رحيل المناضل المغربي محمد بنسعيد: فَضَحَ معتقل تازمامرت ولم يُقبّل يد الملك / عبد الرحيم التوراني

عبد الرحيم التوراني –  الخميس 22/2/2024 م …




برحيل المقاوم والمناضل المغربي الكبير محمد بنسعيد آيت يدر في السابع من شباط/فبراير (99 عامًا)، تكون صفحة متوهجة قد انطوت من صفحات سِفْرٍ عظيم بعنوان: “الكفاح الوطني والديموقراطي في المغرب والوطن العربي”. ولد الراحل محمد بنسعيد آيت يدر عام 1925 في عائلة قروية بسيطة، ببلدة باها آيت شتوكة، في ولاية أغادير، (550 كلم جنوب العاصمة الرباط)، واستوعب بحماس أفكار التحرر والوطنية التي بدأت تنتشر خلال فترة شبابه الأول في أربعينيات القرن الماضي. حيث انخرط في النضال ضمن صفوف حزب الاستقلال، ثم انضم إلى خلايا المقاومة المسلحة للقتال ضد الاحتلال الفرنسي، وكان أحد قادة المقاومة وجيش التحرير البارزين. وضمن مؤسسي حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، بزعامة المهدي بنبركة ومحمد الفقيه البصري وعبدالله ابراهيم وعبد الرحمن اليوسفي وعبد الرحيم بوعبيد والمحجوب بن الصديق. مُبكرا تعرّض بنسعيد إلى محن النفي والإبعاد إلى الجنوب (1952)، وجرّب سجون وزنازين عهد الحماية الفرنسية منذ كان طالبًا يتابع دراسته بالتعليم الأصيل (الشرعي) في كلية ابن يوسف في مراكش، وذاق من ويلات التنكيل على يد عميل الاستعمار القائد الإقطاعي الباشا التهامي الكلاوي الحاكم المطلق لمراكش وإقليم الجنوب، لقيامه رفقة زملائه في الدراسة وأقرانه من الشباب الوطنيين في الكفاح الوطني ومقاومة المستعمر بإضرابات واحتجاجات تضامنية طلابية. يذكر أنه استفاد رفقة زملائه من التأطير السياسي الوطني على يد الزعيم عبدالله ابراهيم، والعلامة المختار السوسي، كما استفادوا من عروض ومحاضرات الزعيم المهدي بنبركة، التي كان يقدمها للشباب في مجال حركات التحرر العالمية. وكان من رفاقه في الفترة الدراسية من سيصبحون لاحقا من القادة والمناضلين السياسيين في حركة المقاومة والنضال السياسي، من أمثال محمد الفقيه البصري ومولاي عبد السلام الجبلي ومحمد بوراس الفكيكي. *** أصبح محمد بنسعيد واحدا من بين القيادات الأساسية لجيش التحرير المغربي بعد تأسيسه في تشرين الأول/أكتوبر 1955، إذ لم تمض سوى أقل من شهرين على انطلاقته حتى التحق بنسعيد بقواعد جيش التحرير في الشمال، وكان مكلفًا بمهمة التنسيق وربط الاتصال بين القيادة المركزية في مواقع جيش التحرير بالشمال والجنوب، حيث شارك بنسعيد في إنشاء الجناح الجنوبي لجيش التحرير الوطني. وقام بتجنيد المقاتلين والإشراف على تدريبهم وتنسيق عمليات تسليم الأسلحة مع الجناح الشمالي. وقد لعب بنسعيد آيت يدر دورا أساسيا في إعداد جوازات سفر وتهريب كل من الفقيه محمد البصري، وسعيد بونعيلات، وحسن صفي الدين الأعرج، إلى اسبانيا للمشاركة في لقاءات سرية في مدريد، ساهم في تأطيرها علال الفاسي والمهدي بنبركة، بحضور الدكتور عبد الكريم الخطيب والحسين برادة وعباس المسعدي وغيرهم. خلال هذه الفترة يشهد لبنسعيد بمحاولاته المتتالية من أجل توحيد فصائل المقاومة بعد نشوء الصراعات التي نشأت بين أقطابها إثر إعلان الاستقلال. بعد استقلال المغرب عام 1956 انتقل بنسعيد مباشرة رفقة أعضاء جيش التحرير إلى الجنوب لاستكمال تحرير المنطقة الصحراوية من الاحتلال الإسباني. وخوض المعركة مع قوات الجنرال الاسباني فرانكو، بغية استرجاع المنطقة إلى المغرب، وبدعم من القبائل المحلية. إذ كان من بين الأعضاء الناشطين في جيش التحرير الجنوبي أكثر من 70 صحراويا، بعضهم من قدامى المحاربين في مقاومة الاحتلال الإسباني، إضافة إلى طلاب من مدن الدار البيضاء ومراكش والرباط، والعديد من الشباب الآخرين. ومن بين هؤلاء، بحسب بنسعيد آيت يدر، أقارب لمؤسس جبهة البوليساريو لاحقا، الوالي مصطفى السيد، وأعضاء من الحزب الشيوعي المغربي، فضلا عن خليل الركيبي، وهو والد زعيم البوليساريو لمدة 40 عاما، محمد عبد العزيز، (توفي خليل الركيبي بمدينة أكادير في تشرين الأول/أكتوبر 2017). *** عاشت حركة المقاومة المسلحة المناهضة للاستعمار جنوب المغرب تجربة كارثية، إذ لم يكن عليها مواجهة الهجوم العسكري المشترك للجيشين الإسباني والفرنسي فحسب، بل تعرضت لقمع وحشي من قبل القوات المسلحة الملكية المنشأة حديثًا، بقيادة الجنرال محمد أوفقير، مساعد السلطان محمد الخامس، وكذلك من قبل قوات الشرطة التابعة لوزارة الداخلية بقيادة محمد الغزاوي. إذ كانت الحكومة المغربية تخشى هؤلاء المقاتلين غير النظاميين، فكان اندحار “جيش التحرير” خلال أسابيع قليلة، وهي الهزيمة المعروفة في الأدبيات التاريخية باسم “عملية إيكوفيون” (شباط/فبراير 1958). وقد تولى محمد بنسيعد شرح الأحداث في العديد من المحاضرات والمداخلات التي قام بها، كما في الكتب والمذكرات التي نشرها في حياته، والتي تناول فيها ملحمة تكوين جيش التحرير والكفاح في منطقة الصحراء. *** غداة الاستقلال نجا بنسعيد من محاولة اغتيال عام 1957. لكنه سيق مرات للتحقيق البوليسي وللاعتقال السياسي، وأفلت من حكم الإعدام الذي صدر في حقه غيابيًا مرتين. إذ تم اعتقاله في عام 1960 واتهم زوراً بالاشتراك في محاولة اغتيال ولي العهد آنذاك (الحسن الثاني)، واستفاد من العفو عنه وعن جميع رفاقه من قبل الملك محمد الخامس. وفي الوقت الذي كان يجري فيه أول استفتاء دستوري في المغرب (كانون الأول/ديسمبر 1962)، غادر محمد بنسعيد آيت يدر إلى الجزائر بجواز سفر مزور، في رحلة منفى طويلة استغرقت حوالي عشرين عامًا. بعد ذلك بعامين، علم محمد بنسعيد آيت يدر مرة أخرى في الجزائر بنبأ الحكم عليه ثانية بالإعدام غيابيًا، بعد محاكمة مدوية استهدفت بشكل خاص قيادة ومناضلي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، والاتهام نفسه: التآمر ضد النظام الملكي. في سويسرا، استغل بنسعيد تواجده في المستشفى وفترة نقاهته الطويلة، خلال منتصف الستينيات، ليتعلم اللغة الفرنسية، ولما انتقل إلى باريس كان من أساتذته المؤرخ والمستشرق جاك بيرك، الذي شغل كرسي التاريخ الاجتماعي للإسلام المعاصر في “كوليج دو فرانس”، ليحصل على شهادة في التاريخ. ومن فرنسا، انضم إلى “حركة 23 مارس”، التي أنشأها في المغرب عام 1970 نشطاء يساريون، معظمهم من الطلاب، من ذوي المعتقد الماركسي اللينيني. ويحيل اسم المنظمة السرية إلى تاريخ الانتفاضة الطلابية والتلاميذية بمدينة الدار البيضاء عام 1965، والتي ووجهت بالقمع العنيف وبالرصاص وأسفرت عن مئات الضحايا. أخذ بنسعيد يساعد في العثور على الأموال، وهو الفقيه الذي ينعم بتعليم إسلامي متين، وبدأ في تعلم نصوص اليسار الثوري الجديد. “لقد كان يمثل الاستمرارية بيننا وبين الحركة الوطنية القديمة”، يوضح سيون أسيدون. (وهو مناضل حقوقي مغربي من ديانة يهودية، مناهض للصهيونية. من مؤسسي “حركة 23 مارس”، معتقل سياسي سابق، والرئيس الحالي لفرع الحركة العالمية لمقاطعة البضائع الإسرائيلية في المغرب. “بي. دي. إس”.). إقرأ على موقع 180  أردوغان.. و”الشيخ حاتم” *** سنة 1980 ستشهد بعض الانفراج السياسي، حين أصدر الحسن الثاني مرسومًا بالعفو العام عن السجناء السياسيين والمنفيين، حيث بدأت الحياة السياسية في الخروج من حالة الجمود العميق الذي ميّز سنوات الرصاص خلال عقدي الستينيات والسبعينيات، إلى حدود الثمانينيات. فعاد بنسعيد إلى المغرب، في هذا السياق حصل تأسيس منظمة العمل الديموقراطي الشعبي سنة 1983، وتولى مهمة الأمانة العامة، وقد انتخب باسم المنظمة نائباً في البرلمان عن منطقة شتوكة آيت باها (مسقط رأسه). في التسعينيات (1992) تأسست “الكتلة الديموقراطية”، على يد عبد الرحمن اليوسفي (الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية)، ومحمد بوستة (حزب الاستقلال)، وعلي يعتة (حزب التقدم والاشتراكية)، ومحمد بنسعيد ايت يدر (منظمة العمل الديموقراطي الشعبي). وعندما قال أحزاب “الكتلة الديموقراطية” (نعم) لفائدة دستور 1996، صوّت حزب بنسعيد ضده، وقال (لا) للمشروع الذي مهد لحكومة التناوب، وهو ما أدى بمنظمة العمل الديموقراطي الشعبي إلى الانشقاق. في 1998 عيّن الملك الحسن الثاني الاشتراكي عبد الرحمن اليوسفي في رئاسة الحكومة، ووافق حلفاؤه من الكتلة الديموقراطية على الانضمام إلى الائتلاف الحكومي. غير أن بنسعيد آيت يدر ظل متشبثا بمواقفه المتشددة، رافضا الانضمام لحكومة اليوسفي التي عرفت باسم “حكومة التناوب التوافقي”. وفي سياق اندماج تنظيمات يسارية، انبثق حزب اليسار الاشتراكي الموحد سنة 2002 وتولى بنسعيد رئاسته. *** عندما هبّت ثورات الربيع العربي (2011)، شملت المغرب، من خلال انتفاضة “حركة 20 فبراير”، وقد وقف بنسعيد إلى جانب شباب الانتفاضة وخرج مناصرا لشعاراتهم الراديكالية ومشى في تظاهراتهم، كما دعم الاحتجاجات الشعبية عبر البلاد، وفي المقدمة حراك الريف عام 2016، وطالب بتصفية الجو السياسي وإطلاق سراح معتقلي الرأي والصحفيين المسجونين. ومن أشهر تدخلات النائب البرلماني محمد بنسعيد وقوفه على منبر مجلس النواب، للحديث عن مأساة المعتقل السري “تازمامارت” بإقليم الريش، وحتى تلك اللحظة ظل النظام المغربي على أعلى مستوياته ينكر وجود ذلك المعتقل الرهيب، الذي زج فيه بعدد من السجناء، أغلبهم من العسكريين المتورطين في عمليتي الانقلاب ضد الملك الحسن الثاني سنتي 1971 و1972. شكّل هذا الموقف تحدياً قوياً للحكومة أمام البرلمان وأمام الرأي العام الوطني والدولي، كما للحسن الثاني الذي ظل ينكر أمام الصحافة الفرنسية وجود معتقلات سرية بالبلاد. في وقت لاحق، سيُصرّح أحد سجناء “تازمامرت”، وهو أحمد المرزوقي قائلا: “لقد قدم لنا بنسعيد الدعم غير المشروط”. *** ثمة حادثة شهيرة تتمثل في امتناع محمد بنسعيد آيت يدر عن تقبيل يد الملك الحسن الثاني لآكثر من مرة وهو الأمر الذي أثار حفيظة الملك وعدد من المقربين منه، وهي الحادثة التي ننقلها هنا على لسانه حرفيًا: “كان اللقاء بالإقامة الملكية بفاس، لتوديع الملك للوفد المغربي المشارك في أشغال مؤتمر البلدان الإفريقية، الذي حضره الأمناء العامون للأحزاب المغربية الذين كانوا سيسافرون إلى العاصمة الإثيوبية. بعد حوالي ربع قرن لم أر فيها الحسن الثاني، منذ آخر لقاء لي معه في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي. كان الآخرون يتقدمون ويسلمون بالانحناء على يده وتقبيلها. وجاء دوري فاكتفيت فقط بوضع يدي على كتفه، لكن ما أن هممتُ بالانصراف حتى استوقفني وسألني بنبرة ذات مغزى: “شكون أنت؟” (من أنت؟). فكان أن أجبته بنفس النبرة: “بنسعيد.. وانصرفت”. عند عودة الوفد من أديس أبابا، يقول آيت يدر، بعث إليّ إدريس البصري وزير الداخلية، من يطلب مني أن أقبل يد الملك عند لقائه.. لكنني، يقول آيت يدر، اكتفيت ثانية بوضع يدي على كتف الحسن الثاني، وهممت بالانصراف، إلا أنه استوقفني ودنا مني وقال لي، “المخزن عندو تقاليد خصك تحترمها”، ولم أجبه، وانصرفت إلى حال سبيلي. انطلاقًا من هذا اللقاء تأسس نوع من سوء التفاهم، وغياب الود ساد العلاقة بيننا منذئذ. هنا تفجّر غضب إدريس البصري، أقوى وزير في عهد الحسن الثاني، الذي خاطب بنسعيد قائلًا: “آش هاذ الشي درتي لينا مع سيدنا”، (ماذا هذا الأمر الذي أقدمت عليه وفعلته بنا إزاء الملك)، وطالبه بأن يطلب منه التوسط بينه وبين الملك حتى يقبل منه الاعتذار، لكن بنسعيد أجابه: “لن آتي عندك ولا يوجد هناك ما أعتذر عنه. هنا احتد الوزير البصري وهو يطلب مني ألا أجيء مرة أخرى إلى الملك، وبدوري لم أتركها تمر دون جواب مني، فذكّرته أني لم أطرق يومًا باب القصر، ولم آت إليه يوما من تلقاء نفسي، بل فقط حين تتم دعوتي”. يرى بنسعيد أن مسألة تقبيل يد الملك مسألة كرامة أولًا وأخيرًا، وخاطب البصري بعدما أخبره بأنه لن تتم دعوته مرة أخرى إلى القصر، قائلًا: “ستوفرون على الجميع ما يمكن أن تسبّبه لي ولكم مثل هذه الدعوات”، قبل أن يضيف: “أنا ماشي شايط باش نبوس ليدين، ولا أملك سوى كرامتي”. *** لم يتنكر بنسعيد آيت يدر لماضيه ولا لمبادئه وقناعاته.. ظل مرتبطًا بالشعب بروابط لا تنكسر. كانت كل حياته وأنشطته خاضعة لخدمة مصالح العمال. لقد كرّس كل موهبته العظيمة، وكل طاقاته الهائلة لقضية الديموقراطية، وبناء مجتمع الحرية والعدالة الاجتماعية. طوال حياته النضالية ظل بنسعيد آيت يدر ذاك الوطني المتحمس والمدافع عن الاستقلال الكامل لوطنه المغرب، ولم يوفر فرصة للدفاع عن الدفاع عن المغرب ووحدة أراضيه من الريف إلى رمال الصحراء، ومن طنجة إلى الكويرة، كما دفاعًا عن وحدة المغرب العربي الكبير. ومن الألقاب التي أطلقتها الصحافة على القائد السابق لجيش التحرير الجنوبي لقب: “خصم الملوك الثلاثة”، (محمد الخامس، الحسن الثاني، ومحمد السادس)، لكن محمد السادس بادر في سنة 2015 إلى منح أعلى وسام مدني لمحمد بنسعيد آيت يدر.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.