في اليوم العالمي للمرأة… لماذا تُركت المرأة الفلسطينية وحيدة؟ / بثينة عليق

بثينة عليق ( لبنان ) – السبت 9/3/2024 م …




في يوم المرأة العالمي، وبالتزامن مع الحرب الإسرائيلية المستمرة على غزة، والتي تدفع فيها المرأة الفلسطينية ثمناً كبيراً، من المفيد التوقف عند بعض الإشكاليات ذات الصلة.

من المؤكد أن المرأة تعرضت تاريخياً لأنواع متعددة من الظلم والتمييز لأسباب متعددة. هذه الحقيقة لا يمكن إنكارها او التنكر لها، وبالتالي فإن حركات تحرر النساء، التي انطلقت بداية القرن الماضي، لم تنطلق من فراغ. إلا أن المشكلة أن هذا الفضاء كان من أكثر الفضاءات التي اختلط فيها الحق بالباطل.

هذا الخلط حضر منذ أعوام النضال النسوي الأولى. خلال الموجة الأولى من حركة النساء المطلبية، والتي انطلقت نهاية القرن التاسع عشر، كانت الغاية الحصول على بعض الحقوق العامة، والتي يتمتع بها الرجل، مثل العلم والعمل والحياة السياسية والتصرف بالأموال. إلا أن هذه المطالب المحقة سرعان ما شابها تيار يعمل على تحجيم الخصائص الأنثوية المميزة وطمسها، من خلال اقتراب المرأة من النموذج الذكوري. ويمكن القول إن هذا التيار أضرّ حركة تحرر النساء وأساء إليها.

الإساءة الثانية جاءت على خلفية المطالبة بخروج المرأة إلى سوق العمل. سرعان ما تبيّن أن الهدف الحقيقي لم يكن “تمكين المرأة” اقتصادياً، وإنما تأمين يد عاملة للمصانع التي خلت من عمالها الذين التحقوا بساحات الحرب العالمية الأولى. 

وهذا يعني أن الشعارات لم تكن بريئة، وإنما أخفت في طياتها مساعيَ لتأمين مصالح قوى اقتصادية تعاطت مع النساء كيد عاملة رخيصة، وفرضت عليهن العمل ساعات طويلة في ظروف قاسية.

أمّا المناداة بحرية المرأة وتحريرها من القيود متعددة الأنواع فتضمنت أيضاً قطباً مخفية لخدمة القوى الاقتصادية المسيطرة. تكفي الإشارة إلى تجربة عالم النفس بيرنيز في ثلاثينيات القرن الماضي.

مؤلف كتاب “البروباغندا” طلبت إليه شركة سجائر أميركية تنظيم حملة إعلانية لزيادة نسبة مبيعاتها. دعا بيرنيز عدداً من النساء العاملات في مجال التمثيل وعروض الأزياء إلى المشاركة في مسيرة أطلق عليها اسم “مشاعل الحرية”، ودعا ممثلي الصحف الأميركية إلى تغطيتها، لتكون المفاجأة أن المتظاهرات اللواتي شاركن في الحدث أمسكن بين أصابعهن السيجارة، ورحن يدخنّ في وقت كان تدخين النساء غير مقبول اجتماعياً.

في اليوم التالي، نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” عنوان: “مجموعة فتيات ينفثن السجائر إشارةً إلى الحرية”. قال بيرنيز، وهو ابن أخت عالم النفس الشهير فرويد، إن أفضل طريقة لزيادة مبيعات السجائر هي إقناع النساء بالتدخين.

فكانت هذه الخلطة بين السيجارة وشعارات تحرير المرأة والمصالح الاقتصادية للشركات. تلك الحادثة شكلت نموذجاً سيتكرر فيما بعدُ بصورة متكررة. وخلط المصالح الاقتصادية بقضايا المرأة سيرافق الموجة الثانية للتحرك المطلبي النسوي، والتي انطلقت في ستينيات القرن الماضي، واتخذت الولايات المتحدة الأميركية قاعدة أساسية. 

صحيح أن هذه الموجة تلقت دفعاً قوياً من أجواء مطلبية سادت الولايات المتحدة الأميركية، رُفعت فيها شعارات مكافحة التمييز العنصري ومعارضة حرب فيتنام، إلا أن هذه اليقظة، حقوقياً وإنسانياً، لم تمنع الذهاب بعيداً في تسليع المرأة وقضاياها في ظل طغيان النظام النيوليبرالي، الذي يحول الأفراد كلهم، رجالاً ونساءً، إلى مسخ استهلاكي.

في هذه المرحلة، لم تعد الحركة النسائية مجرد أطروحات اجتماعية وسياسية، وإنما تخطت ذلك إلى حد ظهور فلسفة نسوية تحاول تقديم نظرة شاملة تتسلل إلى مختلف جوانب الإنتاج الثقافي، وصولاً إلى الكلام على “حقل معرفي نسوي له قواعده وامتداداته”.

يُسجَّل في هذا السياق ظهور تيار نسوي نقدي للحضارة الغربية، وتحديداً لبعدها الاستعماري، إلا أن هذا التيار لم ينجح في إحداث فارق جدي. بدلاً من ذلك تعرضت النساء من جانب المنظومة السائدة، سواء في زمن الحداثة أو ما بعدها، لما سمّاه الفيلسوف الفرنسي بيير بورديو “العنف الرمزي”، الذي “تمارسه آليات اجتماعية غير واعية تكرّس هيمنة الطبقات العليا لإطالة هيمنتها”، ضاربة بعرض الحائط كلّ الشعارات البراقة بشأن تحرير المرأة.

هذا في بلدان الغرب. أما في بلداننا، فاستخدمت المنظومة الغربية قضايا المرأة واحدة من أدوات الهيمنة، ثقافياً وأيديولوجياً، وكجزء من الأساليب التي يستخدمها الغرب لتطويع سكان مستعمراته.

هذا ما يفسر إغراق مجتمعاتنا بمشاريع وبرامج وأجندات وعناوين نسوية، هي في الحقيقة نتاج ديناميات عاشتها المجتمعات الغربية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وحولها الغرب إلى خطاب هيمنة وتسلط وسيطرة، ولا تشكل بالضرورة أولوية او حاجة لمجتمعاتنا.

وصلت الأمور إلى ذروتها مع غزو منظمات المجتمع المدني النسوية مختلف دول الجنوب. تكاثرت هذه المنظمات في بلداننا، واكتسى وجودها مظهراً غريباً، هو أقرب إلى قوة الاحتلال السياسي، معتمدةً دعماً مالياً من الجهات المانحة الغربية بطبيعة الحال، متبنية العناوين والأجندات التي تُخفي في طياتها اتجاهات تفكيكية عدمية بدأت تجتاح العالم بأكمله.

والأخطر أن عدداً كبيراً من هذه المنظمات وضع نفسه في حالة عداء مع تراثنا، وهذا ما دفع كثيرين إلى التخوف من محاولات تسعى لتحويل النساء في مجتمعاتنا لمادة استعمالية يوظفها الغرب لمصلحة مشاريعه السياسية والاقتصادية والثقافية. لقد أظهر هؤلاء قدرة كبيرة على التأثير مستفيدين من ثُغَرٍ موجودة في بلداننا لا يمكن إنكارها، وممارسات غير صحية لا يمكن تجاهلها. إلا أن الأمور تخطت، في كثير من الأحيان، حدود المعقول، بعد أن بدأت تظهر محاولات لضرب الأسرة وبنية المجتمعات.

هكذا تبخرت الآمال التي علقت من جانب البعض على التيار النسوي، الذي يقوم على نقد الحضارة الغربية وينادي بصون الحقوق التي هُدرت للمرأة والطبيعة وشعوب العالم الثالث.

أظهرت التجربة أن صوت هذا التيار ظل منخفضاً أمام ضجيج التيار الآخر السائد والمسيطر على المشهد العام، والذي بدا منسجماً إلى حد التطابق مع الأجندة والمشاريع لمنظومة الهيمنة الغربية، وأتت الحرب الإسرائيلية الحالية على غزة لتفضح كثيراً من الشعارات، وتكشف كثيراً من الحقائق، وتُسقط أقنعة من النفاق والخداع.

لقد تُركت المرأة الفلسطينية، التي تختصر معاناتها اليوم كل أشكال الظلم الذي عانته النساء تاريخياً، وحيدةً من دون أيّ دعم حقيقي من الجمعيات والحركات التي صمّت آذاننا عبر الحديث عن حقوق المرأة وضرورة تمكينها.

تراجعت منظمات المجتمع المدني النسوية من صدارة المشهد الذي عملت على احتلاله عقوداً طويلة، ولاذت بالصمت، كأن ما تتعرض له المرأة الفلسطينية من قتل وتهجير وتجويع وانتهاك لكرامتها ليس من ضمن اختصاصاتها، في حين كان المطلوب، ولو بالحد الأدنى، أن يعلن هؤلاء يوم المرأة العالمي هذا العام يوماً للمرأة الفلسطينية كممثلة شرعية لكل نساء العالم، وكمحرك لكل النضالات النسوية، عبر مختلف مجالاتها وساحاتها وحقولها المعرفية.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.