديث في أوقات كهذه” جاء بعد حادث قصف مستشفى المعمداني من جانب القوات الإسرائيلية.

وكيله رامي عباس، بالإضافة لدعمه السابق لدونالد ترامب وتجنبه النشر عن الأحداث الحالية في فلسطين تماماً، وعمله لتجنب لصلاح التعليق على أحداث حي الشيخ جراح من قبل، شملت قائمة المنشورات التي أعجبته على تويتر تغريدة تبنت الرواية الإسرائيلية لقصف المستشفى المعمداني.

جاء ما سبق في خبر نشره موقع “ليفربول إكو” (Liverpool Echo) في تغطية لبيان محمد صلاح، أشار في متنه إلى المزاعم الإسرائيلية أن صاروخا لحركة الجهاد هو ما دمَّر المستشفى، قبل أن يحذف الموقع هذا الادعاء لاحقا.

نجح عباس في دفع محمد صلاح إلى فئة هي الأعلى أجرا بين الرياضيين العالميين، لكن عقود الرعاية الضخمة و”الرائعة جدا”، كما يرى الكاتب مصطفى معروف في تحقيقه، رامي عباس وشبكة الرعاة.. كيف يؤثر محيط صلاح على قراراته؟ تتبنى أيضا قيماً واتجاهات سياسية وثقافية قد لا تتفق مع مواقفـ(نا.

نظرة سريعة على قائمة رعاة صلاح تجعلك تدرك المشكلة؛ فمنذ عام واحد تقريبا، وبعد تصريحات مغني الراب الشهير “كانيي وِست” الشهير بـ”يي” (Ye) ضد اليهود، تعرضت “أديداس”، (التي كانت في شراكة مع وِست بعقد تبلغ قيمته عدة مئات من ملايين الدولارات لإنتاج أحذية “ييزي” (Yeezy) الشهيرة)، إلى حملة ابتزاز علنية تربط الشركة بتاريخها في الحقبة النازية، وتتهمها بمعاداة السامية، وطالبتها جماعات مثل “رابطة معاداة التشهير” أو (Anti-Defamation League)، بإنهاء التعاقد فورا مع وِست.

اتخذت أديداس قرار إنهاء التعاقد في نهاية المطاف، الذي كلَّفها مئات الملايين؛ أولا لأن وِست فاز بالقضية في المحكمة، وأصبحت “أديداس” مطالبة بمنحه نسبته من الأرباح، وثانيا لأنها اضطُرت للتبرع بكل أرباحها الشخصية من الأحذية إلى منظمات وجماعات “معاداة الكراهية” كما يُطلق عليها.

هذا هو حجم القيود التي تصحب عقود الرعاية الضخمة، والتي تأتي بالضرورة موافقة للتوجهات السياسية للشركات الراعية، التي ليست كيانات محايدة على ما يبدو لأول وهلة.

 باختصار؛ لا يوجد عقد رعاية ضخم جدا و”رائع جدا” لا يرتبط بعلاقة تجارية ما مع إسرائيل، كحالة فودافون، وبيبسي وDHL، وليس مستبعدا أن عقود صلاح مع الرعاة تضمنت شروطا واضحةً فيما يخص “معاداة الساميّة”، أو على الأقل، تحوي ثغرات قانونية يمكن توظيفها بما يضر صلاح إذا كانت له مواقف واضحة تجاه القضية الفلسطينية، أو غيرها.

ما سبق يعني أن صلاح وفريقه الإعلامي والقانوني، متضمناً عباس نفسه، والكلام مازال لمصطفى معروف، قضوا وقتا لا بأس به لتحضير ردة الفعل المناسبة للمجزرة الحالية، أو حملة استيطان حي الشيخ جراح قبلها، لكي يتجنبوا ردة الفعل القانونية والإعلامية المتوقعة.

ثلاث “منطلقات أيديولوجية” للدفاع عن محمد صلاح

لم يعد صلاح هو المسألة إذن، لكن ما أثاره من مناقشات حول قيم التفكير في واقعنا ومساراته بعد حرب السابع من أكتوبر وما تلاها من انتهاكات، مسألة تستحق التأمل. يمكن رصد الدفاع عن محمد صلاح، من قبل ثلاثة منطلقات “أيديولوجية” تحافظ على أنه في نهاية المطاف مجرد لاعب كرة قدم لا يمكن تحميله أكثر مما ينبغي.

“العلمانيّة التنويريّة”

أولى تلك الدفاعات “علمانية” الطابع وبعضها “تنويرية” كما يحلوا لأصحابها تسمية أنفسهم، ويظهر ضمنها صلاح كمقابل لنموذج أبو تريكة المتدين، والذي يحظى بشعبية لدى القطاعات الإسلامية، وجماعة الإخوان المسلمين.

منطلق هذا الدفاع المستميت هو قيم الحضارة الغربية، بعد الردة التي أحدثتها حرب السابع من أكتوبر، من تشكيك في معايير الغرب و”نفاقها”، خاصة بعد استغلال الإسلاميين والدولجية لاحقاً هذا الانتقاد، لتأكيد تفوق قيم رجعية، تتقاطع هذه “العلمانيّة” مع رؤية من يدينون هجمات حماس على إسرائيل، لأن حماس في النهاية جماعة إسلامية.

“الفردية النيوليبراليّة”

النوع الثاني من الدفاع عن صلاح، يتمثل بأبناء القيم الفردية والنيوليبرالية، التي ترى النجاح الفردي كعقيدة واضحة، بعض من هؤلاء تتقاطع رؤيتهم مع من يؤيدون الرئيس رغم ديكتاتوريته، لا لشيء إلا لكونه منتصراً، وتتقاطع أيضا مع من يؤيدون سرا أو علانية دولة إسرائيل نفسها لكونها القوة المنتصرة.

يظهر هنا النجاح الفردي وحده، كعقيدة مقدسة لا تقبل التشكيك، والمُشكك بها إما حاقد أو فاشل أو بعقلية قديمة تحتاج إلى مراجعة.

التفكير في أحداث السابع من أكتوبر يذكرنا أن مثل تلك النجاة الفردية، قد تكون متوهمة، فشبكة المصالح العالمية والإمبريالية، ترانا في المجمل “حيوانات بشرية” معاييرها الإنسانية، وقيمها الليبرالية تجاهنا مزدوجة.

كان صلاح دائما ومنذ بداية مسيرته مرتبطاً بكتب التنمية البشرية التي يقرأها، والتي تجعل النجاح مسألة إرادة فردية والفشل كذلك، والتي تؤكد أن الفقير مسؤول عن فقره أو فشله، وحده، وليس لعدم تصميم مسارات اجتماعية للنهوض بالفقير وحصوله على الحد الأدنى من خدمات الرعاية والتعليم، والتي تكفل له لاحقا الاندماج في سوق العمل وعدم توريث العمل، وهو الأصل في أعتى النظم الرأسمالية كما يقول الباحث عبده فايد.

“الدولجيّة”

النوع الثالث هو خطاب الدولجية، الذين يرفعون شعار “مصر أولا” ويهاجمون الفلسطينيين أنفسهم، لأن قضيتها حسب تصورهم، قد تورط مصر في الحرب مع إسرائيل، ولأن تلك القضية نفسها تكشف في عمقها كذب مفهوم السيادة الوطنية، خاصة بعد ضرب معبر رفح عدة مرات، والتشكك في سلطة الجانب المصري على المعبر وفشله في إدخال المساعدات إلى غزة، كما أنها قد تورط في مصر في استضافة الفلسطينيين، لذا ترتفع وتيرة الحملات العنصرية ضد المقيمين في مصر من جنسيات مختلفة.

يرى الكثير من المراقبين أن هذه الحملات العنصرّيّة ورائها جهات أمنية، تحاول تحميل أزمات السياسة والاقتصاد إلى السوريين والفلسطينيين وغيرهم من الجنسيات التي تقيم في مصر، بنقودها وتدفع مقابل الخدمات التي تحصل عليها أحيانا بشكل مضاعف، فعدد اللاجئين في مصر لا يزيد بحسب تقرير الأمم المتحدة عن نصف مليون لاجئ، لا تسعة ملايين لاجئ، كما يحلو للحكومة الخلط بينهم وبين المهاجرين.

صلاح و”فنّ اللامبالاة”

نموذج صلاح الصاعد من كتاب “فن اللامبالاة” وكتب التنمية البشرية عن تحقيق الأحلام الفردية، هو نفس خطاب أغاني الراب المصرية التي اشتهر بها مغنيون راب كويجز ورفاقه، بحسب ملاحظة الباحث محمد نعيم.

هذا الخطاب صار سائدا في مصر، حيث يرى الآخر وانتقاداته كعدو ومنافس أو كعائق يهدد الذات، ومواجهته تكون بالترفع في عبارات تحط منه لدرجة تجعله غير مرئي، بينما تعلي من شأن ذات عملاقة وخارقة.

على رغم ذلك، فإن ويجز، مطرب الراب والذي بدأ مسيرة حقيقة نحو العالمية، لم يفكر مرتين في دعمه لغزة، على رغم أن ذلك يهدد على نحو مباشر تلك المسيرة، وكذلك باسم يوسف، فضلا عن عشرات الفنانين العالميين من هوليود وأوروبا. 

صارت العلاقة المعقدة بين الجمهور المصري والجيل الحالي من لاعبي منتخب مصر الذي يمثله في آخر 6 سنوات، على عكس العلاقة المتينة المعروفة بين الجمهور المصري والأجيال السابقة من لاعبي المنتخب.

يمكن ملاحظة ضعف الحماس في التشجيع، لا بسبب ضعف الأداء فقط، بل سبب المواقف السياسية والاجتماعية للمنتخب، مثل موقف اللاعبين وأبرزهم محمد صلاح في الدفاع عن اللاعب المتحرش عمرو وردة، وما أعقب ذلك من أداءات بعض اللاعبين في الملعب التي تتحدى وتهاجم الجماهير، ثم الموقف الضعيف لمحمد صلاح من غزة طمعا في الفوز بالكرة الذهبية، وشعور بعض الجماهير أن هذا الجيل لا يمثلهم قدر ما يمثل نفسه.

يرتبط الأمر أيضا، بحرمان الجماهير من الفضاء العام، فهذا الجيل من اللاعبين المحليين، منذ عام 2012، لم يلعب أمام جماهير، عقب الأمر الأمني الذي منع تواجد الجماهير لأكثر من عقد، ما خلق أجيالا لا تعرف معنى احترام هؤلاء المشجعين.

عام 2019، وأثناء كأس الأمم الأفريقية الذي استضافته مصر، كان رد فعل محمد صلاح واللاعبين على تلك الانتقادات هو “التكشير” في وجه الجمهور بعناد وهجوم لا يكترث، إذ ظهرت لقطات تعامل فيها اللاعبون مع جمهورهم كـ”عدو” في البطولة التي خرجوا منها من دور الستة عشر، عن استحقاق وجدارة.

مع أول هدف وأداء مؤثر لصلاح مع المنتخب، سننسى كجماهير عاطفيين ومشجعين للعبة كل هذا النقاش، لكن أثره سيظل حاضرا وكاشفا لمسارات الواقع، فالعالم قبل السابع من أكتوبر بالنسبة للبعض ما زال كحاله، في حين أنه تغير كلياً بالنسبة للكثيرين.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.