مأزق الدُّيُون “الوضع الإقتصادي العالمي في بداية سنة 2024” / الطّاهر المعز

الطاهر المعز ( تونس ) – الأربعاء 28/2/2024 م …

نشرت وكالة بلومبرغ الإقتصادية الأمريكية، يوم 17 كانون الثاني/يناير 2024، على هامش قمة دافوس، ملخص تصريح مارك كارني، وهو مُدير إدارة الأصول بشركة “بروكفيلد” ومحافظ سابق لمصرف إنغلترا من 2013 إلى 2020، بشأن “الإقتصاد الأخضر”، ويعتقد “إن الاستثمار في التحول إلى الطاقة الخضراء فرصة هامة للمستثمرين لِجَنْيِ الكثير من الأموال” ودعا مارك كارني زُملاءَهُ الأثرياء إلى رَفْع حجم التمويل العالمي للمشاريع الخضراء، لسبب بسيط وهو ارتفاع أرباح “التّحوّل الأخضر”




ارتفعت قيمة استثمارات الرأسماليين سنة 2023 في “الطاقة النظيفة” بنحو  1,8 مرة ما استثمروه في الوقود الأحفوري، وفقًا لوكالة الطاقة الدولية، ومن المتوقع أن يرتفع مبلغ 1,8 تريليون دولار الذي تم إنفاقه عالميًا على الطاقة النظيفة سنة 2023 إلى 4,5 تريليون دولار سنويًا بحلول أوائل ثلاثينيات القرن الحالي، وفقًا لتقديرات وكالة الطاقة الدولية، وعَلَّقَ  

أدّى ارتفاع أسعار الفائدة إلى انخفاض مؤشر ستاندرد آند بورز العالمي للطاقة النظيفة سنة 2023 بنسبة 20%، فيما ارتفع مؤشر ستاندرد آند بورز 500 بنسبة 24% سنة 2023، ويعتقد “مارك كارني” إن هذه الخسائر المؤقتة تعود إلى عدم الإنتهاء من إنجاز البنية التحتية للطاقات المتجددة، وأكّد “إن تمويل الإنتقال إلى الإقتصاد الأخضر والطاقة النظيفة هو المجال الذي يمكن للمستثمرين فيه تحقيق أعظم الأرباح”

 تنشر المؤسسات المالية الدّولية تقارير فَصْلِيّة وتقارير سنوية ونشر البنك العالمي آخر تقرير لسنة 2023، يوم 13 كانون الأول/ديسمبر 2023، وتضمّن التقرير بيانات مُهمة، منها إن القيمة الإجمالية للديون الخارجية ل 75 دولة “نامية” (فقيرة) بلغت بنهاية سنة 2022 نحو 1,1 تريليون دولارا وزاد مقدار الدّيون الخارجية بين سنتَيْ 2012 و 2022 بنسبة 134% بينما لم يرتفع ناتجها المحلي الإجمالي سوى بنسبة 53% وسدّدت هذه الدّول الفقيرة (النامية بلغة البنك العالمي) سنة 2022، مبلغ 443,5 مليار دولارا في شكل حصص مدفوعات الدّيون الخارجية التي حَلّ أجل سدادها سنة 2022، وأدّى ارتفاع نسبة الفائدة إلى عجز عشر دول خلال السنوات 2020 و 2021 و 2022 عن سداد ديونها الخارجية وقد تتكرّر العملية لدى نحو 60% من الدّول “النامية” بسبب ارتفاع حجم الدّيون الخارجية ونِسَب الفائدة، ما يجْبِر الدّول المُستَدِينة على تقليص حجم الإنفاق الحكومي وعجز مئات الملايين من مواطني هذه الدّول على تلبية الحاجات الأساسية اليومية مثل الغذاء والدواء وقدّر البنك العالمي عدد من التحقوا بصفوف الفُقراء (في 75 دولة فقيرة) بين سنتَيْ 2019 و 2022، بنحو 95 مليون شخص، وبلغ حجم القُرُوض التي “منحتها” المصارف والمؤسسات الخاصة لهذه الدّول، طيلة عشر سنوات 371 مليار دولارا، لكنها قَبَضَت 556 مليار دولارا، أي إن الأرباح بلغت 185 مليار دولارا، غير إن البنك العالمي يُواصل كيل المديح لبرامج “الشّراكة بين القطاعَيْن العام والخاص” ويواصل حثّ الدّول الفقيرة على “تحفيز الإستثمار الخاص” أي الإعفاء من الضرائب ورسوم التصدير والتوريد ومنح المال العام للرأسماليين والشركات الخاصة.

هيمنة رأس المال المالي

قامت المصارف المركزية بتخفيض تدريجي لأسعار الفائدة مباشرة بعد أزمة 2008/2009، في الدّول الغنية، بين سنتيْ 2010 و 2012، وكذلك سنتَيْ 2020 و 2021، لتصل إلى 0% دَعْمًا للأسواق المالية والشركات الخاصة الكبيرة وأدّت هذه السياسات المالية إلى خفض نسبة الفائدة على دُيُون الدول الفقيرة ومتوسطة الدّخل، التي اقترضت لتسديد الدّيون السابقة ولتمويل الإنفاق، مما رفَعَ حجم الديون العامة والخاصة في شمال وجنوب الكوكب، ومما أدّى إلى تدفق رؤوس الأموال من الشمال بحثاً عن عوائد أفضل في بلدان متوسطة الدّخل مثل تركيا وجنوب إفريقيا والبرازيل واشترت صناديق الاستثمار ومصارف الشمال أوراق سندات بلدان الجنوب لأنها قدمت عائدا أفضل من سندات الخزانة الأمريكية واليابانية والألمانية والفرنسية أو غيرها من الدول الأوروبية التي كانت قريبة من 0% أو لا تتجاوز 2% أو 3%، وعلى سبيل المثال تمكّنت “رواندا” لأول مرة في تاريخها من إصدار سندات دَيْن سيادية وبَيْعها في الأسواق الدولية، مثل “وول ستريت”، بين سنتَيْ 2013 و 2021، وتمكّنت السنغال من إصدار سِتّ قروض دولية بين سنتَيْ 2009 و2021، وتمكنت بنين من إصْدار ثلاث قروض في الأسواق الدولية بين سنتَيْ 2019 و 2021، في 2019 و2020 و2021. وأصْدَرت دولة ساحل العاج أوراقًا مالية بين سنتي 2014 و 2021، وكذا فعلت زامبيا وكينيا وغانا والغابون ونيجيريا وأنغولا والكامرون، وكان العديد من الزعماء الأفارقة يتباهون بدعم من البنك العالمي وصندوق النّقد الدّولي والمصرف الإفريقي للتنمية، بقدرتهم على التَّكَيُّفِ مع سياسة فتح الأسواق في ظل العولمة النيوليبرالية، حتى تراكمت الديون التي لم يستفد منها المواطنون، ولمّا قرر الإحتياطي الإتحادي الأمريكي والمصارف المركزية في الدّول الرأسمالية المتقدّمة زيادة أسعار الفائدة، سنة 2022، تدهور الوضع المالي لهذه الدّوَل وسدّد المواطنون – الذين لم تتم استشارتهم ولم يستفيدوا من هذه الدّيون – ثمن هذه السّياسات الخاطئة، فتراكمت مشاكل انتشار وباء “كوفيد- 19” وآثار الحرب في أوكرانيا لترتفع أسعار المحروقات والحبوب والأسمدة وعلف الحيوانات والزيوت النباتية ومجمل أسعار السلع الغذائية وارتفعت نسبة التضخم، وأدّت هذه العوامل مجتمعة إلى أزمة ديون جديدة في جميع البلدان الفقيرة أو ما اصطُلِحَ على تسميتها “الجنوب”، التي تضرّرت اقتصاداتها بسبب عوامل خارجية، مثل سريلانكا التي أدّى توقف حركة النقل أثناء فترة الوباء إلى انهيار اقتصادها الذي كان يعتمد على السياحة وتصدير الإنتاج الزراعي، وأصبح اقتصاد العديد من الدّول في حالة رُكُود، ما فاقم أزمة الديون السيادية في بلدان مثل زامبيا وغانا، التي اضطرت إلى تعليق المدفوعات بعدما كانت المؤسسات المالية الدّولية تُقَدّمها كنموذج لنجاح الإقتصاد النيوليبرالي في بلدان “الأطراف” (الجنوب). أما صناديق الإستثمار فسحبت الأموال من البلدان متوسطة النمو لتعيدها إلى أمريكا الشمالية وأوروبا، حالما رفعت المصارف المركزية “الغربية” سعر الفائدة من صفر إلى حوالي 5%، لأنها تستطيع الحصول على معدل عائد أعلى من خلال شراء السندات من الولايات المتحدة وأوروبا وبريطانيا، بدل شرائها من تركيا أو الهند أو من جنوب إفريقيا أو مصر أو من البرازيل، وبذلك عاد  رأس المال المالي من الجنوب إلى الشمال… 

فجوات عميقة

اتسعت الفجوة بين البلدان النامية والمتقدمة، بين عامي 2008 و2023، خلافًا للأهداف المُعْلَنَة لصندوق النقد الدولي والبنك العالمي، لأن المصارف المركزية الأمريكية والأوروبية اتخذت قرارًا أحادي الجانب برفع أسعار الفائدة من صفر إلى خمسة بالمائة، خلال فترة قصيرة، ولأن صناديق الاستثمار اشترطت أسعار فائدة مرتفعة تتراوح بين 9% و 15% أخبرت الولايات الجنوبية لإعادة تمويل ديون بلدان “المُحيط” (بلدان “الجنوب”)، وبلغت النسبة 26% لإعادة تمويل سندات مصر وزامبيا، وتُشكّل هذه الوقائع (وهي قليل من كثير) دلائل على النّهْب المَنْهَجِي لموارد بلدان المُحيط – أي الدّول الواقعة تحت الهيمنة الإمبريالية – من قِبَل بلدان “المركز” (أوروبا وأمريكا الشمالية، أي الدّول الإمبريالية) برعاية المصارف المركزية والأمم المتحدة ومؤسسات بريتن وودز (البنك العالمي وصندوق النّقد الدّولي ومنظمة التّجارة العالمية…) ويؤكد أحد التقارير الذي أصْدَرَهُ صندوق النقد الدولي بعنوان “آفاق الإقتصاد العالمي” ( نيسان/ابريل 2023) إن الفجوة اتسعت كثيرًا وبسرعة قياسية بين البلدان “النامية” والبلدان الرأسمالية المتقدمة، بين سنتيْ 2008 و 2023، وإنه يتعين على البلدان النامية انتظار 130 سنة لتتمكن من تقليص الفجوة التي تفصل دخل الفرد فيها عن دخل الفرد في البلدان الرأسمالية المتقدمة إلى النصف، بعد أن كان الدّخل متقاربًا خلال فترة بدايات الثورة الصناعية.

لقد أدّت سياسات “الإصلاح” و “التكيف الهيكلي” إلى خفض الإنفاق الحكومي وخصخصة التعليم والأنظمة الصحية وتقليص الحماية الإجتماعية في بلدان الجنوب، وزيادة الإعتماد على توريد الحاجيات الأساسية للمواطنين كالغذاء والأدوية، وإلى تعميق الفجوة بين الأثرياء والفُقراء، وإلى تضييق حيّز الحقوق الإقتصادية والإجتماعية…

تُشكّل “مَرْكَزَة” (أو تركيز) رأس المال تهديدًا للدّول الفقيرة خصوصًا مع ارتفاع حجم الدّيُون التي دَمّرت الإقتصاد وأدوات الإنتاج والمجتمعات والبيئة ومع ارتفاع حصّة الدّيون وفوائدها من ميزانيات هذه الدّول، ما يستوجب تكتّل الدّول الفقيرة لمواجهة عواقب الديون التي أصبحت شكلا من النهب والسلب والهيمنة، ولبناء بدائل عاجلة للدّفاع عن السيادة وعن الفئات الأشد فقرًا وهشاشةً… 

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.