حركة الفلاحين في أوروبا – فرنسا نموذجًا / الطاهر المعز

الطاهر المعز ( تونس ) – الثلاثاء 13/2/2024 م …

أعرب الفلاحون بالعديد من الدول الأوروبية (ألمانيا وبلجيكا وبلغاريا وإسبانيا وفرنسا وهولندا وإيطاليا وبولندا ورومانيا وسلوفاكيا وغيرها) عن استيائها من “انخفاض الدّخل وارتفاع أسعار الوقود وتكاليف الإنتاج والمعايير البيئية والمنافسة غير العادلة…” وتمثلت مظاهر الغضب في إغلاق الطّرق ومحاصرة المباني الرّسمية وإلقاء النفايات الزراعية وروث الماشية ورزم القش أمام مقرات البلديات والمكاتب العامة وداخل مطاعم الوجبات السريعة والمحلات التجارية، غير إن فئات الفلاحين غير متجانسة، فبينما تُطالب نقابات كبار المُزارعين والمُربّين بزيادة الدّعم الأوروبي والوطني وعدم تقييد انبعاثات النيتروجين أو استخدام المبيدات، تُطالب نقابات صغار المُربِّين والمزارعين بدعم الفلاحة العُضوية وبردع شبكات التجارة الضخمة التي تفرض أسعارًا منخفضة للإنتاج (الألبان ومشتقاتها والخضار والفواكه…) الذي تبيعه بأضعاف سعره إلى المُستهلكين، وتعود جذور العديد من المشاكل إلى سنة 2019، أو حتى إلى ما قبل ذلك عندما احتج مزارعو هولندا ضد خطة الحكومة للتقليل من أعداد الماشية بذريعة خفض انبعاثات النيتروجين الملوثة إلى النصف بحلول سنة 2030، فيما أدان الفلاحون في دول أخرى منتجة للحبوب “المنافسة غير العادلة من أوكرانيا المتهمة بخفض أسعار الحبوب “




فئات الفلاحين

تَجَمَّعَ آلاف المزارعين الأوروبيين أمام مقر الاتحاد الأوروبي في بروكسل وفي ساحات وشوراع بلدانهم في اليونان وبلغاريا وألمانيا وهولندا وفرنسا وإسبانيا وإيطاليا وغيرها، للتنديد بعدم شفافية الاتحاد الأوروبي بشأن اتفاقيات التجارة الحرة الثنائية الموقعة في السنوات الأخيرة بين الاتحاد الأوروبي وأمريكا الجنوبية وأستراليا ونيوزيلندا وكندا أو اليابان، وتنص هذه الاتفاقيات على إلغاء كافة الرسوم الجمركية على عدة منتجات منها الفواكه والخضروات ولحوم الأبقار ومنتجات الألبان وغيرها، وللإحتجاج على قرار الإتحاد الأوروبي خفض قيمة الدّعم المُباشر لقطاع الفلاحة، والذي تم إقراره منذ أكثر من خمسة عُقُود في إطار مُخطّط “السياسة الفلاحية المُشتركة”، وقرر الاتحاد الأوروبي في شباط/فبراير 2023 حظر استيراد المنتجات التي تحتوي على آثار من مادة النيونيكوتينويد المحظورة في الاتحاد الأوروبي بحلول عام 2026…

لا يمثل المزارعون مجموعة متجانسة، لأن المزارعين الأثرياء يمثلون فئة رواد الأعمال ورؤساء شركات الأغذية الزراعية، وهم يريدون تصدير منتجاتهم ولكنهم يرغبون في وضع حواجز جمركية لمنع استيراد المنتجات من بلدان أخرى. إنهم ضد “تدخل الدولة” لكنهم يطالبون بإعانات مالية مُقْتَطَعة من الأموال العامة الوطنية أو الأوروبية… كما يرفض “المُقاولون الزراعيون” الحظر المفروض على المبيدات الحشرية، حتى لو كانت هذه المواد الكيماوية تشكل خطراً على صحة المزارعين والعمال الزراعيين والمستهلكين والبيئة، ويرغب كبار ملاك الأراضي في الاستمرار في استخدام مبيدات الأعشاب والمواد الكيماوية الضارة بالصحة والبيئة، وهذا الموقف هو موقف طبقي ناتج عن تطور وهيمنة الزراعة الصناعية المدمجة في التجارة الدولية والذي يدمر صغار المزارعين وجميع أشكال الإنتاج الحرفي.

يواجه صغار المزارعين مُجَمَّعَاتٍ صناعيةً تحتكر أدوات عملهم وأهمها الأرض والمياه، وكان رفع الدّعم عن أسعار الوقود الزراعي أحد أسباب إطلاق حركة التمرد، ببداية سنة 2024، وهي حركة غير متجانسة، بدأها الفلاحون الفقراء ضد زيادة أسعار الوقود، وتمكنت نقابات مصالح أغنى المزارعين (الحبوب، وكروم العنب، والماشية الصناعية، وما إلى ذلك)، وكبار ملاك الأراضي وأصحاب الأعمال الزراعية، المقربين من الحكومات الأوروبية اليمينية والذين يدافعون عن “تقليص عدد المزارعين” من الإلتفاف على هذا الحركة… 

المخطط الفلاحي الأوروبي

على الصعيد العالمي، انخفضت حصة المزارعين من سعر بيع إنتاجهم من 40% سنة 1910 إلى 7% سنة 1997، وفقًا لمنظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو)، وزاد الهامش الإجمالي للموزعين وشركات الأغذية الزراعية بنسبة 188%من 2001 إلى 2022، وزاد الهامش الإجمالي للموزعين (المتاجر الكبرى) بنسبة 64%، في حين ظل هامش الربح للمنتجين راكدًا أو انخفض، لأن المصنعين وبائعي المعدات الزراعية أو شركات البذور الصناعية وشركات التسويق ومصنعي الأغذية الزراعية الذين يشكلون المجمع الصناعي الزراعي يحرمون المزارعين من ناتج عملهم، وتقوم الدول الأوروبية والاتحاد الأوروبي بدعم الزراعة، لكن أغنى المزارعين وصناعة الأغذية الزراعية هم الذين يستفيدون من الإعانات، وفي أوروبا، تبلغ حصة المزارعين حوالي 15% (في المتوسط) من سعر المنتج ويتم توزيع نسبة 85% المتبقية بين النقل والمعالجة والبائعين، وما إلى ذلك، و أظهرت بيانات المعهد الأوروبي للإحصاء (يوروستات) لسنة 2021 إن 20% من كبار الفلاحين  الأوروبيين يستأثرون بنحو 80% من مساعدات السياسة الزراعية المشتركة الأوروبية فيما أصبح 18% من الفلاحين الأوروبيين تحت خط الفقر.

انطلقت احتجاجات الفلاحين قبل حوالي ستة أشهر من الإنتخابات الأوروبية (حزيران/يونيو 2024) اختلفت دوافع الفلاحين الأوروبيين، لكن عَبَّر فلاحو هولندا ورومانيا وألمانيا وفرنسا وغيرها عن هموم مشتركة منها ارتفاع أسعار الوقود والمنافسة الأوكرانية والقيود الأوروبية، وجمعت الإحتجاجات عشرات الآلاف من المزارعين في جميع أنحاء القارة الأوروبيّة بجراراتهم لإغلاق شوارع عدد من المدن والموانىء ضمن موجة من الاحتجاجات التي لا تجمعها أهداف مُوحّدة، بل تعكس درجة الإحتقان ودرجة الغضب والخوف من التهديدات التي تحيق بمستقبل صغار الفلاحين.

تُنَظّم أحْكام “السياسة الزراعية المشتركة” أغلب جوانب النظام الزراعي في أوروبا (المجموعة الإقتصادية الأوروبية ثم الإتحاد الأوروبي)، ومن بينها المساعدات المالية وقضايا البيئة، وتنظيم صادرات وواردات الإنتاج الفلاحي، منذ سنة 1962، لما كانت “المجموعة الإقتصادية الأوروبية” تضم فرنسا وألمانيا ولوكسمبورغ وبلجيكا وإيطاليا وهولندا إلى اليوم حيث تشمل “السياسة الزراعية المشتركة” جميع أعضاء  الإتحاد الأوروبي ( 27 دولة)، وأوروبا جزء لا يتجزأ من الرأسمالية الإحتكارية التي فَرَضت عَوْلَمَةَ النيوليبرالية، ولذلك بدأت برامج السياسة الزراعية المشتركة تتغير خلال العقد الأخير من القرن العشرين، بانهيار الإتحاد السوفييتي، وإعلان الإنتصار النهائي للرأسمالية (نهاية التاريخ) وتمت ترجمة ذلك في قرارات منظمة التجارة العالمية وخفض الدّعم تدريجيا لبعض الإنتاج الفلاحي ( إنتاج الكُروم وإنتاج الحليب ومشتقاته…)، وانخفض إجمالي ميزانية الاتحاد الأوروبي المخصصة للزراعة من أكثر من 60% سنة 1980 إلى أقل من 25% سنة 2021، وأقر الإتحاد الأوروبي “الحدّ من التّدخل الحكومي في الأسواق، بما فيها الأسواق الزراعية” وخَفَّضَ أو أَلْغَى دَعْمَ الصادرات، وحصص الإنتاج في منتجات الألبان، ودعم الأسعار التي كانت مقترنة بدخل المزارعين الخ، وهي إجراءات تم إقرارها من قِبَل حُكّام أمريكا الشمالية وأوروبا في منظمة التجارة العالمية في إطار الترويج لمبادرات التجارة الحرة، وأدت مثل هذه القرارات إلى انخفاض عدد مزارعي أوروبا بنسبة 37% بين سنتَيْ 2005 و 2020، وارتفع حجم الإنتاج وارتفع عدد المزارع الكبرى التي تزيد مساحتها عن 200 هكتارا، خلال نفس الفترة، وأصبح 20% من الفلاحين الأوروبيين يحصلون على نحو 80% من حجم الدعم المالي الأوروبي، وفي فرنسا انخفض عدد المُزارعين من 800 ألف سنة 1980 إلى 389 ألف سنة 2020… وأدّى تورّط أوروبا في حرب أوكرانيا إلى استيراد الإتحاد الأوروبي الحبوب الأوكرانية الرخيصة ومنافسة منتجي الحبوب الأوروبية، بذريعة “مساعدة أوكرانيا في حربها مع روسيا”، ويتخوف فلاحو أوروبا من المفاوضات الجارية بين الإتحاد الأوروبي وكتلة التجارة الإقليمية في أمريكا الجنوبية، ميركوسول، لتوقيع اتفاقية تجارة حرة قد تُنهي دعم الفلاحين الأوروبيين والتي من شأنها أن تدعو عمالقة التصدير الزراعي الأرجنتين والبرازيل إلى تقويض المنتجين الأوروبيين.

يخصص الاتحاد الأوروبي 30% من ميزانيته لقطاع الزراعة، يُوزّعها في شكل مساعدات مشروطة بتطبيق بعض الإلتزامات ( ترك جزء من الأراضي بورًا وإنجاز بنية تحتية زراعية مثل إقامة السياجات وتنظيف الخنادق والبرك وفحص الحيوانات من قِبَل طبيب بيطري مُعَيّن ) وتعد فرنسا الدولة الأوروبية التي تستفيد أكثر من غيرها من المساعدات الزراعية حيث تلقت 9,5 مليارات يورو سنويا، تليها إسبانيا بنحو 6,9 مليارات يورو وألمانيا 6,4 مليارات يورو، سنويا، ويُؤدِّي خفض قيمة الدّعم (الذي كان مُخططا له ومُعْلَنًا منذ سنوات) إلى ارتفاع سعر الوقود الفلاحي، وهو واحد من مجموعة من القوانين واللوائح التي اعتمدها الإتحاد الأوروبي منذ سنة 2021، ضمن السياسة الفلاحية المشتركة الجديدة وبدأ تطبيقها التّدريجي منذ كانون الثاني يناير 2023، كجزء من سياسات التجارة الحرة التي تُعارض النقابات الجزء الذي لا يتوافق مع مصالحها، وانْصَبّ غضب الفلاحين الأوروبيين على معاهدة التجارة الحرة “ميركوسور” بين الاتحاد الأوروبي والسوق المشتركة لدول أميركا الجنوبية التي سوف يتم تطبيقها بحلول صيف 2024، إلى جانب القرارات الأوروبية الأخرى باسم ” خفض تأثير الزراعة على البيئة والتخفيف من انبعاثات الكربون” ( الصفقة الخضراء 2019 ) التي يُتَوَقّع أن تُقصي أكثر من ستة ملايين مزارع أوروبي، وأظهرت مُعارضة هذه الإتفاقيات تناقض المصالح بين كبار الفلاحين (مُقاوِلِي الزراعات الكبرى) الذين يريدون الإستمرار في استخدام المبيدات الحشرية ومبيدات الأعشاب وتغذية الحيوانات بالعلف المُصّنّع، من جهة، وصغار الفلاحين المُنتسِبِين لنقابات صغيرة تُطالب بتشجيع الفلاحة العُضْوِيّة والقضاء على الوُسطاء والمُحتكرين، في إطار تَقريب المُستهلكين من المُنتِجِين، وإقرار معايير صارمة لمراقبة استخدام المبيدات والزراعات المُعدّلة وراثيا…

الفلاحة في فرنسا

انطلقت احتجاجات ومظاهرات المزارعين بفرنسا بالجنوب لتشمل كل المناطق والقطاعات الزراعية واحتل المزارعون بالياتهم وماكيناتهم الطرق السريعة قبل الإتجاه نحو العاصمة باريس وحصار السوق الدولي رانجيس (Rungis)، وتحظى
مظاهرات المزارعين الصاخبة باهتمام وسائل الإعلام. أما الحكومة فإنها لا تقمعهم، كما تقمع احتجاجات النقابات العُمّالية أو “السّترالت الصّفراء” ولا تمنع هذه الإحتجاجات الصاخبة التي يُهَدّد مُنَظِّمُوها بعرقلة حركة المرور والاقتصاد واحتلال شبكة الطرقات الرئيسية، فيما تحظر أجهزة الدّولة الفرنسية أي شكل من التّضامن مع الشعب الفلسطيني، بل سارع رئيس الحكومة الفرنسية للحوار مع نقابة كبار المزارعين (
FNSEA ) التي تختلف مطالبها مع اتحاد نقابات صغار المزارعين ( Confédération Paysanne ) التي تطالب بتشجيع الزراعات العضوية بينما تُمَثِّلُّ ( FNSEA ) مصالح كبار الملاكين العقاريين في المجال الزراعي ويرأسها السيد أرنو روسو الرئيس والمدير العام للشركة العملاقة (Avril) لانتاج الاغدية الزراعية، خصوصا زيوت الماركة لوسيور (Lesieur) و (Puget) ويمتلك أراضي زراعية تفوق مساحتها ثمانمائة هكتار، ومزرعة للحبوب مساحتها 500 هكتار، بينما يُقدر معدّل ملْكِيّة المزارعين في كل فُرُوع ومجالات الفلاحة، بين 15 و 35 هكتار، ولا يتجاوز دخلهم الشّهري مستوى الحد الادنى للاجور، ما يضطر العديد منهم للعمل كأجراء في الضيعات كبيرة الجحم والمساحة او بقطاعات اخرى، ويتوقّع المعهد الوطني (الفرنسي) للإحصاءات الإقتصادية انخفاض دخل صغار المزارعين بنسبة حوالي 9% بنهاية سنة 2023، وارتفاع حجم دُيُونهم وارتفاع عدد المزارعين الذين يُعلنون إفلاسهم أو لا يتمكنون من الإستمرار في ممارسة مهنتهم.  

لا تحتوي لائحة مطالب المُزارعين أي إشارة إلى العمال الزراعيين الذين يعانون ويعيشون ظروف صعبة جدا على كل المستويات ( قساوة ظروف العمل والسّكن وانخفاض الأجور ) ويُقدّر عدد العمال الزراعيين بفرنسا، ومعظمهم يعمل بشكل موسمي، بحوالي أربعمائة ألف وفق الإحصائيات الرسمية لسنة 2019، ولم تهتم النقابات العمالية الأوروبية على تنظيمهم وتأطيرهم والدّفاع عنهم.

يبلغ متوسط حجم المزرعة في فرنسا سنة 2020 نحو 69 هكتارًا، في حين يمتلك “أرنود روسو” نحو ثمانمائة هكتار، وهو الرئيس الحالي لنقابة للإتحاد الوطني للمزارعين – FNSEA – الإتحاد الزراعي الذي يدافع عن مصالح الأغنياء، ورئيسه وسيط وتاجر سابق، ورئيس لحوالي خمسة عشر شركة، من شركات قابضة ومزارع، رئيس مجلس إدارة المجموعة الصناعية والمالية التي تمتلك علامات تجارية عديدة وهو كذلك المدير العام لشركة Biogaz du Multien، شركة الميثان، ومدير شركة Saipol، المتخصصة في تحويل البذور إلى زيت، ورئيس مجلس إدارة شركة Sofiproteol

هناك خصوصية فرنسية تتمثل في التعاونيات الزراعية التي لا علاقة لها بالتعاونيات، بل هي شركات رأسمالية تستغل الفلاحين الذين يضطرون إلى بيع إنتاجهم لهذه التعاونيات، ويُسيطر عليها اتحاد الفلاحين (FNSEA ) وبلغ متوسط الدخل الشهري للمديرين التنفيذيين ومديري أكبر التعاونيات الزراعية الذين ينتمون إلى اتحاد الفلاحين (FNSEA ) نحو إحدى عشر ألف وخمسمائة يورو شهريا سنة 2020، بينما يستمر دخل صغار المزارعين في الانخفاض. تحاول FNSEA التي تُمثل مصالح كبار المزارعين ( الحبوب واللفت السّكّري والكروم وتربية الحيوانات بالأعلاف الإصطناعية والحُقَن…) الذين يديرونها ويستفيدون منها، التحدث باسم جميع الفلاحين والحفاظ على أسطورة الفلاحين المتحدين، ما سمح لها بتعبئة ومغالطة الفلاحين الفقراء…

في فرنسا، يُعتَبَرُ اتحاد المزارعين ( Confédération Paysanne ) نقابة تقدُّمية لصغار المزارعين ومربي الماشية، وتولي أهمية خاصة إلى فتح الآفاق أمام المُزارعين من خلال رفْع دخْلِهم ودعم المُزارعين الذين يحترمون البيئة وينتجون الغذاء الطبيعي، وبخصوص دخل المزارعين فهو ليس آمنا لأن سلاسل المتاجر و”مراكز الشراء” تفرض أسعارا أقل من أسعار التكلفة، ولا يستفيد المستهلكون من هذه الأسعار المنخفضة، بل يستفيد منها أصحاب الأسهم في شركات الصناعات الغذائية والتسويق والتجارة، ليس على مستوى فرنسا فحسب بل على المستوى الأوروبي، ما يتطلب تنظيم الأسواق على المستوى الأوروبي، والتحكم في الكميات وضمان الحد الأدنى من الأسعار لصغار المنتجين مع دعمهم لتحقيق التحول الزراعي الإيكولوجي الضروري والحتمي، لتلبية احتياجات المواطنين ولمجابهة تحديات تغير المناخ وإنجاز التنوع البيولوجي، وإنتاج الغذاء الصحي.

فروق الدخل بين المزارعين

وتجمع الدوائر الزراعية بين جهات فاعلة ذات طبيعة مختلفة للغاية من حيث الحجم والإنتاج والدخل، ومن هنا تتباين المصالح. تدافع نقابة الأغلبية FNSEA عن مصالح المنتجين المرتبطين بالشركات الزراعية متعددة الجنسيات. إنه يريد الحفاظ على حجم الإنتاج، لكنه غير مهتم بالإبقاء على المزارعين في المزارع، لأنه يعتبر انخفاض عدد المزارعين نتيجة منطقية للقدرة التنافسية. وهذا ليس منطق الاتحاد، بل منطق الرأسماليين الذي يتفق مع منطق البنوك ومجموعات الصناعات الزراعية الكبيرة. اختفاء 100 ألف مزرعة في فرنسا بين عامي 2010 و2020 هو النتيجة المنطقية للتنافس على الحفاظ على أحجام الإنتاج والعمليات الزراعية الكبيرة، والتربية الصناعية والقضاء على المزارعين الأقل كفاءة، مع إزالة اللوائح المتعلقة باستخدام المبيدات الحشرية والمواد الكيميائية الضارة بالطبيعة والكائنات الحية، لزيادة الإنتاج وخفض تكاليف الإنتاج. هذا المنطق الرأسمالي يقضي على صغار المزارعين والمربين الذين لم يعودوا قادرين على توفير دخل لائق، لأن أسعار المنتجات تفرضها الشركات المتعددة الجنسيات، ولذلك تدعو نقابات المزارعين التقدمية إلى تجميد وتخفيض أسعار الوقود الفلاحي، وتجميد تسديد الديون، وتوفر حد أدنى مضمون للدخل، فيما يمتنع قادة قادة النقابات الرجعية لكبار المزارعين واليمين المتطرف عن نقد الصناعات الغذائية والمصارف، ويكتفون بنقد”الروتين، والضرائب، والضوابط، ودعاة حماية البيئة وتقييد المبيدات الحشرية… فهم ( قادة النقابات الرجعية واليمين المتطرف) يعارضون الزراعة العضوية وحظر المبيدات الحشرية ويسعون إلى تجنب تسمية المسؤولين الحقيقيين، لأنهم ينتمون إلى نفس الطبقة الاجتماعية: المصارف والصناعات الغذائية الزراعية وشبكات التوزيع، والرأسماليين الذين يستغلون ويضطهدون صغار المزارعين في أوروبا والعالم …

إلى جانب نقابة كبار الفلاحين ( FNSEA ) والنقابة التقدمية ( Confédération Paysanne ) توجد نقابة فلاحين يُهيمن عليها اليمين المتطرف ( Coordination Rurale ) وهي ثاني أكبر نقابة للمزارعين حصلت على نحو 20% من أصوات المزارعين الفرنسيين، وفتحت هذه النقابة الباب لليمين المتطرف لاستغلال الحركة الاحتجاجية للفلاحين الأوروبيين واختراقها واستمالتها، وفي ألمانيا، نجحت مجموعات صغيرة من اليمين المتطرف في تعميم المطالب ضد العمال الزراعيين المهاجرين، في حين فشل اليمين المتطرف الفرنسي في إضافة هذا الجانب المعادي للأجانب ضمن احتجاجات الفلاحين، وفي ألمانيا، انطلقت حركة الإحتجاجات بعد خفض دعم الديزل للمزارعين، وفي فرنسا، كان انخفاض دخل صغار المزارعين هو الذي أطلق شرارة الحركة الاحتجاجية، فيما حاول الاتحاد الوطني للنقابات الزراعية (FNSEA – الاتحاد الزراعي الفرنسي بقيادة أغنى أثرياء الزراعات الصناعية) تحويل الغضب إلى حركة ضد التدابير البيئية أو المناخ، فيما حاول اتحاد المزارعين ( Confédération Paysanne ) التركيز على المعاناة اليومية والدخل المنخفض والديون وعبء العمل وعدم الاعتراف بشكل عام، ويبدو التناقض واضحًا مع القطاع الزراعي –  الصناعي الذي استحوذ على الإنتاج الزراعي خلال العقود الأخيرة، ما خَلَقَ فجوة بين مطالب صغار المزارعين وأثرياء الزراعات الصناعية ونقابة ( FNSEA ) والتي يشكل قادتها جُزْءًا من الأقلية الثّريّة في فرنسا وجزءًا من السلطة، وتدافع قيادة نقابة المزارعين الأثرياء عن النموذج الاقتصادي للتجارة الحرة (الاتحاد الأوروبي) الذي يدفع المزارعين إلى استخدام المزيد من المبيدات والأسمدة الكيماوية ليكونوا قادرين على المنافسة، في حين تشكل المبيدات خطرا على صحة الجميع، المستهلكين والعمال، بالإضافة إلى الأضرار التي تلحق بالبيئة، أما الإتحاد الأوروبي (الذي يمثل الحكومات) فإنه يعيق ويعرقل تطور الزراعة العضوية، بجعلها مكلفة وأقل قدرة على المنافسة بالنسبة لصغار المزارعين، ولذلك، هناك انفصال بين النخبة الصغيرة من القادة المقربين جدًا من الحكومة والأشخاص الذين يعملون ليلًا ونهارًا من أجل البقاء، وليست لديهم القدرة على مجابهة مجموعات التوزيع التجارية الكبيرة التي تحدد أسعار المنتجات الزراعية، ولذلك انخفض عدد المزارعين والعمال الزراعيين بفرنسا من 6,3 ملايين سنة 1946، إلى 750 ألفاً سنة 2020 (لا توجد أرقام أحدث)، في حين زاد عدد الجرارات بنحو 1000%، وانخفض عدد المَزَارِع بنسبة 70%، وانخفض عدد عمال الزراعة بنسبة 82%، خلال الفترة 1954 – 1997، أي أن أكثر من 4 من كل 5 من العاملين بقطاع الفلاحة تركوا العمل الزراعي خلال أربعة عقود ونَيِّف… وقدّر المعهد الوطني ( الفرنسي) للإحصاءات الإقتصادية ( Insee ) انخفاض دخل صغار الفلاحين طيلة ثلاثة عقود ( منذ انهيار الإتحاد السوفييتي وسيادة النيوليبرالية وفرض قرارات منظمة التجارة العالمية) بنحو 40% ما جعل 20% من المزارعين الفرنسيين يعيشون تحت خط الفقر، ولا يتجاوز مُتوسّط معاشات التقاعد للمزارعين ألف يورو شهريا، مقابل 1510 يورو شهريا على مستوى متقاعدي فرنسا.

النتائج

تُقدّر الميزانية الزراعية المشتركة للإتحاد الأوروبيّ بنحو ستين مليار يورو سنوياً، وحوّلت المفوضية الأوروبية جزءًا منها إلى حكومة أوكرانيا، منذ الحرب (شباط/فبراير 2022)، فضلا عن التوزيع غير العادل للمساعدات الأوروبية لأن كبار الفلاحين الذين يمثلون أقل من 20% من الفلاحين يستأثرون بنحو 80% من هذه المُساعدات، ويغرق معظم صغار الفلاحين الأوروبيين في الدّيون والصعوبات المالية، رغم الجهود التي يبذلونها لزيادة دخلهم، وما هذه سوى بعض العوامل التي أدّت إلى غضب الفلاحين…   

أعلنت المفوضية الأوروبية التي ترأسها اليمينية المُتصهينة والمُورّطة في قضايا فساد عديدة، وهي هيئة تُمثل الحكومات ويغلب عليها الإتجاه الموالي لحلف شمال الأطلسي والولايات المتحدة والكيان الصهيوني، إطلاق  “حوار استراتيجيا” يجمع بين المنظمات الزراعية وقطاع الأغذية الزراعية والمنظمات غير الحكومية والخبراء، خلال شهر أيلول/سبتمبر 2024، أي بعد حوالي ثلاثة أشهر من الإنتخابات الأوروبية، ويُشكل الإعلان محاولة تهدئة الفلاحين، لأن جدول الأعمال المؤقت يتضمن دراسة دَخْل المزارعين ضمن قوانين المنافسة والسوق الحرة، والفلاحة المُستدامة والابتكار التكنولوجي…  

إن حرص الإتحاد الأوروبي والحكومات النيوليبرالية في الدول الأوروبية على التفاوض مع الفلاحين والتراجع عن قرارات تم إعلانها قبل خمس سنوات، والبحث عن حلول لمشاكل الفلاحين، يتناقض مع نهجها المعتاد في التعامل مع الحركات الاجتماعية، والذي يقوم على القمع السّافر والإعتقالات وتجريم العمل النقابي والنشاط الإجتماعي، وهاجم الفلاحون مباني رسمية وألحقوا أضرارًا بها وبالفضاء العام مع إلقاء السماد والنفايات الزراعية في الشوارع والساحات والطرقات، وأظهرت وسائل الإعلام التي اعتادت على إدانة المُضربين والمُتظاهرين من العاملين ومن الفُقراء ومن ضحايا القمع، تعاطفًا مُريبًا مع حركة احتجاجات الفلاحين لأنها حركة عنيفة وقادرة على شل حركة النقل والتجارة، ويصعب قمعها بفعل امتلاك الفلاحين أسلحة صَيْد وبفعل انتشارالحركة في كافة أرجاء البلدان الأوروبية، ولأنها تتمتع بتأييد كبير من السكان لأنها ترمز إلى الكدح وإلى إنتاج الغذاء، ومع ذلك أصبح صغار الفلاحين عاجزين عن توفير العيش اللائق من عملهم، ولم يستفيدوا من الإرتفاع الكبير لأسعار السلع الغذائية التي يشتريها المواطن من الأسواق ومحلات تجارة التجزئة، ما جعل 45%  من الأشخاص يَحدُّون من الإنفاق على الغذاء ويتخلّون عن شراء الفواكه، بسبب التحرير التام لسعر السلع الغذائية، ضمن قواعد “التجارة الحُرّة” التي لم يستفد منها لا صغار المزارعين ولا المستهلكون، ونتيجة لخيارات سياسية تُرَكِّزُ على بعض القطاعات التي تخصصت في تصدير إنتاج الحبوب ومشتقات الألبان والخُمُور وإهمال مجالات أخرى لأن إنتاجها في بلدان أمريكا الجنوبية أو إفريقيا أو آسيا يَدُرُّ أرباحًا ضخمة بفعل الظروف الإجتماعية والبيئية للإنتاج المُعَدّ خصّيصًا لتلبية حاجيات أسواق الدّول الرأسمالية المتقدّمة، وبفعل التعاقد من الباطن مع شركات محلية تُشغل العُمّال الزراعيين والنساء والأطفال برواتب منخفضة وظروف عمل سيئة، مع تعرّض المزارعين ومحيطهم لمخاطر التّلوث والإصابة بالأمراض الخطيرة مثل السرطان ومرض باركنسون وما إلى ذلك.

لا يخضع إنتاج الزراعات الصناعية إلى معايير تُعير أي أهمّية لِصحّة وسلامة الموارد والمُحيط والعاملين وسُكّان المناطق المجاورة لها، فهي تستخدم المواد الكيماوية السّامّة والضارة بالطبيعة وبالنبات وبصحة الإنسان، ولذلك فإن المعايير البيئية معدومة والرواتب منخفضة وظروف عمل المزارعين والعُمّال الزراعيين سيئة، ما يجعل المنافسة غير عادلة  بين الزراعة العضوية والزراعات الصناعية التي قَلّصت عدد المُزارعين الذين أغرقَتْهُم الدُّيُون، وقلّصت عدَدَ المزارع العائلية ذات المساحات الصّغيرة، وقَضَتْ على العديد من الأنشطة والخدمات ومن الوظائف في المناطق الريفية.

تزامنت حركة الفلاحين في أوروبا مع قرار الإتحاد الأوروبي زيادة الدعم المالي لنظام الحكم في أوكرانيا بنحو 58 مليار دولارا، بينما يُعاني المواطنون من ارتفاع أسعار الطاقة ( رغم انخفاضها في الأسواق الدّولية) وارتفاع أسعار الغذاء، ما يُؤشّر إلى احتمال حدوث احتجاجات أخرى، وبالفعل ارتفع عدد الإضرابات العمالية في ألمانيا، أكبر اقتصاد أوروبي، ما يجعل الغضب يتعدّى فئة المُزارعين ليشمل فئات اجتماعية أخرى تَضَرّرت من السياسات النيوليبرالية للإتحاد الأوروبي وتورّطه في الحروب الأطلسية والأمريكية…  

شملت تظاهرات المزارعين الأوروبيين كلا من ألمانيا وإسبانيا وفرنسا وإيطاليا ورومانيا وبولندا وهولندا ولاتفيا وبلجيكا وغيرها، ما دفع  الاتحاد الأوروبي إلى  تقديم تنازلات تفاديا لتوسّع الإحتجاجات إلى فئات أخرى، وأعلنت رئيسة المفوضية الأوروبية التّخلي عن بعض بُنُود قانون المناخ وتراجعت عن قرار وجوب تخصيص حِصّة من الأراضي المزروعة للزراعة البيئية والتنوع البيولوجي وتناوب المحاصيل وإلغاء قرار خفض استخدام الأسمدة الصناعية والمبيدات وقرار خفض الانبعاثات، وإعادة النظر في الإتفاقيات مع دول دول “ميركوسور” في أمريكا اللاتينية (الأرجنتين والبرازيل وأوروغواي وباراغواي)، بذريعة التثبت من توافق الواردات من هذه الدول مع المعايير الصحية الأوروبية…

لا يُمثل المزارعون سوى أقل من 5% من العدد الإجمالي لسكان أوروبا، لكن نفوذ كبار المزارعين كبير، لأنهم ينتمون إلى طبقة الرأسمالية (رأسمالية قطاع الصناعات الزراعية والغذائية)، وتخشى الحكومات والمُفوضية الأوروبية امتداد الإحتجاجات إلى فئات أخرى من العاملين الذين يعانون من انخفاض الرواتب ومن ارتفاع الأسعار وخصخصة قطاعات الصحة والماء والكهرباء والنقل…  

خاتمة

إن اتفاقيات التجارة الحرة الدولية (التي يندد بها صغار المزارعين) تدفع المزارعين في جميع أنحاء العالم إلى المنافسة فيما بينهم، لكن بإمكانيات مختلفة (غير متمكافئة)،  باسم “التحرير الكامل للإقتصاد والتجارة”، و”اكتساب القدرة التنافسية”، و”الإصلاح الهيكلي لقطاع الفلاحة”،  ويؤدي هذا “التحرير” إلى اختفاء المزارع الصغيرة ونشاط تربية الماشية الطبيعية أو التقليدية، لصالح الزراعات الصناعية الأحادية والمصارف التي تستثمر في المزارع الصناعية والصناعات الغذائية، مما يسرع التصفية الاجتماعية والاقتصادية للفلاحين وفي تدمير البيئة وصحة الإنسان، وبذلك تُساهم معاهدات التجارة الحرة، وتحرير الأسعار، وسيطرة الإحتكارات على إنتاج وصناعة الأغذية وعلى الأسواق الكبرى في تدمير الوسط الريفي والفلاحين والأمن الغذائي للفقراء، ما يُؤَكّد ضرورة إنشاء تحالفات بين صغار المزارعين ومكونات الحركة الاجتماعية والبيئية التي ناضلت في السنوات الأخيرة ضد السياسات الاقتصادية للحكومات والاتحاد الأوروبي.

أهملت حركة الفلاحين الأوروبيين عُمّال الزراعة، ووضعهم ومطالبهم، فالعمال الزراعيون جزء من المُساهمين في إنتاج الغذاء، وناضلوا من أجل الحصول على حقوق مماثلة لحقوق العمال الآخرين ومن أجل تطبيق قانون العمل في القطاع الزراعي، لكنهم لا زالوا يعملون بأجور زهيدة وساعات عمل غير مدفوعة الأجر وسكن غير صحي في ظل تمييز عنصري وجنسي، وحوادث عمل قاتلة فضلا عن الأمراض الخطيرة التي يُسبّبها استخدام المواد الكيماوية السّامّة.

من الضروري وضع حد لهذا الوضع الجدير بالقرن التاسع عشر، وبناء تحالفات تُنسّق النضالات بين الطبقة العاملة وصغار المزارعين المستغلين وبناء هياكل جماعية للنضال والتفكير في زراعة تخدم تلبية الاحتياجات الغذائية للمجتمع وليس من أجل إثراء حفنة من رجال الأعمال الزراعيين.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.