الآليات الخفية للفقر في العالم الثالث




مدارات عربية – الأربعاء 6/3/2024 م
الهند و الصين و سنغافورة و تايوان و البرازيل و بنغلاديش و مصر و تركيا و جنوب افريقيا و عشرات الدول الاخرى التي يتم تعريفها احيانا بدول العالم الثالث او الدول الصاعدة او غيرها من التسميات, هذه الدول هي في الواقع الدول المنتجة في عالمنا المعاصر. اما اوروبا الغربية و الولايات المتحدة فهي الدول المستهلكة لمنتجات هذه الدول. فمنذ السبعينات و حتى يومنا هذا شهد العالم هجرة للرساميل و الصناعات من الدول التي عرفت بكونها صناعية الى العالم الفقير, و برغم هذه الهجرة فانه حتى يومنا هذا ما زالت الفوارق بين الدول الغنية و الدول الفقيرة في تزايد مستمر.
كيف من الممكن و المنطقي ان تصبح الدول الاكثر انتاجا اكثر فقرا من الدول الاقل انتاجا و الاكثر استهلاكا؟ و لماذا يستمر هذا التفاوت في التزايد؟ اذا تجولت في الاسواق الاوروبية و الامريكية فانك تكاد لا ترى بضاعة من صنع محلي فلماذا اسيا تزداد فقرا و اوروبا و امريكا تزداد غنى نسبيا؟
 
ان فهم هذا الامر يعد حيويا و مهما جدا بالنسبة للشعوب في دول العالم الثالث, لان هنالك عملية نهب دولية تحصل ليس بسبب الاشرار و المتآمرين بالدرجة الاولى بل بسبب بنية و اليات النظام الراسمالي واقتصاد السوق نفسه. و اذا لم نفهم ذلك فاننا سنواصل في بلداننا طقوس الجهل التي يتسم بها الكثير من دعاة الاصلاح و السياسيين في بلداننا بامتياز ويروجون له و لن نستطيع رؤية مشاكلنا الحقيقية و جذور الفقر المتزايد في بلداننا.
 
لقد تحدثنا سابقا عن وثيقة الاليات الحديثة للنقود التي صدرت عن البنك المركزي الامريكي عام 1971 نرجو ان تعودوا الى وثائقنا السابقة لفهمها. هذه الوثيقة و فهم اليات عمل النظام المصرفي العالمي يعد من اهم الامور التي يتوجب تناولها بعمق لمن يريد ان يتقصى حقيقة ما يجري في عالمنا. و باختصار فان هذه التشريعات التي اصبحت مقررات دولية للنظام البنكي و المصرفي العالمي خولت البنوك صلاحيات طبع النقود بدون غطاء. مع تحول الدولار و فيما بعد اليورو بالدرجة الثانية الى العملة الرسمية في التجارة الدولية ظهر تشويه منقطع النظير في اقتصاديات الدول النامية و هي الدول التي اصبحت اصلا نامية بسبب تدفق الدولار المطبوع عليها. اصبح البنك الاحتياطي الفيدرالي الامريكي يضخ النقود في حسابات الشركات الكبرى لشراء البضائع من هذه الدول او الاستثمار فيها و يمنح الديون للحكومة الامريكية لتمويل نفقاتها الداخلية و تحريكها للاسواق الداخلية و زيادة الاستهلاك المحلي. فنشأت صناعة ضخمة في البلدان النامية تنتج البضائع ليس لاسواقها بل لتسويقها في اوروبا و امريكا. هذه الصناعة الناشئة تعتمد على التصدير فقط و لا تستطيع ان تعيش على اسواقها الداخلية, بسبب تدني مستويات المعيشة و فقر سكانها. و كلما اوغلت دول العملة الصعبة الدولار و فيما بعد اليورو في طبع النقود انخفضت قيمة عملتها مما اضطر الدول في العالم الثالث الى خفض قيمة عملاتها هي الاخرى لاجل المحافظة على قدرتها التنافسية في الاسواق الامريكية و الاوروبية و هي الظاهرة التي اشتهرت بحرب خفض العملات. و التي لم تكن في الحقيقة سوى حرب على المليارات من البشر الفقراء و المعدمين خصوصا في العالم الثالث. و كلما ازدادت هذه المجتمعات فقرا ازداد اعتمادها على اسواق العالم الغني. فاصبحت الصورة النهائية كما هي عليها اليوم فان الدول الغنية تمتلك منتجات الدول الفقيرة و لدى مواطنيها قدرة شرائية عالية اما الدول الفقيرة فان الحكومة و اصحاب الشركات فيها يمتلكون العملة الصعبة الدولار و اليورو بينما يعيش مواطنيها في ثكنات حقيرة للعمل في بؤس و فاقة .
 
هذه العملية تسير جنبا الى جنب مع نظام المديونية و الفوائد. حيث تتراكم الديون على الدول النامية بالاضافة الى الفوائد التي يتم اضافتها الى الديون القديمة و وضع فوائد عليها مرة بعد اخرى مما يجعل الدول الغنية تستورد بضائعها لقاء فوائد ديونها. انها في الحقيقة تاخذ البضائع و الخامات مجانا. لان هذه الدول حصلت منذ البداية على عملة تم خلقها من لا شئ و على هذه الدول دفع فوائد على هذا اللا شئ على شكل بضائع قام بانتاجها ملايين البشر يعيشون في اشد انواع الشقاء و الحرمان. و معظم هذه الديون التي تحصل عليها الدول النامية يتم استثمارها في مشاريع تقوم بها شركات غربية و تذهب نسبة كبيرة منها في عمليات فساد و تتحول الى ارصدة لرجال الحكم في بنوك في الخارج.
 
الدول النامية يفترض بها ان تحاول الاعتماد على اسواقها الداخلية و تطويرها لها عن طريق رفع مستويات دخل سكانها تدريجيا و المحافظة على قيمة عملتها لكي تخرج من دوامة الفقر هذه. ولكن هذه العملية تواجهها عقبات جمة فالقطاع الخاص مكيف للتصدير و يعتمد على الاسواق الخارجية و لا يمكن تغيير هذا البناء الهش و المشوه دون ان يؤدي الى افلاس المنتجين الذين هم يعانون اصلا من تباطؤ الاقتصاد العالمي وهو ما سيؤدي الى دخول هذه المجتمعات في حالة من الفوضى الامر الذي لا يمنح هذه الدول اية فرص للنجاح في القيام بهذا التحول.
 
الوصف الصحيح لما يجري في العالم هو ان هنالك نظام اجتماعي قد انهى دوره التاريخي و دخل طور الانحطاط, ينبغي تغييره و اقامة طريقة جديدة للحياة على الارض لان دائرة الفقر و الحروب ستتسع و ستواصل سحقها للحياة و لكل الاشياء الجميلة في حياتنا و تستبدله بالقبح و الكراهية. و سيكون علينا في نهاية المطاف ان نختار بين موت حضارتنا او بناء الجنة على الارض … الامر متروك لسلوكنا نحن البشر في السنوات القادمة.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.