في الذكري السنوية الرابعة لوفاة عالم الإقتصاد المصري المناضل الرفيق سمير أمير ، ” الأردن العربي ” ينشر رؤيته عن أممية العمال والشعوب
مع حلول الذكري السنوية الرابعة لرحيل الاستاذ الدكتور سمير أمين عالم الاقتصاد والمفكر الاشتراكي، وفي عام 2017 عرض الدكتور سمير أمين ورقة بعنوان “ حان الوقت لإعادة بناء أممية العمال والشعوب” . نطرحها هنا للمناقشة العامة في الذكري الرابعة لرحيل الدكتور سمير أمين. حيث أنه من واجبنا جميعا المشاركة في بناء أممية العمال والشعوب .
(1)
شهد النظام العالمي على مدى الثلاثين عامًا الماضية تمركزًا شديدًا للسلطة بكل أبعادها، محليًا ودوليًا، اقتصاديًا وعسكريًا، اجتماعيًا وثقافيًا.
فقد استطاعت بضعة آلاف من الشركات العملاقة، وبضع مئات من المؤسسات المالية التي كونت اتحادات احتكارية فيما بينها، أن تختزل نظم الإنتاج الوطنية والمعولمة إلى وضعية مقاولي الباطن. وبتلك الطريقة تمكنت الطغم المالية (الأوليغارشية) من انتزاع حصة أرباح متنامية من قوة العمل، ومن الشركات التي تحولت إلى إنتاج الريع حصرًا لصالح الاحتكارات والطغم الحاكمة.
فبعدما تمكنت هذه الطغم من تدجين الأحزاب اليمينية واليسارية الرئيسية والنقابات والمنظمات المسماة بالمجتمع المدني، أضحت تمارس سطوة سياسية مطلقة، إلى جانب إخضاع وسائل الإعلام لها من أجل بث التضليل الضروري لمنع تسييس الرأي العام. كما اضطلعت هذه الطغم بتقويض الممارسة المعهودة للتعددية الحزبية وأحلت محلها نظامًا أقرب للحزب الواحد الذي يتحكم فيه رأس المال.
وتتطابق هذه الرأسمالية المعاصرة الآن، والتي تعتبر نظامًا مغلقًا تمامًا، مع معايير “الشمولية” رغم الحرص على ألا تأخذ هذا المسمى. وإذا كانت هذه الشمولية لا تزال “ناعمة” فإنها على أتم الاستعداد دومًا للجوء إلى العنف المفرط بمجرد أن يشرع الضحايا في التمرد، أي الأغلبية من العمال والشعوب. وفي ضوء هذا التحليل يجب النظر إلى كل التغيرات المرتبطة بما يسمى “التحديث”. فهذه بالضبط الحالة مع التحديات البيئية الكبيرة (خاصة التغير المناخي) التي تعجز الرأسمالية عن حلها (فقد كان اتفاق باريس في ديسمبر 2016 مجرد ستارة دخان)، وكذلك تحدي التقدم العلمي والابتكارات التكنولوجية (بما فيها الاتصال والمعلومات) التي يجري إخضاعها بصرامة لمقتضيات الربح المالي الذي يمكن أن تحققه للاحتكارات. أما تقديس التنافسية وحرية السوق اللتين تصورهما وسائل الإعلام الخاضعة كضمانات لحرية وفعالية المجتمع المدني، فهي مناقضة للواقع الذي تمزقه الصراعات الضارية بين أجنحة الطغم القائمة، والمتسببة في تأثيرات مدمرة على إمكانية الحكم الرشيد.
(2)
على المستوى العالمي، تقتفي الرأسمالية دائمًا نفس المنطق الإمبريالي الذي ارتبط بها منذ بدء عولمتها (كان استعمار القرن التاسع عشر صورة واضحة للعولمة). ولم تتملص “العولمة” المعاصرة من هذا المنطق: فهي لا تزيد عن كونها شكلاً جديدًا للعولمة الإمبريالية. ويجري استخدام مصطلح “العولمة” دون أي تعريف في أغلب الحالات، ليخفي حقيقة مهمة: فرض الاستراتيجيات النظامية التي وضعتها القوى الإمبريالية التاريخية (الولايات المتحدة الأمريكية، بلدان غرب ووسط أوربا، اليابان.. والتي أسميها “الثالوث”) التي تواصل نهب موارد جنوب العالم والاستغلال المفرط لقوة عمله، في ارتباط مع تصدير العمليات ومقاولات الباطن. وتهدف هذه القوى إلى الحفاظ على “امتيازاتها التاريخية” وحرمان الأمم الأخرى من إمكانية تحرير نفسها من وضعية الأطراف الواقعة تحت السيطرة. ولقد كان تاريخ القرن الماضي في الحقيقة تاريخ ثورة شعوب أطراف النظام العالمي التي انخرطت في عمليات فك ارتباط اشتراكية، أو في صيغ مخففة للتحرر الوطني، وهي الصفحة التي قُلِبت حاليًا. أما عمليات إعادة الاستعمار الجارية حاليًا، ولا تملك أي شرعية، فمازالت هشة.
لهذا السبب أنشأت القوى الإمبريالية التاريخية نظامًا للسيطرة العسكرية الجماعية على الكوكب، تقوده الولايات المتحدة. كما أن عضوية حلف ناتو المرتبط ارتباطًا لا ينفصم ببناء أوربا الموحدة، وكذلك عسكرة اليابان، تعكسان متطلبات هذه الإمبريالية الجماعية الجديدة التي حلت محل الإمبرياليات القومية (في الولايات المتحدة، بريطانيا العظمى، اليابان، ألمانيا، فرنسا.. وقليل غيرها) التي عرفت في السابق صراعات مستمرة وعنيفة فيما بينها.
في ظل هذه الظروف يجب أن يصبح الهدف الرئيسي للنضال في مواجهة التحدي المضاد لتوسع الرأسمالية الإمبريالية، هو بناء جبهة أممية لعمال وشعوب العالم كله.
(3)
من الواضح جدًا في مواجهة ذلك التحدي الهائل عدم كفاية نضالات ضحايا النظام المذكور. فهناك جوانب ضعف مختلفة أصنفها في العناوين التالية:
- التفكك البالغ في تلك النضالات، سواء على المستوى المحلي أم العالمي، والتي تتسم دائمًا بالتخصيص حيث تجري في أماكن معينة وحول موضوعات وقضايا خاصة (البيئة، حقوق النساء، الخدمات الاجتماعية، مطالب الجماعات المحلية، الخ). ولم تحقق الحملات النادرة التي شُنَّت على المستوى القومي أو حتى الدولي أي نجاح مهم في فرض أي تغييرات على السياسات التي تضطلع بها القوى الموجودة في السلطة. بل إن النظام استطاع استيعاب الكثير من تلك النضالات.
ومع ذلك، هناك تسارع هائل في عملية البلترة العامة. فقد بات جميع سكان البلدان المركزية تقريبًا خاضعين الآن لوضعية العمال الأجراء الذين يبيعون قوة عملهم. وخلقت عمليات التصنيع في أقاليم الجنوب العالمي عمالاً بروليتاريين وطبقات وسطى برواتب، بينما يتم إدماج الطبقات الفلاحية بالكامل في نظام السوق. ونجحت الاستراتيجيات السياسية التي يوظفها الأقوياء في تمزيق القوة البروليتارية الهائلة إلى أقسام تتصارع غالبًا فيما بينها. وهو التناقض الذي يجب التغلب عليه.
- لقد تخلت شعوب الثالوث (الولايات المتحدة الأمريكية، غرب ووسط أوربا، اليابان) عن التضامن الأممي المناهض للإمبريالية، لتحل محله في أحسن الأحوال الحملات “الإنسانية” وبرامج “المعونات” التي يتحكم فيها رأس المال والاحتكارات. وهكذا فإن القوى السياسية الأوربية التي ورثت التقاليد اليسارية أصبحت تؤيد النسخة الإمبريالية للعولمة القائمة.
- نالت أيديولوجية اليمين الجديد بعض التأييد وسط الشعب.
إذن في الشمال تم التخلي عن العنوان الرئيسي للنضال الطبقي ضد الرأسمالية، أو تم اختزاله إلى تعبير ناقص إلى حد كبير- لصالح ما يطلق عليه تعريف جديد لـ “ثقافة الشراكة” اليسارية أو الجماعاتية، التي تفصل بين الدفاع عن الحقوق الخاصة والنضال العام ضد الرأسمالية. وفي بلدان معينة بالجنوب تراجع التقليد النضالي الذي ربط النضال ضد الإمبريالية بالنضال من أجل التقدم الاجتماعي، لصالح أوهام رجعية متخلفة يتم التعبير عنها بصيغ دينية أو أخلاقيات زائفة. بينما في بلدان أخرى بالجنوب أدى التسارع الناجح للنمو الاقتصادي خلال العقود الأخيرة إلى تغذية وهم إمكانية بناء رأسمالية قومية “متطورة” تستطيع فرض مشاركتها الفعالة في تشكيل العولمة.
(4)
يلوح أن قوة الطغم الإمبريالية المعاصرة يستحيل تدميرها سواء في بلدان الثالوث أم حتى على المستوى العالمي (“نهاية التاريخ”). ويشترك الرأي العام في قبول قِناعها الممثل في “ديمقراطية السوق”، مفضلاً إياها عن خصمها السابق- الاشتراكية- الذي ألصقت به أوصاف بغيضة مثل النظم الاستبدادية المجرمة والمتعصبة قوميًا والشمولية.
بيد أن هذا النظام غير قابل للاستدامة لعدة أسباب:
- يجري تقديم الرأسمالية المعاصرة على أنها “منفتحة” على النقد والإصلاح باعتبارها مجددة ومرنة. وتزعم بعض الأصوات الراغبة في إنهاء انتهاكات رأس المال غير الخاضع للسيطرة، والسياسات التقشفية الدائمة المرتبطة به، ومن ثم “إنقاذ الرأسمالية”. لكن هذه الدعاوى ستظل عبثية حيث تخدم الممارسات الحالية مصالح الطغم في الثالوث- وهي الوحيدة التي يحسب حسابها- بما يضمن الزيادة المتواصلة لثرواتها على الرغم من الركود الاقتصادي الذي يضرب تلك البلدان.
- إن المنظومة الأوربية جزء لا يتجزأ من العولمة الإمبريالية. فقد صًممت بروح رجعية، موالية للإمبريالية ومعادية للاشتراكية، وهي أيضًا خاضعة للقيادة العسكرية الأمريكية. وتمارس ألمانيا هيمنتها داخل هذه المنظومة، خاصة في إطار منطقة اليورو، وعلى أوربا الشرقية التي تم إلحاقها على غرار إلحاق الولايات المتحدة لأمريكا اللاتينية. وتخدم “أوربا الألمانية” مصالح الطغمة الألمانية التي يتم التعبير عنها بغطرسة مثلما رأينا في الأزمة اليونانية. وليست أوربا هذه قابلة للاستدامة، وقد بدأ بالفعل تفجرها من الداخل.
- يتناقض ركود النمو في بلدان الثالوث مع تسارع النمو في أقاليم بالجنوب امتلكت القدرة على الاستفادة من العولمة. وقد استخلص البعض بتسرع أن الرأسمالية حية وبحالة جيدة، حتى مع تحول مركز ثقلها من بلدان الغرب الأطلنطي إلى الجنوب، وآسيا تحديدًا. بينما العقبات الماثلة في الواقع الفعلي أمام حركة التعديل التاريخية هذه من المرجح أن تصبح عنيفة بشكل متصاعد، بما في ذلك اللجوء للعدوان العسكري. إذ لا تنوي القوى الإمبريالية السماح لأي بلد في الأطراف- كبيرًا كان أم صغيرًا- أن يحرر نفسه من السيطرة.
- ومما يعزز أيضًا أسباب عدم قابلية هذا النظام للاستدامة ذلك الدمار البيئي المرتبط بالضرورة بالتوسع الرأسمالي.
إننا نمر الآن بمرحلة “خريف الرأسمالية” ولكن دون أن يدعمها “ربيع شعبي” ومنظور اشتراكي. لذا فإمكانية إدخال إصلاحات تقدمية ملموسة على الرأسمالية في المرحلة الراهنة هي محض وهم. ولا مناص من بديل مدعوم بتجديد اليسار الراديكالي الدولي، القادر على إنجاز مبادرات اشتراكية وليس تصورها فقط. فقد بات من الضروري إنهاء الرأسمالية التي تمزقها الأزمات، وليس إنهاء أزمة الرأسمالية.
بناءً على الفرضية الأولى لن يؤثر شيء حاسم على التحاق شعوب الثالوث بالخيار الإمبريالي، خاصة في أوربا. إذ سيظل ضحايا النظام غير قادرين على تصور لطريق خروجهم من مسارات “المشروع الأوربي” الذي يجب هدمه قبل أن يعاد بناؤه بنسخة أخرى. وتشهد بمدى وتعقيد هذا التحدي خبرات سيريزا وبوديموس وحركة فرنسا الأبية، وترددات حزب اليسار الألماني (دي لنكه) وغيره. ولا يصمد أمام التحليل ذلك الاتهام السطحي لمعارضي الاتحاد الأوربي بـ “النزعة القومية”. فمن الواضح أن المشروع الأوربي يتجه بشكل متزايد لأن يكون مشروع القومية البرجوازية الألمانية. ولا بديل أمام أوربا، مثلما في أي مكان آخر، من بناء مشروعات وطنية، شعبية وديمقراطية (ليست برجوازية، بل معادية للبرجوازية عداءً حقيقيًا) تبدأ في فك الارتباط مع العولمة الإمبريالية. فمن الضروري هدم التركز المتطرف للثروة والسلطة المرتبط بهذا النظام.
انطلاقًا من هذه الفرضية، ستكون النتيجة الأكثر احتمالاً هي إعادة بناء القرن العشرين: أي تحقيق التقدم حصرًا في بعض أطراف النظام. بيد أن هذ الإنجازات التقدمية ستبقى هشة، كما حدث في الماضي، ولنفس السبب وهو الحرب الدائمة التي تشنها عليها مراكز القوة الرأسمالية. ويرجع مدى نجاح الأطراف في مبادراتها بدرجة كبيرة إلى حدودها وانحرافاتها.
إن فرضية الأممية العمالية والشعبية تفتح الطريق أمامنا إزاء المزيد من التطورات الضرورية والمحتملة. فهناك مسار “انهيار الحضارة”، وفي هذه الحالة لن تكون التطورات من صنع أي عقل مدبر، وإنما سيحدد الوضع وقتها مساره المشتعل. بيد أنه في عصرنا، ونظرًا لفداحة التدمير البيئي والحربي ونزوع الأقوياء إلى اللجوء لهذا التدمير، سيتحقق الخطر الداهم الذي حذر منه ماركس في عصره، ألا وهو الخطر الواقعي جدًا بأن ينتهي الاقتتال بتدمير كل المعسكرات التي تحارب بعضها. أما المسار الآخر فهو على النقيض ويتطلب جهدًا واضحًا ومنظمًا من الجبهة الدولية للعمال والشعوب.
(5)
إن بناء أممية العمال والشعوب يجب أن يكون الهدف الأساسي للمناضلين الحقيقيين المدركين للطبيعة البغيضة للنظام الرأسمالي الإمبريالي العالمي الذي نواجهه اليوم. وإنها لمسئولية ثقيلة، ومهمة ستستغرق سنوات قبل أن تعطي نتائج ملموسة. وأطرح من جانبي المقترحات التالية:
- يجب أن يكون الهدف إنشاء منظمة (الأممية الجديدة) وليس مجرد “حركة”. وهو ما يعني تجاوز مفهوم منتدى الحوار. كما يعني تحليل جوانب القصور في الفكرة التي مازالت سائدة عن الطابع الأفقي “للحركات” والنفور مما تسمى التنظيمات الهرمية بدعوى أنه بطبيعتها منافية للديمقراطية: وذلك لأن التنظيم في الحقيقة هو نتاج الفعل، وهو بدوره يفرز “القادة”. كما أن من الممكن للأخيرين أن يطمحوا في السيطرة على الحركات وحتى التلاعب بها. ولكن من الممكن أيضًا تلافي هذا الخطر بوضح اللوائح التنظيمية المناسبة. وهي مسألة تتطلب مزيدًا من النقاش.
- يجب أن تُدْرَس بعناية خبرة الأمميات العمالية، حتى المنتمية منها للماضي. ولا ينبغي القيام بهذا من أجل “اختيار” نموذج من بينها، وإنما لابتكار الشكل الأكثر ملاءمة للشروط المعاصرة.
- يجب توجيه هذه الدعوة إلى عدد معقول من الأحزاب والمنظمات المناضلة. وينبغي البدء بتكوين لجنة تضطلع بالدفعة الأولى للمشروع.
- لا أرغب في إثقال هذا النص بمواد كثيرة. لكنني أرفق به بعض النصوص المكملة (بالإنجليزية والفرنسية):
- نص تأسيسي عن وحدة وتنوع الحركات المتوجهة نحو الاشتراكية في التاريخ الحديث.
- نص عن الانفجار الداخلي للمشروع الأوربي.
- بعض النصوص عن: الجرأة المطلوبة لتجديد اليسار الراديكالي، قراءة ماركس، درس أكتوبر 1917 والماوية، التجديد الضروري للمشروعات الوطنية الشعبية.
التعليقات مغلقة.