هذه أيضا مناظر يجب ألاّ نألفها! / د. كمال ميرزا

د. كمال ميرزا  ( الأردن ) – الثلاثاء 5/3/2024 م …




ليس فقط مناظر القتل والدمار والتنكيل والتشريد والمعاناة، فبعد (150) يوما من حرب الإبادة والتهجير يبدو أنّ هناك مناظر أخرى كان يجب ألاّ نألفها ولكننا للأسف ألفناها!
منظر الناس الذين يخرجون، كالنمل يخرجون، ولا نعرف من أين يخرجون، فورا بعد القصف، وسُحُب الدخان والغبار لم تنقشع بعد، ويهرعون نحو الحطام والركام بحثا عن ناجين ينقذونهم، أو جرحى يغيثونهم، أو شهداء ينتشلونهم..
من الممكن أن يتجدد القصف.. لا يهم، من الممكن أن تنهار فوقهم الأنقاض.. لا يهم، من الممكن أن تكون هناك قذائف لم تنفجر بعد وقد تنفجر في أي لحظة.. لا يهم..
ألا تظنون أنّ هذا منظر لم يأخذ حقّه من التفكير والتأمّل؟ ألا تظنون أنّ هذا منظر يفوق الخيال؟ ألا تظنون أنّ هذا منظر من فرط بطولته ننسى حتى أن نتتبه كم هو بطوليّ؟
هذا منظر لا ينبغي أن نألفه!
ماذا عن منظر أمّ تزغرد لاستشهاد ابنها، وتزفّه لمن حولها، وترفع معنوياتهم بدلا من أن يرفعوا معنوياتها، وتحتسبه عند الله فداء لفلسطين والأقصى والمقاومة!
هذا منظر قد تواتر على امتداد تاريخ القضية الفلسطينية وليس فقط بعد (7) أكتوبر لدرجة أنّه أصبح عاديا جدا ومألوفا جدا بالنسبة لنا!
ألا تظنون أنّ هذا أيضا منظر لا ينبغي أن نألفه؟
ابحث في قصص وأساطير الأوّلين والآخرين، لن تجد للأمّ الفلسطينية مثيلا، وها نحن نمر أمام بطولتها وعظمتها مرور الكرام!
ماذا عن مناظر الأطفال وهم يلهون ويلعبون أينما تيسّر لهم اللعب، ويغنون متى ما تيسّر لهم الغناء: بين الخيام.. في مراكز الإيواء.. فوق الركام.. على قارعة الطرق التي لم تعد طرقا..
الجوع يستبدّ بهم، والموت يتربّص بهم، و”الزنّانات” من فوق رؤوسهم تزنّ في آذانهم.. ولكن في عيونهم حياة لو وُزّعت على أهل الأرض لكفتهم!
تنظر إلى أحدهم فترى فيه براءة تظنّ معها أنّه مسكين غلبان مغلوب على أمره، فإذا تكلّم تجد لديه وعيا ومنطقا وحضورا وكاريزما تشعر معها أنّك أنت المسكين والغلبان والمهزوز والمهزوم!
ألا تظنون أنّ أطفال غزّة أعجوبة من أعاجيب الزمان تستحق وحدها أن نقف أمامها طويلا؟!
ماذا عن صيّادي غزّة، هؤلاء الذين يصرّون على الخروج متى وجدوا للخروج سبيلا بقواربهم الصغيرة، لينثروا شباكهم التماسا لرزق يسوقه إليهم الله، بعيدا عن منيّة حصار يُحكمه القريب قبل البعيد، أو مساعدات مسرحية تنزل من السماء ولا تسدّ الرمق!
منظر واحدهم وهو واقف وسط قاربه المتهالك تتقاذفه الأمواج وزوارق العدو الحربية يجعلك تقول فَشْرتْ روايتي “العجوز والبحر” و”موبي ديك” مجتمعتَين!
ماذا عن سائقي الحناطير وهم يذرعون الشوارع التي حرثها قصف العدو وآلياته وجعلوا عاليها سافلها؟! هؤلاء وحدهم يعهّرون للعدو كلّ فكرة حربه ودماره وحصاره ويدوسونها تحت حوافر حميرهم وبغالهم!
منظر قنّاص الغول وهو يتموضع بكل هدوء ورويّة وبرود أعصاب وكأنّه راهب يتأمل أو ناسك يمارس طقسا تعبّديّا!
استحضر في ذهنك كل الصور التي خزّنتها ذاكرتك من أفلام هوليوود أو مسابقات الرماية الأولمبية، ستجد أنّها جميعا تتبدد أمام هيبة ووقار قنّاص الغول وهو يوشك أن يضغط زناد بندقيته!
منظر قذيفة الياسين وهي تبدد كبرياء “الميركافاه” وغطرستها.. ومنظر حمم الهاون وهي تنطلق من سبطاناتها.. ومنظر رشقة الصواريخ وهي تندفع تباعا نحو كبد السماء..
لقد ألِفنا جميع هذه المناظر حتى أصابنا البَطَر، وأصبحنا لا نقنع بحصيلة يومية تقتصر على تدمير دبابة أو اثنتين، أو إيقاع عشرة جنود أو عشرين.. ونحن الذين أمضينا أعمارنا نقبع في ظلّ أنظمة عربية وإسلامية لم تطلق رصاصة واحدة من أجل فلسطين منذ 50 سنة، ولا تجرؤ على مسّ الكيان الصهيوني ولو بشكّة دبوس، وتذود عنه باسم “التنسيق الأمني” و”مكافحة الإرهاب” (وهو أمّ الإرهاب وأبوه) مالا يذود هو عن نفسه!
كلما شعرتَ بانقباض، كلما أحسستَ بضيق، كلما حاول اليأس والقنوط أن يتسللا إلى صدرك، اجلس مع نفسك، واستحضر شريط الأحداث طوال الـ (150) يوما الماضية، واسأل:
هل مرّ في التاريخ شيء مثل هذا؟!
هل عرف التاريخ شعبا مثل هذا؟!
ولا تختن نفسك، وتجرّأ وقلها: حتى مآثر الصحابة الأوائل والفتوحات الأولى لا تكاد ترقى لمأثرة يوم واحد من الصمود الأسطوري لأهالي غزّة!
هذه جميعها وأكثر مناظر لا ينبغي أن نألفها، بل هي المناظر التي يجب أن نستحضرها، ونصرّ على استحضارها، وذلك في مواجهة الصورة المُغرِضة التي يحاول الإعلام الخبيث مؤخّرا تكريسها لأهالي “غزّة” الأبطال الصامدين، وتصويرهم كجموع من الجياع الذين يندفعون لاهثين لتسقّط صناديق الإغاثة التي لا تُسمن ولا تُغني من جوع، والتي يتم تنقيطها عليهم من السماء وكأنّها هبّات مُنزَلَة بدلا من أن يتم فتح المعابر وكسر الحصار كما تقتضي أبسط مقتضيات المروءة والمنطق والحِس السليم!

 

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.