عن الهيمنة الثقافية في القرن الواحد والعشرين / الطاهر المعز

الطاهر المعز ( تونس ) – الخميس 21/3/2024 م …

لقد تطورت الطبقة العاملة في تركيبتها الاجتماعية بسبب تطور هيكلة الإقتصاد العالمي، ولم تعد الشركات الصناعية الكبرى تمثل النواة الصلبة والنضالية للطبقة العاملة، لأن شركات المقاولة من الباطن وشركات العمل المؤقتة وتَعَدّد أوضاع العمال في نفس الشركة تؤدي إلى تعقيد مهام النقابات وتشكل عقبات أمام الوعي الطبقي، فضلا عن تدهور الوضع تحت إسم “مرونة عالم العمل”، في ظل النيوليبرالية السائدة منذ أكثر من أربعة عقود، ما فرض على الحركة النقابية والبروليتاريا إعادة النّظر في وسائل النضال، لكنها تظل الطّبقة العاملة محركًا للنضال الاجتماعي.




كيف تتكيف الأحزاب والمنظمات الإشتراكية المناضلة مع هذا الوضع؟ كيف يمكن إعادة بناء العلاقة بين الفرد والطبقة، وأعادة النظر في أساليب التعبئة الجماعية، وما إلى ذلك؟ كيف تشارك المنظمات الشيوعية في إعادة بناء مرجعيات الطبقة العاملة وفي بناء هوية جماعية للعمال، والحدّ من تأثير الدعاية النيوليبرالية، من أجل خلق توازن القوى وبناء أُسُس “الهيمنة الثقافية”؟ كيف يمكن إعادة التحليل المادي إلى مركز النقاش، من خلال إظهار أن الصراع ليسن بين “النُّخَب” والبشعب، بل هو صراع طبقات تواجه بعضها البعض، دفاعًا عن مصالحها المُتناقضة، حيث تقف الطبقة العاملة على الخط الأمامي، في مواجهة الطبقة التي تستغلها والتي تثري نفسها بفضل القيمة المضافة التي تحققها من سرقة  جهد “الآخرين”: جهد العمال المُثَبّتين أو غير المستقرين أو العاملين بالإقتصاد الموازي، وجهد الفلاحين والحرفيين وعمل الأطفال، وما إلى ذلك.

كيف يمكننا إنشاء هياكل اجتماعية مَرِنَة (بالإضافة إلى الهياكل النقابية أو الخلايا الموجودة في مكان العمل أو في مناطق الإقامة) قادرة على استقبال النساء والموظفين والعاطلين عن العمل؟ ما هي الهياكل التي ينبغي خلقها لزيادة مُعَدّل مشاركة الناس في الحياة السياسية والإجتماعية؟ وما هي أفضل طريقة لإنشاء منظمات التضامن والتعاونيات والتعاضديات وجمعيات تبادل الخدمات وما إلى ذلك؟

من الضروري إنشاء أماكن يرتادها الناس بشكل يومي: تعاونيات لشراء المنتجات الأساسية، مقاهي، أماكن ترفيهية، ألعاب (شطرنج، ورق)، نوادي رياضية، نوادي أدبية وغيرها، وهي أماكن مفتوحة تساهم في نشر الأفكار التقدمية والثورية بين الطبقات الشعبية، ويتطلب إنشاؤها تمويلاً من الطبقة العاملة والمُستفيدين من هذه الفضاءات، وكذلك من  تبرعات ومساهمات الأعضاء والمناضلين والأصدقاء ومن الحفلات أو تنظيم اليانصيب والسحوبات أو غيرها من الأنشطة، ولكن المسألة تتعلق بالقرار السياسي قبل أن تكون مسألة ميزانية، لأن هذه الأماكن وأنشطتها هي “مدارس تدريب” لفهم المجتمع وتغييره، حيث يتعلم المناضلون التحليل والتفكير في حلول للمشاكل المحلية والدولية المعقدة

لا يمكن إصلاح الرأسمالية من داخلها، فهي بطبيعتها تقوم على الاستغلال لتحقيق أقصى قدر من الأرباح، والرأسمالية هي التي ابتكرت “الديمقراطية البرجوازية” (البرلمانية) التي تحاول إخفاء الطابع الاستبدادي لرأس المال، لذا، يتعين علينا أن ننشر الدعاية السياسية المبنية على ضرورة الانفصال عن الرأسمالية ومؤسساتها، لكن المساهمة في النشاط السياسي والظروف قد تدفع الأحزاب والمنظمات الشيوعية إلى المُشاركة في الانتخابات البرلمانية، ما يجرنا لطرح السؤال التالي: كيف يمكننا التوفيق بين مواقفنا المبدئية ومطالب المؤسسات البرجوازية، لأن جهاز الدولة ليس محايدا بل له دور تاريخي محدد يتمثل في إعادة إنتاج النظام القائم، وهو غير مُصَمَّمٍ لتيْسير عملية التغيير المجتمعي ضمن الإطار الذي يفرضه، غير إن الوقائع تُظْهِرُ إن السلطة الحقيقية ليست في الوزارات أو البرلمان، بل إن البنوك والشركات الكبرى هي التي تتحكم بمقاليد السّلطة وتختبئُ خَلْفَ الإعلام وجماعات الضغط للدفاع عن مصالحها، لتفوق قوة جماعات الضغط نفوذ البرلمان والحكومة، إذا ما حاولت إحدى السُّلط التنفيذية أو التّشريعية تجاوز الحُدُود المُقَرّرة لنفوذها. أما في البلدان الفقيرة، فالسلطة السياسية المحلية ليست سوى ممثل أو وكيل أو صاحب امتياز للشركات متعددة الجنسيات وللقوى الإمبريالية…

أظهرت تجارب تشيلي (1973) وسيريزا (في اليونان) أو بوديموس (في إسبانيا)، وكذلك إندونيسيا (1965) أو إيران ( 1953) أو غواتيمالا (1954) حدود الاستيلاء على السلطة من خلال الإنتخابات والحصول على الأغلبية البرلمانية، لأن الديمقراطية وقوانينها تتوقّف أو تتعطل عندما تُصبح هيمنة الطبقة الرأسمالية المهيمنة مُعَرّضَة  للخطر من قِبَل ميزان القوى الجديد في البرلمان. إن الرأسمالية (في مرحلة الإمبريالية) قادرة على تنظيم انقلاب عسكري للإطاحة بسلطة منتخبة ديمقراطيا أو لإفساد الحكومة. لهذه الأسباب، يمكن أن تكون الانتخابات البرلمانية مفيدة إذا كانت بمثابة منصة لنشر رؤية ثورية أو إذا كانت بمثابة نقطة دعم لاستراتيجية خارج البرلمان، تتمثل في خلق ميزان قوى جماهيري ثوري يُطيح بسلطة البرجوازية وحلفائها، وتتمثل السلطة الدّيمقراطية الحقيقية في تمثيل السكان بشكل مُباشر ليتمكن المواطنون من السيطرة الفعالة على الهيئات المنبثقة عن الإنتخابات والبرلمان وإبعاد النواب الذين يفقدون ثقة الناخبين

دروس من تجارب الطبقة العاملة

في القرن التاسع عشر، نشطت الحركة العمالية في الفضاء السياسي العام بأوروبا وأنشأت هياكلها ومنظماتها الخاصة لبناء “المجتمع المضاد” أو “القوة المضادة” المُستَمَدّة من المثل الأعلى للمجتمع الاشتراكي المستقبلي، حيث تحل المشاركة والتضامن محل الأنانية والمصلحة الفردية..

كان معظم عمال التجمعات الصناعية الأوروبية الكبيرة في نهاية القرن التاسع عشر من النازحين من الريف، ويعيشون في اكتظاظ في الأحياء الفقيرة، وأدى نضالهم من أجل ظروف معيشية وعمل أفضل، من خلال الإضرابات والمظاهرات، إلى تشكيل النقابات أو الأحزاب السياسية وإنشاء مؤسسات التضامن العمالي التي تقدم المساعدات المادية والترفيه والتثقيف السياسي، ثم تم إنشاء شبكات من التعاونيات والحانات أو “بيوت الشعب” في المدن العمالية البلجيكية والإنغليزية والفرنسية والإيطالية والألمانية، على منوال نموذج المؤسسات المرتبطة بالكنيسة.

انطلقت التعاونيات الاستهلاكية من خلال شراء الفحم والخبز والمواد الغذائية الأساسية الأخرى بكميات كبيرة لتوفير المال، وليتمكن العُمّال من شرائها بثمن أقل من محلات التجار العاديين والمُضاربين، وتتيح أرباح هذه التعاونيات تمويل أنشطة أخرى، مثل صناديق إغاثة المرضى أو مطابخ الحساء للرفاق المضربين أو دفع التكاليف القانونية أثناء النزاعات مع أرباب العمل.

أنشأت الحركة العمالية العديد من المؤسسات (الحانات، الأندية الرياضية، المسارح، المكتبات، المعسكرات الصيفية، إلخ) لتعزيز المثل الاشتراكية والاستجابة للاحتياجات المباشرة للبروليتاريا، وكانت هذه الهياكل، التي غالبا ما ترتبط بالأحزاب السياسية، تمثل شكلا من المشاركة والتضامن بين العمال، واندثرت مثل هذه التقاليد أو تكاد، خصوصًا منذ هيمنة تيارات الليبرالية الجديدة على الحياة السياسية وعلى المؤسسات الدّولية، ومن الضروري إعادة إحياء تراث المؤسسات الشعبية هذا وإعادة طرحه بجدول الأعمال، بأشكال جديدة تتكيف مع وضع ومشاكل السكان في القرن الحادي والعشرين، لتخدم هذه الهياكل مصالح الطبقة العاملة ومنظماتها السياسية التي يمكنها إعادة التواصل مع الفئات الشعبية وتجنيد مناضلين جدد، وخلق المؤسسات العمالية في ظل غياب أو شح الأماكن المخصصة للمناقشات والاجتماعات والأنشطة الترفيهية والفنية والرياضية المُتاحَة للعمال والتي وجب تكْيِيف برامجها وَجَدَاوِلِهَا مع أوقات عمل الكادحين والأُجَراء وما إلى ذلك، إذا أردنا تغيير ميزان القوى وفَرْض “الهيمنة الثقافية” الشعبية التي تتمثل في نشر الثقافة الاشتراكية في كافة مجالات المجتمع وتشكيل مجتمع مضاد، وهو نموذج مضاد للنظام الرأسمالي الاستهلاكي. إنه نموذج يجسد المثل الأعلى للمجتمع الاشتراكي المستقبلي حيث ستحل المشاركة والتضامن محل الفردية التي تنشرها الرأسمالية، ولابد من نشر هذه الثقافة المضادة ــ وانتقادها أيضاً ــ من قِبَل الأحزاب السياسية، والنقابات، والصحافة اليسارية، والمنظمات النسائية والطلابية، وما إلى ذلك.

تمثل الأزمة الاقتصادية المستمرة منذ عدة سنوات فرصة للتفكير في إنشاء أماكن جديدة للتواصل الاجتماعي والتضامن الشعبي، وهياكل جماعية للإنتاج أو الاستهلاك أو الإصلاح والتّرميم ( إعادة التدوير)، تدار ذاتيًا، من قِبَل من يستخدمها من المواطنين الأُجَراء والفقراء والعمال غير المستقرين والعاطلين عن العمل أو المزارعين الفقراء، وتتم إدارتها بأشكال جديدة ومتنوعة لتوسيع شكل الإشراف والمراقبة، وقد أظهرت التجربة أن الدولة، من خلال شرطتها، وكذلك البلديات، تحارب هذه الهياكل التي تعتبر أماكن تحدي للنظام الاجتماعي القائم، مما يخلق لها صعوبات مالية وقانونية… لكن السياسة ليست “فن الممكن” بل فن التّخطيط والجرأة وابتكار أدوات تغيير المجتمع… 

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.