زيلينسكي يُسقط جنراله.. لكنّ طريقه “مسدودٌ” / سميح صعب

سميح صعب ( لبنان ) – الأحد 11/2/2024 م …



هم ثلاثة جنرالات أوكرانيين يُعزى إليهم الفضل في صد الغزو الروسي في 24 شباط/فبراير 2022: رئيس الأركان فاليري زالوجني، قائد القوات البرية أولكسندر سيرسكي ورئيس الإستخبارات العسكرية كيريلو بودانوف.

على أعتاب بداية السنة الثالثة للحرب الروسية الأوكرانية، تخلّص الرئيس فولوديمير زيلينسكي من فاليري زالوجني، أحد أضلاع المثلث العسكري، بعد اختلاف في الرؤية حول الطريقة التي يتعين من خلالها مواصلة القتال. وإذا كان هذا هو العنوان العريض الذي إختلف عليه الرجلان، لا يجدر أبداً إغفال الظروف المحيطة بهذه الخطوة التي أحدثت أولى التشققات في جدار الوحدة السياسية-العسكرية الداخلية في أوكرانيا، للمرة الأولى منذ بداية الحرب.

طفت الخلافات على سطح العلاقة بين الرئيس والجنرال، فوراً عقب مقابلة صحافية في الخريف الماضي أدلى بها زالوجني لمجلة “الإيكونوميست” البريطانية، وفيها قال بلا لبس وبجلاء، إن الجبهات الممتدة بطول نحو ألف كيلومتر قد وصلت إلى “طريق مسدود”، وذلك عقب فشل الهجوم الأوكراني المضاد، الصيف الماضي، والذي انتهى إلى نتائج أكثر من متواضعة، لا تتناسب في أي حال من الأحوال مع حجم الخسائر البشرية كما في العتاد الذي تكبّدته ألوية في الجيش تلقّت تدريباً على مدى أشهر في المعسكرات الغربية وجُهّزت بأحدث الدبابات الألمانية والبريطانية.

كلام زالوجني لم ينزل برداً وسلاماً على قلب زيلينسكي الذي سارع إلى نفي وجود “طريق مسدود” على الجبهات، وأحال المشككين بامكان إحراز نصر على روسيا إلى “الإنجازات” التي حقّقتها أوكرانيا في البحر الأسود، حيث نجحت في تحييد الأسطول الروسي، وشقّ ممر ملاحي لتصدير الحبوب الأوكرانية. وتُشكّل ضربات المسيّرات الأوكرانية إلى حد كبير عاملاً مقلقاً لروسيا من شبه جزيرة القرم إلى موسكو وهي تُوجّه ضربات موجعة إلى البنى التحتية الروسية وبينها مصاف مهمة للنفط، كما أن الإستخبارات الأوكرانية تنشط في عمليات أمنية وتفجيرات في مناطق روسية مختلفة. ووفقاً لزيلينسكي، فإن ما يعوز أوكرانيا لسد الفجوة، هو التوازن في الجو، ومقاتلات “إف-16” الأميركية التي وعد بها الشركاء القيادة في كييف.. وتالياً ما هي إلا أشهر قليلة حتى تستطيع البلاد شنّ هجوم مضاد آخر.

إن تغيير زالوجني في هذا الوقت العصيب الذي تمر به أوكرانيا تحت عنوان “التجديد في القوات المسلحة”، يؤشر إلى أن الصراع السياسي المكتوم في أوكرانيا، بدأ يتكشف إلى العلن، وبأن زيلينسكي الذي أعطى انطباعاً في أول الحرب، بأنه لا يطلب شيئاً لنفسه، قرّر أن يتخلص من الشخص الذي يُشكّل أكبر منافس له

أما زالوجني فقد اتخذ نظرة أكثر واقعية لتوازن القوى مع روسيا، وأقرّ بأن أوكرانيا بعد فترة لن تجد شباناً لتجنيدهم، بسبب الخسائر البشرية التي تكبّدتها، وبسبب عدم امتلاكها الموارد اللازمة لتعبئة جديدة يعتزم زيلينسكي الإعلان عنها قريباً، وأن تحقيق النصر التام على موسكو يتطلب من أوكرانيا حيازة تفوق لا يُجارى في ميدان التكنولوجيا.

تزامن هذا الجدل مع تعثر الكونغرس الأميركي في تمرير صفقة المساعدات التي طلبها الرئيس جو بايدن والبالغة 61 مليار دولار لأوكرانيا، بسبب رفضها من قبل الجمهوريين الذين يصرون على أن أمن الحدود الجنوبية للولايات المتحدة أولى من المضي في ضخ الأموال في حرب لا نهاية لها في الأفق. وتحوّلت المساعدة لأوكرانيا مادة جدلٍ رئيسية في الحملات للانتخابات الرئاسية الأميركية، مع إصرار الرئيس السابق دونالد ترامب على إعادة النظر في المساعدات والدعوة إلى تسوية سياسية يرى نفسه الوحيد القادر على إبرامها “في غضون 24 ساعة” حال عودته إلى البيت الأبيض، وهي عودة تؤرق زيلينسكي وفريقه منذ الآن.

على أنه لا يمكن استبعاد أن تكون الدوافع الشخصية قد لعبت هي الأخرى دوراً كبيراً في تعميق الجفاء بين الرئيس وجنراله. فمن المعلوم أن زالوجني تحوّل خلال الحرب إلى أيقونة وبطل قومي لدى الغالبية الساحقة من الأوكرانيين، ويحظى أيضاً بشعبية واسعة في صفوف الجنود، وأيضاً لدى نظرائه في الدول الداعمة لكييف. وبحسب استطلاعات الرأي الداخلية والخارجية تصل نسبة التأييد لزالوجني إلى 90 في المائة في مقابل 77 في المائة لزيلينسكي.

ومع الإستقرار النسبي في الجبهات، بدأت السياسة الداخلية تتحرك، ولم يعد توجيه الانتقادات لحكم زيلينسكي من المحرمات. وكسر الرئيس السابق بيترو بوروشنكو حاجز الصمت، بتحذيره من أخذ البلاد نحو الحكم الإستبدادي، ورأى أن زالوجني “أضحى رمزاً للوحدة الوطينة”، وأن المساس به “يُشكّل مساساً بهذه الوحدة”.

فهل استشعر زيلينسكي أن زالوجني صار واجهة لتيار واسع يمتلك رؤية مختلفة لمستقبل أوكرانيا؟ الجنرال المُقال يعتقد أنه في بلد يسعى للالتحاق بالمعسكر الغربي، يتعين تقديم أهمية الإنسان على أهمية الأرض. ربما لمس زيلينسكي أن خلف هذه الفرضية تقبع رؤية أخرى مؤيدة لإنهاء الحرب مع روسيا من طريق التنازل عن بعض الأراضي، الأمر الذي يرفضه زيلينسكي رفضاً مطلقاً ويتمسك باستعادة كل شبر من الأراضي التي سيطرت عليها روسيا.

ويتعزّز هذا المنحى، مع اختيار زيلينسكي لقائد القوات البرية الجنرال أولكسندر سيرسكي لخلافة زالوجني. ذلك، أنه معروف عن القائد الجديد مجازفته بخسارة أعداد كبيرة من الجنود في أرض المعركة من أجل تحقيق المكاسب. وهو لعب دوراً في الإنتصارات السريعة على القوات الروسية في خاركيف وخيرسون.

أما في وضع باتت تعاني فيه أوكرانيا من نقص حاد في المجندين وفي الذخائر وانتقال روسيا إلى الهجوم في بعض مناطق الشرق وفي منطقة خاركيف، ومن تراجع الدعم الأميركي، يبرز تساؤل حول مدى قدرة سيرسكي على المخاطرة بأرواح الجنود في المعارك المقبلة. وإذا كان زيلينسكي تنفس الصعداء مع إقرار الإتحاد الأوروبي الأسبوع الماضي مساعدة مالية لأوكرانيا بـ50 مليار يورو مجدولة على سنوات، فإن تجنيد مئات الآلاف من الأوكرانيين وتجهيزهم بالعتاد اللازم، يستلزم سنوات من الإعداد والتحضير. وتحوطاً لانقطاع المساعدات الغربية، يستعد زيلينسكي وفريقه لإطلاق مشاريع للصناعات العسكرية المحلية.

ولا يُبارح زيلينسكي، التصميم على مسألة طرد القوات الروسية من كامل الأراضي الأوكرانية بما فيها شبه جزيرة القرم، برغم أن هذه الفرضية لم تعد تجد دعماً كافياً في الدول الأوروبية، حكومات وشعوباً، والتعاطف الذي برز في أول الحرب، آخذ بالتلاشي مع اضطرار المواطنين في ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وبولندا وغيرها من دول الإتحاد الأوروبي وبريطانيا إلى دفع ثمن فاتورة الحرب. وتتجلى النقمة في الغرب في الصعود الصاروخي لأحزاب اليمين المتطرف على خلفية الأزمات الاقتصادية المتلاحقة.

الجنرال المُقال يعتقد أنه في بلد يسعى للالتحاق بالمعسكر الغربي، يتعين تقديم أهمية الإنسان على أهمية الأرض. ربما لمس زيلينسكي أن خلف هذه الفرضية تقبع رؤية أخرى مؤيدة لإنهاء الحرب مع روسيا من طريق التنازل عن بعض الأراضي، الأمر الذي يرفضه زيلينسكي رفضاً مطلقاً

وكثير من عناصر رؤية زيلينسكي، تتوقف على تبعات يُمكن أن تنجم عن قراره بالإستغناء عن زالوجني في الداخل الأوكراني، فضلاً عن مصير المساعدة الأميركية التي تبقى حتى إشعار آخر، هي السند الأساسي لصمود أوكرانيا. وفي حال تمكن بايدن من التغلب على العقبات في الكونغرس والذهاب إلى خيارات أخرى لتقديم الدعم لكييف مثل مصادرة ودائع البنك المركزي الروسي البالغة 300 مليار دولار ووضعها في تصرف كييف، فإن مثل هذه الخطوة، على المخاطر المترتبة عليها، تبقى حلاً مؤقتاً قابلاً لإعادة النظر، في حال عاد ترامب إلى البيت الأبيض.

إن تغيير زالوجني في هذا الوقت العصيب الذي تمر به أوكرانيا تحت عنوان “التجديد في القوات المسلحة”، يؤشر إلى أن الصراع السياسي المكتوم في أوكرانيا، بدأ يتكشف إلى العلن، وبأن زيلينسكي الذي أعطى انطباعاً في أول الحرب، بأنه لا يطلب شيئاً لنفسه، قرّر أن يتخلص من الشخص الذي يُشكّل أكبر منافس له.

إن إعفاء زالوجني كان الجزء الأسهل من الصراع على السلطة، وينبغي من الآن فصاعداً مراقبة الإرتدادات. فلنرَ.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.