كيف رسخ أدب المنفى القضية الفلسطينية؟ / غنوة فضة

غنوة فضة ( سورية ) – الأحد 3/3/2024 م …




لا تبحث الكاتبة الفلسطينية التشيلية لينا مرواني في كتابها “أن تعودي فلسطين” الصادر عن الكتب خان  عن مجرد التوثيق عبر السيرة الذاتية، إنما تجعل من نصها مناسبة لطرح الأسئلة حول الأصل والهوية والوطن، وعن الحدود واللغة وكل ما يشكل ملامح الإنسان ويصوغ شخصيته. 

ومن خلال رحلة مضنية تعيد اقتفاء جذور عائلتها، من دون أن تقتصر على الجانب الذاتي، بل تسبر تلك الآلام التي أفرزتها العنصرية داخل أميركا اللاتينية، وهي بالتالي تعود كمن يفتح ندبةً دمغت تاريخ أسرتها؛ تلك الدمغة الموسومة بالإرث الذي يضمحل مع مرور الوقت، والغياب الذي يكشف عن الجروح التي طالت الفلسطينيين المهجَرين على يد العثمانيين عام 1915، وآثار النبذ الذي لقوهُ في بلاد المنفى. 

بهذه الطريقة، تصبح الكتابة طريقة تفكيرٍ تفهم عبرها مرواني نوعية العالم من حولها، كابنة لأسرة مهجَّرة وكلاجئة، وهو ما يقودها إلى تفكيك أشكال العنف وتحليل ثقافة التهميش والإقصاء داخل المجتمعات.

“إذاً، فلسطينيو الـ48 هم الذين بقوا، فأيّ اسمٍ يطلق على الذين اغتربوا؟”. من هنا تدفع الكاتبة بسؤالها الكبير حول المأزق الذي أسقِطَ فيه الفلسطينيون المهاجرون، وظلوا عالقين بين مطرقة التهجير وسندان العنصرية. ذلك المحو من أرض الأجداد، والدفع إلى الرحيل عن الموطن الأصلي نحو بلاد لم تفتح لهم أبوابها، إنما واجهوها بأسمالهم الممزقة وعرباتهم الجوالة. لذا، تلبي الكاتبة دعوة صديق مقيم في فلسطين، وهي بعودتها لا تمثل فقط دور اللاجئة العائدة إلى موطنها الأصلي، بل هي عودة تجسد عودة الأب والجد معاً؛ أي العودة التي لم تحدث لهما، وكأنها بضلوعها بذلك الرجوع تحمل إرث أسرتها المهجرة، وتلقي على عاتقها مسؤولية إعادة نسبها الفلسطيني المقبل نحو الاضمحلال؛ ذلك النسب الذي عرّضها بمجرد وصولها إلى مطار هيثيرو للاستجواب والتفتيش مع أولئك الذين يشاركونها ملامحها الجسدية. هنا تظهر الملامح الفلسطينية، من شعرٍ مجعد وبشرة زيتونية، تهديداً في المطارات وعلى نقاط التفتيش، إلا أن مرواني تعترف بتكريس انتمائها وسط تلك المضايقات أكثر من أي وقت مضى.

إذاً، هي عودة مستعارة تضلع بحق الآخرين بها، ومنها تستعرض الكاتبة ما خسره الفلسطينيون في المنافي. وفي طريقها إلى بيت جالا، حيث جذورها الأولى، تتقصّى لغتها العصية عليها، وتتبع سيرة جدها الهارب إلى تشيلي خوفاً من تعسف العثمانيين، وحيث بدأت مأساة العائلة، من العنصرية التي واجهوها، إلى العناء الذي كابدوه في العمل كباعة متجولين، الأمر الذي يضعنا أمام نص يجعل من كتابة الترحال بحثاً في أصول الاقتلاع من الأرض الأصلية، وفي آثار الهجرة إلى أوطان تجعل المرء إنساناً من الدرجة الثانية. تقول الكاتبة: “أنا أيضاً فلسطيني. فلسطيني مولود في المنفى. أخبره أن فلسطين تبعث لي بالمرسلين، تستدرجني، تطالبني..”.

هكذا تحمل لينا مرواني على عاتقها ميراث المنفى، وتحلم ببلاد تعيدها نحوها. نحضر هنا مكاشفة الفقد الفلسطيني من كثب، وليس من بلاد المهجر، ولا عبر القارات، إنما من داخل حدود الأرض المحتلة. تعود، وكأن ذلك الاختفاء الجزئي لجنسية تشيلية يتبخر من خاطرها، وهو ما تدعمه حين تعترف أثناء خضوعها للتفتيش في القدس: “كنت أكثر فلسطينية مما كنت عليه آخر أربعين عاماً على وجودي”، وحالها هنا حال اللاجئين في تلك الوسطية التي عاشوها وفقدانهم حق المواطنة الأجنبية مقابل فقدانهم الحق بالعودة. وفي حال لم يعودوا، فهم في حالٍ أبدية من العيش على الحافة، والاقتراب من المحو، ومن بعده الاضمحلال والتلاشي. 

هكذا تصف الفلسطيني في المنفى، والفلسطيني على أرضه المحتلة، كمن قضى عمره على حافة الاضطهاد والوعد بالحرية، وهو ما يجعل من تهجير الفلسطينيين مسألة تستحق أن تستعاد في كل حين، ليس لغاية تذوق مرارة النزوح، إنما لأن ذلك النزوح وقع تحت ظروف تاريخية حملت خسارتهم إمكانية العودة، وهو ما تقرّ به الرواية، إذ تسعى إلى صون حق مغيَّب، هو الحق بالعودة، والحق بالانتماء وصيانة ذلك الحق والإقرار به، والتصريح بذلك المحو الذي طال كل من هُجرَ ومُنعَ عن العودة. 

وعبر ما بقي من ذاكرة العمات في بيت جالا، تتعقّب مرواني حقيقة اسمها الفلسطيني، وتستعيد الظروف التي مُنحوا خلالها أسماءهم، والتي كانت حصيلة حوارات غير مفهومة بين المهاجر الفلسطيني الأول وموظف الهجرة الناطق بالإسبانية، أي أن معظم الفلسطينيين في المنفى يحملون أسماء دوّنها موظف لا يفهم العربية، بل نطق بالأسماء وسجلها مثلما تتناسب مع لغته وقدرته على لفظ العربية.

وهنا تحفظ الكتابة تلك المغالطات، ويكشفها النصّ كنوع من المسؤولية في مواجهة ثقافة التبييض (محو الثقافات غير البيضاء في تشيلي) وكأنها بعودتها وتجوالها في فلسطين تنتقم من ذلك النسيان والتستر على أصلهم الفلسطيني، ومن تلك المحاولات المريرة لتوضيح أنهم لم يكونوا يوماً أتراكاً.

من مصادرة الوقت على نقاط التفتيش والصراع بين التجنيس الذي يحمل ضمنياً التخلي عن العودة والعودة ذاتها، يتفكك الشتات الفلسطيني بأدق صور مأساته، ويمسي وجود الفلسطينيّ في العالم مثل ندبة، هي ندبة تسخر من المحميات المشيدة على قرى مدمرة ومنتزهاتٍ يقبع التاريخ أسفلها منجداً بالأشجار، هي ندبة تصورها الكاتبة مثل وشم على وجه العالم الأعمى، وعلامة تذكر البشرية أن الأرض الفلسطينية ليست أرضاً من غير شعب، ولم تكن يوماً أرضاً سائبة: “أعود، هذا هو الفعل الذي يداهم ذهني في كل مرة تثب إليه إمكانية فلسطين. أكلم نفسي: هي ليست بعودة، بل مجرد زيارة أرض تطأها قدماي لأول مرة، أرض ليس لها أي وجود في ذاكرتي، ولو صورة واحدة منها، فلطالما كان كل ما هو فلسطيني، بالنسبة إلي، مجرد همهمة يُسمع صوتها في الخلفية، قصة نلجأ إليها لننقذ أصلنا المشترك من الاندثار. إنها عودة، نعم، ولكنها ليست بعودتي أنا. هي عودة مستعارة، أي أن أعود بدل الآخرين. بدل جدي. بدل والدي”.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.