أعطني ولا تطلب مني / حيدر حسين سويري
حيدر حسين سويري ( العراق ) – الأحد 11/2/2024 م …
ظاهرة غير صحية، مذمومة ومنبوذة، لكنها انتشرت في السنوات الأخيرة، في مجتمعنا العراقي، ولعلها موجودة في بقية المجتمعات أيضاً، الا وهي ظاهرة (استلاف الحاجات والاشياء وحتى الأموال من الاخرين، وعدم ارجاعها لهم الا بعد المطالبة الملحة)، لماذا؟
تبدأ المسألة بطلب مفك او أية أداة لقضاء حاجة منزلية، لكن الطالب لا يقوم بإرجاعها، فإن تذكر صاحب الحاجة في نفس اليوم، قيل بأن طالب الحاجة خرج ولا ندري اين وضعها، وبعد يوم او يومين قد ينسى طالب الحاجة حاجته، فإن تذكرها وعاود طلب ارجاعها، قيل له: ضاعت او تلفت! وإن عادت له فبعد عناء شديد.
قد يتبادر الى ذهن الجميع أن الموضوع لا يستحق (حتى صاحب الحاجة)، وأن الامر بسيط ولعل ثمن مثل هذه الحاجات زهيد، لكنها البداية صدقوني، فأنها سرقة وان كانت قليلة، فالاستيلاء على حاجات الاخرين بغير رضاهم سرقة، مهما كانت ضئيلة، باخس ثمنها، الا انها ستكون مفتاح لاستلاب أشياء أكبر.
أغلب السراق كانت بدايتهم هكذا، بمساعدة صاحب الحاجة المتهاون باستعادتها، فعلى أقل تقدير عليه عدم إعطاء طالب (سارق) الحاجات وجهاً طيباً، وعدم تسليفه اية حاجة أخرى، كي يتعظ ويمتنع عن هذا الفعل المشين.
تمادى الامر عند البعض الى عدم ارجاع الأموال المقترضة، فهذا المقترض عندما يأتي للاقتراض، يعرض حالهُ كأنه مسكين، وملاك قد اضطرتهُ الدنيا ومصائبها الى الاقتراض، وهو مستحي من هذا الفعل، وسوف يعمل جاهداً على إعادة القرض، بأسرع وقت ممكن، وما أن تمكن بعد أن تمسكن، حتى غاب ولم ترى وجهه، فان لقيته بعد بحثٍ وعناء (كما قيل: اعط بيدك واركض برجلك) وجدته شخصاً اخر، وكأنك انت المقترض وليس هو، يتكلم معك بنبره حادة وينظر اليك شزراً وتأوه وو! عجباً أهذا هو؟ فأن ضربتهُ كان كما يقول المثل: (عيد وجابه العباس النا) يقيم دعوى عشائرية عليك، ويأكل مالك، هذا إن لم تدفع فوقه؛ وإن سكت وتريثت، ظل هو على ما هو عليه وتحت شعار (اصبر علي قابل أني ناكرك)! هؤلاء (من بعض الجيران والمعارف والاقارب والأصدقاء) قطعوا سبيل المعروف …
حكاية شعبية جميلة تبين أثر قاطع سبيل المعروف، تقول الحكاية: أن ملكاً كان لهُ قاضٍ يحكم بين الناس بالعدل، وكان لهذا القاضي أخ واحد، وهو محل ثقته، وللأخ هذا زوجة، فائقة الجمال وشديدة التدين، فهي من سلالة الأنبياء، أراد الملك ان يرسل رسالة سرية، وهو لا يأتمن أحداً على سره غير القاضي، لكنهُ في نفس الوقت لا يستغني عنه، لان ارسال الرسالة يحتاج الى اشهر، فاستشار القاضي فأشار عليه بان يرسل اخاه، فلما ذهب القاضي الى أخيه يخبره، سمعت زوجة الأخ وأشارت على زوجها بعدم الذهاب، لكنه خالف رأيها ورحل، وخلال أيام سفره كان القاضي يجلب الطعام والماء لزوجة أخيه، فهي لا تخرج من الدار بأمرٍ من زوجها، فدله الشيطان بغرورٍ، فراودها القاضي عن نفسها، ولما رفضت وارادت أن تصرخ طعنها بخنجره، فأصابه الذعر والهلع ظنا منه أنها ماتت، فذهب وأخبر الملك بما حدث، فلما سمع الملك بموتها قال: انت القاضي فتصرف. عاد القاضي الى بيت أخيه، ولف الجثة بغطاءٍ وخرج بها الى الصحراء، وضعها أرضا ونادى بالناس، أن هذه المرأة زنت، فاحضروا لرجمها، فحضر الناس ورجموها، حتى إذا ما رأوا سيلان الدم غادروها والقاضي. ثم حضر راهب مع ولده الصغير وعبدٌ له، فرأوا الجثة مرمية على الارص فتحسسها الراهب فوجد فيها نفساً؛ نقلها الى ديره فاسعفها، ولما طابت وشفيت تعلق قلب الطفل بها، وصار يبقى عندها ولا يخرج مع ابيه وكأنها أمه؛ وذات مرة حضر العبد عندها، فرأى جمالها حسن صورتها فاراد ان يغتصبها فرفضت، فسحب خنجره كي يهددها ولما رآه الولد قام بقتله، وذهب الى الراهب يخبره بان السيدة قتلت ولدك، حضر الراهب فوجد ابنه مقتولاً، ولم يصدق مقالتها، لكنه كظم غيظه واعطاها 50 قطعة ذهبية وامرها بالمغادرة، لأنه قد يفقد اعصابه ويقتلها، فرحلت المرأة متجهة نحو الميناء علها تجد زوجها، فوجدت رجلاً معلقاً يُجلد وقد يموت من شدة الضرب، فقالت: ما لكم وهذا؟ قالوا: عليه أموال لنا لا يسددها، قالت: كم؟ قالوا: 50 قطعة ذهبية. فأعطتهم فانزلوه، فذهبت وجلست بعيدا، فجاءها الرجل وشكرها، ولما رأى حسنها خطرت في باله فكرة شيطانية، فقال لها: انتظريني هنا لأجلب لك بعض الطعام والشراب فانت متعبة على ما أظن، فذهب الى سفينة أحد النخاسين، وقال له: عندي جارية شديدة الحسن والجمال، ابيعك إياها. فقال النخاس: اين هي؟ فأشار اليها، فطل النخاس من سفينته فرآها، فاتفقا على السعر. فقال النخاس للرجل: اذهب واحضرها. قال الرجل: لا أستطيع، فإني إن ذهبت لعلي أُغيَر رأيي، لشدة حبي لها وتعلقي فيها، اذهب انت واحضرها، وسأذهب انا. ذهب النخاس وحاشيته اليها وامرها بالذهاب معه، فامتنعت. فقال لها: لقد اشتريتك من سيدك. فقالت: لا سيد لي الا الله تعالى. فأخذها عنوة، ولما رأى من جمال صورتها وحسن منطقها، استخلصها لنفسه، فوضعها في قاربٍ يتبع السفينة، يضع فيه أمواله ونفائسه، ولم يجعلها مع سائر ركاب السفينة، خوفا عليها؛ وما ان سارت السفينة تجر القارب، وكان هو في السفينة جاءتهم صاعقة من السماء أحرقته والسفينة، وظل القارب تقوده الأمواج، حتى رسا على جزيرة لبعض الفقراء والمساكين من صيادي البحر، فنزلت عندهم واستقبلوها استقبالاً حستاً، فاشترت منهم منزلا، ثم بدأت بتعليمهم الدين والعلوم الأخرى، ولما راوا من غزارة علمها وحسن تدبيرها وعفتها، جعلوها حاكمة عليهم، فكانت من احوالها انه اذا اذنب احدهم عاونته على رفع هذا الذنب، حتى تقول له: غفر الله عنك فاذهب. فيرى في منامه من يخبره بذلك، فذاع صيتها وانتشر خبرها حتى وصل الى الملك، فقرر الذهاب اليها لعل الله أن يغفر له سكوته عن فعل القاضي، وهكذا سمع القاضي وزوجها، ولما وصلوا عندها جعلت بينها وبنهم حجاباً مستورا، فتكلم الملك. فقالت: غفر الله لك. وهكذا القاضي وزوجها، فقالت: غفر الله لكما. وهكذا حضر عبد الراهب، فقالت: غفر الله لك. لكن المفاجئة وشاهد كلامنا أنه عندما حضر الرجل الذي انقذته وباعها، قالت: لا غفر الله لك! لأنك بفعلتك قطعت سبيل المعروف…
بقي شيء…
لا نريد لمثل هذه الظواهر، أن تغزو مجتمعاتنا الطيبة، لإن عواقبها وخيمة في الدنيا قبل الاخرة. إن كنت من أهل الحاجة فاطلبها، ولا تسرقها. كذلك ثمة حالة مشابهة (يطلبك فتعطيه، تطلبه فلا يعطيك وإن كان من فاضل حاجته!)
التعليقات مغلقة.