لماذا وَجْهُنَا للماضي وظهرنا للمستقبل؟ / د. بسام أبو عبد الله




د. بسام ابو عبدالله – الخميس 7/3/2024 م …

لا أخفي أبداً أن التغذية الراجعة للآراء والانطباعات بعد اللقاء المهم يوم الـ22 من شباط الماضي للرئيس بشار الأسد مع مجموعة من الكوادر البعثية، تراوحت بين التفاؤل والتشاؤم والانتظار، فالبعض ممن أرسل ردود فعله ركز على الشخصيات التي شاركت في هذا اللقاء، وأهميتها وتأثيرها في الساحة الوطنية عامة، والفكرية خاصة، وعلى تجاربها، والبعض الآخر، وهم كُثر، ركزوا على الأفكار، والمحتوى الذي تضمنه هذا اللقاء ما دفعهم للتفاؤل والقول إن القادم أفضل، وعلينا أن ندفع جميعاً بهذا المشروع الوطني الكبير الذي لا مفر أبداً من الخوض في غماره، وتحدياته الجمة، ومصاعبه التي ستظهر في الطريق، فطريق الإصلاح ليس طريقاً معبداً ومفروشاً بالورود، ونتائجه ليست فورية ورغبوية وعاطفية، لأن التحديات الماثلة أمامنا هائلة وعديدة، وترتبط أساساً بمنهجية التفكير، وآليات العمل، وتغيير المنظومات المتعبة والمتقادمة، كما أن طرق الحل والمخارج تحتاج لجهد الجميع، ولشراكة واسعة، ولقدحِ الأفكار، والإبداع والابتكار، أي إن الإصلاح مسألة لا ترتبط بأوامر تصدر من الأعلى للأدنى بل بتفاعل واسع من الأدنى للأعلى ليتشكل حاضن اجتماعي دافع وحامل لأي فكرة أو مشروع، وفي هذا الجانب علينا أن نؤسس لذلك بالاعتراف ببعض القضايا، وهي مسائل تناولها الرئيس الأسد في هذا اللقاء، وسأحاول تلخيصها فيما يلي:

1- التخلص من الأحكام المطلقة، والمفاهيم المطلقة، وهو منهج تفكير سائد في مجتمعاتنا، وطرق تفكيرنا، ويرتبط الأمر بادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة، وغياب التفكير النقدي، ما يسبب أمراضاً كالاستعلاء، والاستسهال، والابتعاد عن التحليل العلمي الدقيق الذي يعطي أي ظاهرة حجمها الحقيقي، ويقدم الآليات والبرامج لإيجاد حل لها، ودعوني أقدم بعض الأمثلة:

• هناك من تحدث عن البعد الطائفي- المذهبي خلال فترة الحرب على سورية، وأطلق أحكاماً مطلقة، والحقيقة أن الواقع يشير لوجود هذه الظاهرة، لكن من دون تعميمها، وإلا كيف ضحى مئات الآلاف بحياتهم من أجل وحدة سورية وشعبها، أي إن الأمر نسبي، وليس مطلقاً!

• هناك آخرون تحدثوا عن قضية الخيانة الوطنية بالمطلق، أو التطرف الديني بالمطلق، أو إشكالية الهوية بالمطلق، والحقيقة أن الخيانة لا لون لها، وهناك أمثلة كثيرة لا مكان لذكرها هنا، والتطرف الديني انتشر في مناطق عديدة، لكنه ليس عاماً، وإشكالية الهوية ظهرت بسبب تراجع دور الدولة ومؤسساتها، ووجود تراجع ثقافي- فكري أهمل، أو تغاضى، أو أنكر هذه الإشكالية لسنوات، أو عقود، وبالتالي كل هذه الظواهر موجودة، وعرفناها في فترة الحرب ولا تزال، لكن التعميم المطلق خاطئ علمياً، ونحتاج لدراسة كل ظاهرة بحجمها الحقيقي من دون إنكار للواقع، مع طرح طرق الحل والعلاج، أما إطلاق الأحكام فهذه مشكلة لدينا في منهج التفكير، وأستطيع أنا وغيري أن نقدم عشرات الأمثلة على المطلق الذي يتحكم بنمط التفكير لدينا.

2- الجلوس في قوالب جامدة غير مرنة، فعندما نقدم سياسات تصلح لزمن، وظروف معينة، أو نصمم منظومات عمل في زمن معين، ترانا نتمسك بها بأسناننا، وأظافرنا لعقود من الزمن، على الرغم من أن تطور المجتمع والأجيال، ودخول التكنولوجيا على حياتنا يجب أن يدفعنا لتغيير هذه المنظومات في العمل لأنها لم تعد تلبي حاجات المجتمع، ومصالح الدولة العليا، وعندما نفكر في التغيير متأخرين تبدأ القوى التي اعتادت على المنظومات القديمة بمقاومة التغيير لأنها تعودت على الرتابة والروتين، ولا تريد طرق العمل الجديدة وأدواتها، وهنا يمكن الحديث عن نماذج عديدة لهذه القوالب من مفهوم الاشتراكية لدى حزب البعث الذي مازال كلاسيكياً مثلاً، إلى مفهوم الطبقات وتبدلها مع مرور الزمن، إلى سياسة الاستيعاب الجامعي التي كانت ممتازة ومفيدة في مرحلة زمنية معينة، لكنها تحولت إلى كارثة على الجامعات ونوعية الخريجين وسوق العمل، إلى سياسة الخدمة الصحية المجانية التي تحتاج لإعادة هيكلة وترتيب، وصولاً لسياسة الدعم التي نعتبرها خطاً أحمرَ، وهي كذلك، ولكن الدعم لمن وكيف؟ وهل سياسة الدعم صالحة أم التمكين كما فعلت دول أخرى عديدة؟ وهنا للإيضاح: الدعم سيستمر كخط استراتيجي، ولكن لمحتاجيه، ومستحقيه، وليس لأولئك الذين يؤكدون على الدعم فقط من أجل استمرار فسادهم!

كما ترون أمثلة كثيرة تحتاج للتفكير والنقاش، والخروج من القوالب الجامدة، التي جلسنا داخلها دون أن نعرف كيف نطورها من أجل مصلحة الناس.

3- سياسة إنكار الواقع والهروب من الحقائق، وهذه النقطة دائمة الوجود في حياتنا، لأننا نريد إرضاء العواطف والاعتقاد بأن الزمن كفيل بحلها، وبأنها ستحل بمشيئة الله، وهنا كان الرئيس الأسد واضحاً بالقول: إننا متواكلون ولسنا اتكاليون، أي إن الاتكال على اللـه يكون واجباً عندما نحضر، نتعب، نعمل، نجتهد، ثم يكون الاتكال، وهنا عندما يتحدث الناس عن ظواهر سلبية عامة كالفساد، والترهل، والانتهازية، والهجرة، وغيره الكثير، فلا يجب أن نكون كالنعامة، بل علينا أن نتصدى للظاهرة قبل أن تستفحل وتتحول إلى مرض مزمن، بالطبع مع الأخذ بالاعتبار للظروف الموضوعية والذاتية للبلاد، وطرق الحل، والمواجهة، لكن الأهم الاعتراف بالحقائق وليس إنكارها، لأن الاعتراف بالأخطاء، ونقاط الخلل خطوة أساسية لإصلاحها، مع تحمل المسؤولية الكاملة وليس التهرب منها.

4- التفكير الرغبوي، وهذا النمط من التفكير سائد لدينا، أي التفكير بما نرغب ونريد، من دون الأخذ بالاعتبار إمكانية تحقيق ذلك، ومن دون طرح الحلول والمخارج، بل الاعتماد على الرغبات والعواطف من دون النظر لما هو ممكن ومتاح، ومن دون العمل لتحسين الواقع للوصول للرغبة أو الحاجة، واستخدام التحليل العلمي- الواقعي.

الحقيقة أن هذه الظواهر التي أشرت إليها، وتحدث عنها الرئيس الأسد في ذلك اللقاء المهم، ليس هدفها إلقاء المسؤولية على أحد ما، أو إغلاق بوابات الحل، لأن الطرح تضمن مخارج وآليات، ولكن كان لابد من تحليل هذه الظواهر المرضية التي تعود لأسباب تربوية، ثقافية، فكرية، وليست آنية، فهي ظواهر قديمة- جديدة، ولكن الأساس في طرحها هو العمل على تفاديها مستقبلاً، وتربية الأجيال الصاعدة على ثقافة جديدة، وأنماط عمل مختلفة، وهذا عمل طويل وشاق، لكنه أكثر من ضروري كي لا نكرر أخطاء الماضي، وندور في حلقة مفرغة.

الرئيس الأسد تحدث عن أهمية الرؤية للحزب، والمؤسسات، وتحديد السياسات العامة، والأهداف الواجب العمل عليها كي تتم المحاسبة على أساسها، وهو أمر سيتم العمل عليه بالتأكيد، وكي نتجاوز حالة التنظير لابد من إنتاج الرؤية بناء على حوار شامل من الأدنى للأعلى كي يشكل المجتمع حاملاً حقيقياً للتغيير باتجاه المستقبل، والتخلص من الوقوف الخاطئ كي يكون وجهنا للمستقبل وظهرنا للماضي، فالماضي لا يفيد إلا بأخذ الدروس المستخلصة، والتعلم منه، وأما العيش فيه وبأحداثه في زمن يتقدم بسرعة كبيرة، وتزداد تحدياته ومصاعبه، فهو كمن يدفن رأسه في الرمال.

أحد الأصدقاء ممن يعيشون في المهجر يكتب لي دائماً عبارة «أغبطك على تفاؤلك» وأنا أجيبه بمحبة بأن التفاؤل مصدره اثنان: أولاً- أن من يعمل ويتعب على كثافة المصاعب يشعر بالتفاؤل، وثانياً- لأن من يتعاطى بإيمان، وعلم وعمل مع الأجيال الجديدة يرى ضوءاً في نهاية النفق، وهذا الضوء هو الذي يعطيني ويعطي كثيراً من الناس فسحة الأمل والتفاؤل، إذ هناك آلاف من السوريين يعملون في كل مكان بالأمل والتفاؤل نفسيهما، وما لم نتصدَّ لمشاكلنا، ومصاعبنا بأنفسنا لن يأتي أحد في العالم لفعل ذلك بدلاً عنا.

للفيلسوف والمناضل الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي مقولة شهيرة: «تشاؤم العقل، وتفاؤل الإرادة»، فالإرادة مهم جداً أن تكون متفائلة، والعقل أكثر من مهم أن يعمل بإيجابية وعلمية، فالإنسان السلبي لا ينتج أبداً كما قال الرئيس الأسد، صحيح أن البيئة العامة المحيطة بنا قد تكون طاردة، منفرة، لكن لا حل أمامنا سوى تغييرها بالتدريج، وإنتاج بيئة مغايرة منتجة دافعة للأمام، وفي الزمن الصعب تظهر معادن الناس، وتختبر إراداتها، ولا حل آخر أمامنا، على الرغم من ارتكاسات تجارب سابقة، ووجود قوى ليست سهلة تقاوم التغيير، ومع ذلك سنخوض جميعاً ومعاً هذا التحدي الكبير.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.