مدينة الفاو ميناء العراق والنخيل والحناء

الأردن العربي –  الأحد 10/3/2024 م …




الفاو مدينة حباها الله بكل شيء، فأتاها رزقها رغداً، وأفضل رزق في الفاو هو أهلها. إنها مدينة تحمل في رحمها التراث الذي تجسده كل منطقة وقرية وحارة من حاراتها، أين ما يممت وجهك تجد أهل الخير والكرم والبساطة، تجد الناس الذين تأمن العيش بجانبهم. الفاو ساحلية مطلة على الخليج العربي، وهي آخر أراضي العراق إذ تمثل حافة حدوده الجنوبية، وتمثل إداريا مركز قضاء تابع لمحافظة البصرة. وللفاو موقع استراتيجي ارتبط بما جرى على أرضها من حروب طوال تاريخ العراق الحديث منذ الحرب العالمية الأولى حتى الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003. وتقع المدينة في أقصى الجنوب الشرقي لمحافظة البصرة، وهي عبارة عن شبه جزيرة، أو لسان أرضي ممتد داخل الخليج، وتبعد عن مركز محافظة البصرة 100 كيلومتر، ويبلغ عدد سكانها اليوم أكثر من خمسين ألف نسمة.
كانت المدينة حتى العام 1960 ناحية تابعة لقضاء أبي الخصيب، ثم تم استحداث قضاء الفاو بتاريخ 30 آب/أغسطس 1960. تشتهر المدينة بمنتجاتها البحرية كالأسماك والروبيان والملح إضافة إلى زراعة أشجار الحناء والنخيل الذي تناقصت أعداده بعد الحروب التي شهدتها المنطقة وأعتاها كانت الحرب العراقية الإيرانية حيث سقطت الفاو في يد القوات الإيرانية عام 1986 وتم تحريرها بعد حملة عسكرية شرسة عام 1988.
يمتاز مناخ المدينة بأنه جاف حار صيفاً وبارد رطب شتاء، وأكسبها موقعها على رأس الخليج أهمية اقتصادية كبرى بصفتها الميناء الأهم لتصدير البترول العراقي، كما أن عددا كبيرا من أهالي الفاو يمتهنون جمع الملح من ممالح المدينة الكبيرة، كما يعيش عدد كبير من سكانها على صيد السمك، لكن هذه المهنة تواجهها عدة مشاكل منها التجاوزات على مراكب الصيد العراقية واحتجازها من خفر السواحل الكويتية والإيرانية، وكذلك الاعتداء على المياه الإقليمية العراقية في استغلال للغياب الواضح لدور البحرية العراقية في حماية أرواح وممتلكات الصيادين. سوق السمك في مدينة الفاو دائما عامر بمختلف أنواع الأسماك والروبيان، ففي ساعات الصباح الأولى يجتمع صيادو الأسماك في منطقة «النكعة» وهو المكان الذي يقع على جرف شط العرب شرقي المدينة حيث يبيعون صيدهم.

مدينة الفاو إداريا

ويضم قضاء الفاو إدارياً ثلاث نواحي هي ناحية الفاو ومركزها الفاو الشمالي، وهو الشطر الكائن على ضفة شط العرب اليمنى والحاوي على دوائر الدولة ومؤسسات الميناء والسوق التجاري. وناحية البحار ومركزها قرية الدورة التي تم استحداثها عام 1962. وتم ربطها بمركز القضاء بطريق مسفلت. وناحية الخليج العربي مركزها الفاو الجنوبي والقشلة التي تبعد عن قصبة الفاو بمسافة 25 كيلو متراً ويتكون هذا القسم من 27 حوزاً وهذه الأحواز تضم معظم سكان الناحية الأصليين. إضافة للقرى التالية: كوت خليفة، كوت بندر، الدواسر، الفداغية، المعامر، ورأس البيشة.
ظلت الفاو ناحية صغيرة حتى عام 1903 عندما صيرها العثمانيون قضاءً لتزايد أهميتها العسكرية إلا إنها اهملت فيما بعد وعادت لتصبح ناحية مرة أخرى، وقد زاد الاهتمام البريطاني بالفاو عندما فكر العثمانيون بتشييد حصن عسكري فيها في ثمانينات القرن التاسع عشر واختاروا له موقعا بين جدولي بوسعيد وملا عيسى إلى جنوب دائرة التلغراف بمسافة 300 متر.
أن ما يميز الفاو عن سائر مدن الخليج غابات النخيل الكثيفة التي تبدأ من مسافة حوالي أربعة أميال من رأس البيشة، ولا تبعد عن شاطئ شط العرب سوى مسافة تتراوح بين 200 ـ 800 متر، إذ قدر عدد نخيلها عام 1917 بعشرين ألف نخلة. وامتازت تمورها بالجودة وكانت ترسل إلى البصرة لتعبئتها في صناديق استعداداً لتصديرها إلى أوروبا وأمريكا. واشتهرت الفاو بأنواع التمور الفاخرة إذ تنتج بساتينها أكثر من 42 صنفا من أجود أنواع التمور منها، أسطة عمران وأشقر وأصابع العروس وأم الدهن والبرحي وبنت السودة والبريم وبنت السبع وبنت الصفراء والزهدي وخضراوي ومكتوم أحمر وقنطار وجبجاب وحمراوي وأنواع أخرى.
وقد امتلك شيوخ الكويت من آل صباح بساتين في الفاو قيل إنهم حصلوا عليها من والي البصرة عندما ساعدوا الحملة العثمانية على الإحساء عام 1871. وقد فند الدكتور حسين القهواتي في كتابه «دور البصرة التجاري في الخليج العربي» 1869-1914 ص166 هذا الرأي، وذكر رأيا أكثر واقعية ارتكز على إن بعض بساتين الفاو قد انتقلت حيازتها إلى آل الصباح قبل هذا التاريخ، وتحديدا عام 1834 وهو العام الذي التجأ فيه راشد ناصر السعدون إلى آل الصباح ونتيجة لما قدمته العائلة إليه عندما كان مستجيرا بها، أهدى راشد السعدون مقابل ذلك ثلاثة أحواز (جنوب المعامر) إلى شيخ الكويت. وقد اعتمد الدكتور القهواتي على رواية ابراهيم فصيح بن صبغة الله الحيدري التي أوردها في كتابه «عنوان المجد في بيان أحوال بغداد والبصرة ونجد» ص 173 والذي فرغ من تأليفه عام 1869 عندما قال؛ إن «نهر الفاو من توابع نهر المعامر الذي كان ملكا لراشد السعدون والد ناصر باشا فمنحه لشيخ الكويت» ويضيف الحيدري؛ «والآن الفاو في تصرف شيوخ الكويت، وكانت هذه البساتين تدر عليهم ايراداً يقدر بـ600 باون استرليني في السنة». كما يشير المؤلف في مكان آخر إلى أن «المعامر كانت أرضا خالية عن الغرس فاشتراها راشد السعدون من بيت المال وعّمرها سنة ألف ومئتين وست وعشرين للهجرة، وأهداها إلى شيخ الكويت وهو آخر العمرات ويمتد إلى البحر».

الفاو في كتابات المؤرخين والرحالة

توغل بعض الكتابات التاريخية غير الدقيقة عن الفاو عميقا في التاريخ العراقي القديم، إذ تذكر بعض الكتابات أن تاريخ الفاو يعود إلى 2500 ق.م، وإن هناك لقى تاريخية تعود إلى حقبة حكم الملك الآشوري سنحاريب الذي أطلق على الفاو اسم «ريبو سلامو» أي باب السلامة، أما العرب فأسموها ماء الصبر أي المر، إلا أن هذه الآراء مثار جدل لا سيما إذا علمنا أن هذه المنطقة كانت مغمورة بمياه الخليج العربي في تلك التواريخ.
ويشير د. طالب جاسم محمد الغريب من جامعة البصرة إلى اختلاف الآراء في أصل تسمية الفاو، فهناك الرواية المحلية التي نقلها حامد البازي ومفادها أن سفينة اسمها الفاو كانت تابعة لأهل الديلم جاءت إلى تلك المنطقة لتحميل التمور وصادف أن هبت ريح شديدة أدت إلى غرقها في نهر اللبان الذي كان إسمه نهر المهلبان – نسبة إلى القائد العربي الشهير المهلب بن أبي صفرة- ثم خفف بمرور الزمن إلى اللبان، فأخذ الناس يطلقون على المنطقة اسم الفاو فيقولون محل غرق الفاو، ثم حذفت لفظة غرق لتبقى الفاو، ثم سميت المنطقة كلها بهذا الاسم.
أما سالم المبادر الذي اعتمد على الدكتور مصطفى جواد فقد أكد إن كلمة الفاو كانت في الأصل الفأو وتعني الأرض المكشوفة للناظر أو الأرض المحصورة بين مرتفعين. لكن الدكتور حسين القهواتي يثير الشك في هذا الاجتهاد لكون تسمية الفاو شاعت بعد بناء محطة التلغراف عام 1861. كما قيل أنها تعني الفاو المتدلي على الخليج العربي، وذهب آخرون إلى أنها مشتقة من الغولاف وهو نبات تشتهر بزراعته منطقة الفاو والذي تستخرج من أزهاره صبغة حمراء استعملت في طلاء شناشيل البصرة.
يقترن تاريخ الفاو بالتلغراف حيث إن الأسلاك الممتدة بينها وبين بوشهر تحت البحر تظهر في الشواطئ الطينية جنوبها لترتبط بالمحطة ومنها بالأسلاك المكشوفة التي تربطها بالبصرة، لقد وصف الفاو السائح جيري عام 1878 قائلا؛ «تخرج هنا أسلاك التلغراف المغمورة في مياه الخليج والممتدة إليها من بوشهر لترتبط بالمحطة البريطانية، كما إن هناك دائرة أخرى للتلغراف عائدة للدولة العثمانية معظم موظفيها من اليونانيين يعاونهم أحيانا عدد من الفرنسيين والبلجيك» ويضيف قائلا «يمكن بواسطة هذا الخط الاتصال بمختلف مدن العراق الهامة وباسطنبول وأوروبا».
وفي أوائل القرن العشرين وصفها آدموف القنصل الروسي في البصرة بأنها قرية صغيرة تتكون من مجموعة من أكواخ القصب، وعزا أهميتها لكونها أولا المحطة النهائية لخط التلغراف البري من اسطنبول عبر سكوتاري وسيواس وديار بكر وبغداد والبصرة، ونقطة انطلاق الكابل البحري البريطاني الممتد إلى ميناء بوشهر الإيراني ومنه إلى كراجي عن طريق جاسك، وثانيا لموقعها على لسان ضيق وواطئ تكونه الضفة اليمنى لشط العرب يمكنها السيطرة على مصبه. ومن هنا نفهم الميزة الأساسية للفاو لانها تتحكم في مصب شط العرب المنفذ الوحيد إلى الأراضي الزراعية الغنية في العراق وعربستان.

الفاو والجاسوس البرتغالي

يذكر الروائي جابر خليفة جابر، وهو ابن الفاو قصة طريفة عن علاقة الفاو بالاستعمار البرتغالي الذي اجتاح سواحل البحر الأحمر والخليج العربي، والحكاية المتداولة تقول: إن قائد الأسطول البرتغالي المتواجد في الخليج العربي أرسل جاسوساً إلى البصرة ليستطلع حالها وقوة حاميتها قبل الهجوم عليها، كما يفعل عادة قبل أي احتلال على امتداد مدن السواحل، ويقال إن هذا الجاسوس البرتغالي تأثر بكرم البصريين وطيبتهم معه، ويقال إن أوج تأثره كان ساعة خرج من بيته ذات صباح ليشتري إفطارا، فقصد حانوتاً وطلب قطعة قيمر أو زبدة، لكن صاحب الحانوت بعد أن ابتسم بوجهه وحياه بلطف اعتذر منه ورجاه أن يشتري من الحانوت المجاور، فاستغرب البرتغالي وبحكم مهنته راوده الشك، ترى هل عرف صاحب الحانوت هويته فرفض التعامل معه، لكن لهجته كانت ودية، تساؤلات سريعة مرت بذهن الجاسوس وأراد أن يعرف، وسأل صاحب الحانوت عن سبب امتناعه عن البيع مع وجود المطلوب عنده.
فكرر الرجل البصري الاعتذار وقال له: أنه قد استفتح لكن جاره لم يستفتح بعد، ولم تتقبل نفسه أن يبيع هو مجدداً بينما جاره لم يبع شيئاً بعد، ويقال إن هذه الحادثة وما رآه البرتغالي ولمسه من البصريين دفعه لكتابة تقارير إيجابية عن البصرة وأهلها واقترح التفاوض والاتفاق مع حاكمها على حل سلمي وهذا ما تم فعلاً.
ويذكر جمال زكريا في كتابه «الخليج العربي، دراسة لتاريخ الإمارات العربية في عصر التوسع الأوروبي الأول» 92 ص: «تحالف البرتغاليون في العقود اللاحقة مع أفراسياب باشا البصرة، ضد الفرس الذين فشلوا أكثر من مرة في السيطرة على البصرة. وبعد أن استولى الشاه عباس الكبير على بغداد سنة 1624 استعان حاكم البصرة العثماني بالبرتغاليين خوفًا من أن يصل الفرس إلى مقاطعته. وفعلا ظهرت خمس سفن برتغالية في شط العرب للمساهمة في الدفاع عن البصرة ضدهم. وبعدها بقي البرتغاليون في المدينة والمنطقة تجارًا وجيش تحالف لحماية المدينة». ويشير جابر خليفة جابر إلى مصدر مهم هو كتاب «تأريخ الخليج والبحر الأحمر في أسفار بيدرو تكسيرا» الذي ورد في مقدمته أن بيدرو هذا كان يهودياً وتنصّر هو أو أسرته، ورافق الأسطول البرتغالي الذي عاث في السواحل الأفريقية والعربية والآسيوية قتلاً وفساداً ولعله رافق الأسطول تحاشياً لمحاكم التفتيش المرعبة التي كانت تستهدف المسلمين واليهود المجبرين على التنصر. ويقول جابر خليفة جابر في مقال له أنه يعتقد أن الجاسوس البرتغالي هو بيدرو تكسيرا، الذي سكن البصرة حيناً ومنها عاد إلى النجف وكربلاء وبغداد ثم إلى بادية الشام وساحل المتوسط حتى أوروبا لكنه لم يعد إلى البرتغال وإنما سكن في مدينة انتويرب البلجيكية وهناك ألف كتبه وفيها توفي.

ميناء الفاو الكبير

كثر الحديث عن ميناء الفاو الكبير في العراق، ودخل حلبات صراع السياسة والاقتصاد، وتم تغليف الموضوع بأنواع المبالغات، فلم يعد ميناء كبيرا على رأس الخليج بل أصبح موضوعا تلفه الكثير من صفقات الفساد، وتحوم حوله الشبهات.
ففي الخامس من نيسان/أبريل عام 2010 وضع رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي الحجر الأساس لمشروع ميناء الفاو الكبير، الذي كان من المفترض أن يكون من أبرز المنافذ الاقتصادية في العراق، وكان من المقرر أن يُنجز خلال أربع أو خمس سنوات، لكنه لم ينجز حتى الآن لأسباب سياسية وضغوط خارجية، وتورط كبار المسؤولين في الحكومات السابقة في ملفات فساد.
وكان من المقرر أن يشيد الميناء الجديد في شبه جزيرة الفاو بمساحة 54 كلم مربع وبتكلفة تتجاوز 5 مليارات دولار، وأن تكون له القدرة على استقبال سفن بغاطس 19 متراً لم تصل سابقا لموانئ البلاد، وبالتالي يمكن زيادة معدل تصدير النفط بواقع 20 في المئة، وتنشيط التجارة البحرية للعراق بمعدل 20- 60 في المئة.
مخططات حكومة محمد شياع السوداني اليوم تشير إلى إن الحكومة تعتزم افتتاح الميناء مطلع عام 2025 بمرحلته الأولى بخمسة أرصفة، بطول 1750 متراً لكل منها وبطاقة استيعابية أولية بين 20 و45 مليون طن سنويا. ومن المتوقع أن يجني العراق بحلول عام 2038 أربعة مليارات دولار عن نشاط الميناء الجديد تضاف لها الإيرادات غير المباشرة كخدمات العبور عبر طريق التنمية الممتد إلى أوروبا المنافس لخطوط تجارية عالمية عدة بفضل اختزال الوقت.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.