عن الإمبريالية وأولويات التقدّميين في العالم اليوم / الطاهر المعز
الطاهر المعز ( تونس ) – الخميس 8/2/2024 م …
أنتج الإنسان سِلَعًا، وباع أو قايَضَ الفائض عن حاجته منها سواء في المجتمعات العبودية أوالإقطاعية، أي قبل الرأسمالية، وهي مرحلة من التطور الاجتماعي البشري حيث يكون إنتاج السلع هو الشكل السائد للإنتاج، خضوصًا منذ مرحلة الاحتكار، لما أصبح الإنتاج الرأسمالي يميل نحو التركيز والاحتكار في معظم مناطق العالم، وتُؤَدِّي الرغبة في التّوسُّع والإنتشار إلى التنافس وظهور التناقضات بين مختلف الشركات والدّوَل من أجل السيطرة الاحتكارية على الاقتصاد العالمي وعلى الموارد والمواد الأولية والمَمَرّات التجارية والمواقع الإستراتيجية، لذلك تم حل التناقضات أحيانًا بالحُرُوب، عندما لا تتمكّن الإمبريالية من تقاسم مناطق النّفُوذ.
أدّت الحرب العالمية الثانية إلى إنهاك القوى الإمبريالية التقليدية (أوروبا واليابان) وإلى بروز الإتحاد السوفييتي كقوة ساهمت بنسبة كبيرة في هزيمة النّازية وتحرير أوروبا التي لم تعد قادرة على قيادة الصف الإمبريالي فبقيت تحت المظلة الأمريكية التي عزّزت مركزها الإقتصادي (من خلال نهب احتياطي الذهب من أوروبا ) والعسكري والصناعي، خلافًا لأوروبا التي دَمَّر الجيش الألماني وكذلك الجيش الأمريكي بنيتها التحتية وشبكة الصناعات بها، وسارعت الإمبريالية الأمريكية إلى تنفيذ “خِطّة مارْشال” وإعادة إعمار أوروبا الغربية من خلال قُرُوض ضخمة وتقسيم ألمانيا ومحاربة الأحزاب الشيوعية التي حَرّرت إيطاليا واليونان وفرنسا، وإلى نشر القواعد العسكرية في أوروبا الغربية واليابان وأستراليا وغيرها، قبل شن سلسلة من الحروب الاستعمارية الجديدة ضد حركات التّحرر الوطني في كوريا والكونغو وأندونيسيا وماليزيا وجنوب شرقي آسيا (فيتنام) وأنغولا وغيرها.
عندما احتدّ الصراع خلال العقود الثلاثة الأخيرة لم تتردّد القوى المُهَيْمِنَة على الإقتصاد الرأسمالي الاحتكاري العالمي – بزعامة الإمبريالية الأمريكية – في استخدام القوة المالية ( الدّولار والعقوبات والحَظْر) والتكنولوجية والعسكرية ( الحصار ) لضمان زيادة أرباح الشركات الكبرى ولاستمرار الهيمنة ولقمع العُمّال والفقراء في الدّاخل والشعوب المُضْطَهَدَة في الخارج، وترسيخ الإستغلال وعدم المُساواة واضطهاد الأُمَم والشُّعُوب التي تفتقر إلى القوة الإقتصادية (بفعل الهيمنة الخارجية على مواردها ) والمالية والعسكرية والتكنولوجية
عسكَرَة السياسة الخارجية الأمريكية
أكبر مناورة حربية ضد روسيا
في أوروبا، أعلن الجنرال الأمريكي “كريستوفر كافولي”، القائد الأعلى لقوات الناتو في أوروبا،عن أكبر مناورة لحلف شمال الأطلسي (الناتو) منذ عقود، “بعنوان “المُدافع الصّامد – 2024” ( Steadfast defender – 2024 ) تجري في أوروبا طيلة أربعة أشهر، في الفترة من نهاية كانون الثاني/يناير وحتى نهاية أيار/مايو 2024، بمشاركة تسعين ألف جندي من 31 دولة في حلف شمال الأطلسي بالإضافة إلى السويد، قبل انضمامها الرسمي إلى الحلف، وتستخدم المناورات ما لا يقل عن 80 طائرة مقاتلة وطائرات مروحية وطائرات بدون طيار و50 سفينة حربية بينها حاملات طائرات و1100 دبابة ومركبات قتالية أخرى، بهدف “اختبار وتحسين استراتيجية الحرب وتعزيز القدرات العسكرية لمنطقة أوروبا ضد روسيا“، وتم اختيار إيطاليا لتكون المقر الرئيسي للمناورات ولتنفيذ مجموعة من المهام التي تتطلب الإنتشار السريع للقوات من إيطاليا إلى بولندا القريبة من روسيا، وسوف يتم استخدام الأسلحة القادرة على حمل رؤوس نووية من طائرات وسفن وأنظمة الصواريخ، لتتمكن الولايات المتحدة من اختبار الأسلحة النووية الجديدة التي تنشرها في أوروبا على مقربة متزايدة من روسيا…
لا يقتصر الإستفزاز الأمريكي على قارة أوروبا، بل يتحدّاه إلى غربي آسيا وآسيا الوسطى.
في إفريقيا، تُحاول الولايات المتحدة عرقلة التّأثير المتزايد لخصومها ومنافسيها (الصين وروسيا) ونشرت قناة “فرنسا 24” تحقيقًا وصف زيارة وزير الخارجية الأمريكي “أنتوني بلينكن” لأفريقيا (الرأس الأخضر وساحل العاج ونيجيريا وأنغولا ) بأنها خطوة لمواجهة النفوذ الصيني والروسي، بعد الهزائم التي تعرضت لها فرنسا في مستعمراتها السابقة وتقارب الأنظمة العسكرية الجديدة في مالي وبوركينا فاسو والنيجر مع روسيا، في مجالات عديدة، ومنها المجال العسكري، بينما يقوم الرئيس الانتقالي لتشاد (ابن الرئيس السابق إدريس دبي)، الحليف المُقرب “للغرب” بزيارة رسمية إلى روسيا، في حين أصبحت مجموعة “بريكس” التي تدعو إلى “عالم متعدد الأقطاب” (بدل عالم ذي قطب واحد تقوده الولايات المتحدة) تضم ثلاث دول أفريقية كبرى (جنوب أفريقيا ومصر والحبشة) من إجمالي عشر دول، ويمكن تبرير هذا التحول بعجز الإمبريالية الأمريكية والأوروبية عن تقديم أي شيء للدّول الإفريقية، فقد انخفض حجم التجارة بين الولايات المتحدة وقارة إفريقيا من 142 مليار دولار من التجارة سنة 2008 إلى 64 مليار دولار سنة 2021، لأن الولايات المتحدة لم تعد تستورد المحروقات من نيجيريا والجزائر، فيما بلغ حجم تجارة إفريقيا مع الصين ما يعادل 300 مليار دولار، وحجم التجارة بين روسيا وإفريقيا 23 مليار دولار تقريبًا بين كانون الثاني/يناير وتشرين الثاني/نوفمبر 2023، ويتوقع أن يرتفع حجمها بنسبة 30% سنة 2024، ولذا لم تتمكن الولايات المتحدة ولا دول الإتحاد الأوروبي من التنافس اقتصاديًا مع الصين ومع روسيا في قارة إفريقيا…
حرب تكنولوجية
لمّا أصبحت الصّين تُنافس الشركات العابرة للقارات – ذات المنشأ الأمريكي – في مجالات الطاقات المتجدّدة والإتصالات والتكنولوجيا بشكل عام، حاربتها الولايات المتحدة وحلفاؤها في أوروبا واليابان، فتعدّدت الإجراءات لخنق أو عرقلة الثورة التكنولوجية الصينية، من خلال العقوبات وحَظْر دخول إنتاج شركات التقنية الصينية الكبيرة الأسواق الأمريكية والأوروبية، ومنها الألواح الشمسية وإنتاج شركات الهواتف ومعدات الإتصالات، مثل هواوي وزد تي إي، وأضيفت لها قُيُود جديدة، سنة 2023، على أشباه الإتصالات ورقائق “الذكاء الاصطناعي” التي تمكّنتالشركات الأمريكية من تطويرها رغم الحصار والحَظْر، وأجبرت السلطات الأمريكية الشركات الأمريكية المتخصصة في تطبيقات “الذّكاء الإصطناعي”، والشركات المتعاملة معها، منذ بداية العام 2024، مثل شركة ( ASML ) الهولندية المتخصصة في صنع الرقائق، على عدم تصدير وبيع بعض أنواع آلات تصنيع الرقائق للشركات الصينية، بذريعة “استفادة الشركات الصينية من المُساعدات الحكومية لزيادة الطاقة الإنتاجية لصناعة الرّقائق التي يُتوقّع أن تنمُو بنسبة 60% خلال السنوات الثلاث المقبلة، وقد تتضاعف خلال السنوات الخمس المقبلة، ما قد يُؤَدِّي إلى إغراق الأسواق العالمية بالرقائق الصينية، وخفض الأسعار، وفق صحيفة “فاينانشال تايمز” (بريطانيا) التي أكّدت على تخوفات حكومات الولايات المتحدة واليابان وأوروبا والشركات “الغربية” من انخفاض الأسعار وانخفاض الأرباح، كما حصل في مجال الألواح الشّمسية، حيث لجأت الحكومات التي تدافع عن “حرية التجارة والأسواق” إلى الحد من وصول الشركات الصينية إلى الأسواق الدّولية، غير إن شركة “هواوي” الصينية للإتصالات والهواتف “الذّكية” التي حاولت الولايات المتحدة القضاء عليها لما منعت تداول ابتكاراتها من فئة الجيل الخامس ( G5 ) تمكّنت من الإلتفاف على الحظر الأمريكي/الأوروبي ومن تجاوز الشركات الأمريكية والأوروبية واليابانية وهي بصدد تطوير تقنيات صناعة الرقائق مثل تقنية التصنيع باستخدام أشعة الليزر أو النانو تكنولوجي، وتجاوزت الصناعة الأوروبية التي تعتزم استثمار 43 مليار يورو في مجال إنتاج الرقائق الإلكترونية…
يُتَوَقَّعُ أن تتمكّن الشركات الصينية من الوصول والاستفادة من القوة الحاسوبية لرقائق “الذكاء الاصطناعي المتطور”، التي تم منعها سابقًا من شرائها، وأن تستفيد منه لتحقيق تقدم اقتصادي وعسكري، بعدما تمكنت من تطوير الأجهزة الكهربائية والهواتف المحمولة والسيارات والطائرات وشبكات الاتصالات، ومراكز البيانات والحواسيب وأجهزة الإنتاج في المصانع، وأنظمة التسلح والصواريخ والأسلحة النووية…
تغييرات عالمية بآفاق محدودة
تُشكل الإمبريالية مرحلة من تطور الرأسمالية تميزت بهيمنة الشركات الإحتكارية ورأس المال المالي ( المصارف وشركات التأمين وصناديق التّحوّط والمؤسسات المالية) التي توسّعت خارج الحدود الوطنية بحثًا عن مواد أولية وموارد خام، وغزو أسواق جديدة لتسويق إنتاجها ولا تزال الإمبريالية تُهيمن على الإقتصاد العالمي من خلال استخدام القوة العسكرية والقوة المالية (الإستثمارات والقُرُوض) وقوة الإعلام والدّعاية، واحتكار الصناعات الإستراتيجية كالصناعات الغذائية والأدوية والتكنولوجيا ومنظومة الإتصالات والتحويلات المالية، ولا تتردّد الإمبريالية بزعامة الولايات المتحدة وشركاتها الإحتكارية في التّدخّل عسكريًّا للحفاظ على هيمنتها في أي مكان من العالم…
بدأت الهيمنة الأمريكية على العالم خلال الحرب العالمية الثانية التي دَمّرت العديد من مناطق العالم في القارات الأخرى، فيما بقيت أمريكا سالمة، وأنشأت الولايات المتحدة مع بريطانيا منذ بداية الحرب شراكات عسكرية واستخباراتية، وصمّمت نظام هيمنة اقتصادية ومالية قبل نهاية الحرب من خلال ربط سعر الدّولار بالذهب وتأسيس صندوق النقد الدّولي والبنك العالمي ومنظمة التجارة العالمية سنة 1944 (تغيرت التسمية وبقي الجوهر) قبل ميلاد حلف شمال الأطلسي سنة 1949 وحرب كوريا سنة 1953 وبدأ التخطيط الرأسمالي المشترك للإمبريالية من خلال مؤتمر بيلدربيرغ (1953) ومؤتمر دافوس (1971) ومجموعة السبع (1974) وغيرها من التشكيلات التي تُخطّ لاستمرار وتأبيد الهيمنة على موارد العالم وعلى الممرات التّجارية والمواقع الإستراتيجية، من خلال نشر أكثر من ثمانمائة قاعدة عسكرية أمريكية حول العالم، فضلا عن قواعد حلف شمال الأطلسي وقواعد المحميات مثل الكيان الصهيوني أو تايوان، وتعول الإمبريالية الأمريكية على القوة العسكرية كأحد أهم أدوات الهيمنة، ويظهر ذلك من خلال ضخامة الإنفاق العسكري للولايات المتحدة وحلفائها الذي يمثل نحو 74,3% من إجمالي الإنفاق العسكري العالمي وكُلّما ارتفع الإنفاق العسكري انخفض الإنفاق الإجتماعي في الدّاخل، وارتفعت التهديدات الأمريكية في الخارج واستبدلت الولايات المتحدة الدّبلوماسية بالتّدخل العسكري (أو عَسْكَرَة السياسة الخارجية) للحفاظ على السيطرة، غير إن تَسارع عملية تحول الصين نحو الرأسمالية أدّى إلى تجاوز حصتها من الإنتاج الصناعي العالمي حصة الولايات المتحدة منذ سنة 2004،
ومنذ ثلاثة عقود أصبحت الصين مُصَدِّرًا صافيًا لرأس المال، وتمكّنت الصين بفضل هذه الأموال الفائضة (ومصدرها الإستغلال الفاحش للطبقة العاملة في الصين وفي إفريقيا وآسيا) من إقراض الدول الفقيرة ومن تمويل المشاريع الضخمة مثل مبادرة الحزام والطريق، منذ 2013، كمحاولة للإلتفاف على الحصار الذي أعلنه الرئيس الأمريكي باراك أوباما ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون سنة 2012، كما أنشأت الصين أو ساهمت في إنشاء منظمة شنغهاي للتعاون (2001)، ومجموعة بريكس (2009)، ومجموعة الدفاع عن ميثاق الأمم المتحدة (2021) وهي منظمات لا تتجاوز المنطق الرأسمالي ولكن تدعو إلى “عالم متعدد الأقطاب” بدل عالم القطب الواحد الذي تهيمن عليه الإمبريالية الأمريكية، والدّعوة إلى التّخلِّي عن استخدام الدّولار في المبادلات التجارية واستبداله باستخدام العملات المحلية.
تتسم حقبة الإمبريالية بتصدير رأس المال والاستغلال المفرط لموارد العالم وإعادة الأرباح الضخمة التي تم الحصول عليها بنهب موارد البلدان الفقيرة إلى البلدان الإمبريالية، ورشوة عمال هذه البلدان الرأسمالية المتطورة من أجل السلام الاجتماعي من خلال منحهم بعض الفتات الذي يتلقونه من هذه الأرباح الضخمة، ومن خلال توريد سلع رخيصة تم إنتاجها من قِبَلِ فقراء العالم، ليتمكّن عُمّال وفقراء الدّول الصناعية الإمبريالية من العيش وبذلك تتجنب الرأسمالية الإحتكارية الثورة في بلدانها الأصلية…
لا تُشكّل هذه الخطوات أو تأسيس منظمة شنغهاي للتعاون، ومجموعة بريكس ومصرف التنمية لبلدان الجنوب، ومجموعة الدفاع عن ميثاق الأمم المتحدة وغيرها بديلا للطبقة العاملة وللكادحين والشعوب المُضْطَهَدَة، لأنها تفتقد إلى أُطُر ومنظمات تجمعها كطبقة أو شعوب مُسْتَعْمَرَة ومُضْطَهَدَة، وأدّى غياب المنظمات الهادفة إلى تغيير طبيعة الإقتصاد والمجتمع، كالمنظمات الإشتراكية إلى انتشار ظاهرة تحويل اليسار إلى منظمات غير حكومية، تتمثل مهمتها الرئيسية في تدوير أو غسيل أو تنظيف الرأسمالية وإعادة صياغة الخطاب الدّعائي (الإشهاري) من خلال ابتكار مفاهيم وطرق عمل جديدة باسم “الشفافية والحَوْكَمَة والمُساواة…” وتحميل المواطن الفرد مسؤولية التّلوث وتغير المناخ، وبذلك يتم الإلتفاف على الفوارق الطبقية وتحويل وجهة الغضب لِتَتَراجَعَ فكرة الثورة وتحل محلها فكرة “المعارضة” ضمن مؤسسات وآليات الدولة البرجوازية الإمبريالية منها أو الكُمبرادورية، بدل التّصدِّي للعدوان الإمبريالي والصّهيوني وبدل دعم الحركات المطلبية للطبقة العاملة وللكادحين والإرتقاء بالوعي من الغضب والتّمرّد إلى الثورة…
التعليقات مغلقة.