سمات وخصائص الدولة الشموليّة/ الكليانيّة / د. عدنان عويّد

د. عدنان عويّد ( سورية ) – الخميس 21/3/2024 م …




     سألني أحد الأصدقاء, ما هي أهم وأبرز سمات وخصائص الدولة الشموليّة؟. ومن خلال متابعتنا لسياسات الدولة الشموليّة/ الكليانيّة في دول الاستبداد التي سادت في أوربا, والتي مثل نهجها الشمولي/ الكلياني الملك “لويس الخامس عشر” في فرنسا بمقولته الشهيرة سيئة الصيت : (أنا الدولة والدولة أنا), أو متابعتنا في دول العالم الثالث التي سارت على هذا النهج, ولم تزل قائمة في العديد من دولها, تبين معنا أن أهم السمات والخائص التي تمتاز بها هذه الدولة المستبدة القهريّة هي التالي:

     أولاً: هي دولة جاءت من خارج إرادة الشعب, أي لم يشكلها الشعب بعقد اجتماعي, وبالتالي هي دولة في سياساتها وآليّة عملها غير شرعيّة, فالشعب ليس له أي دور في اختيار قادتها وتحديد طبيعة نظامها السياسي والاقتصادي والثقافي. وبالتالي, هي دولة جاءت الطبقة الحاكمة إلى سدّة الحكم فيها بالقوة, أو بالغلبة, وهذه القوى الحاكمة غير الشرعيّة الخارجة عن إرادة الشعب وعقده الاجتماعي, هي من يحدد سياسات الدولة وشكل حكمها وآليّة الحكم فيها أيضاً.

     ثانياً: هي دولة غالباً ما يسيطر على دفة الحكم فيها, قوى اجتماعيّة لها مرجعيات تقليديّة, عشائريّة أو قبليّة أو طائفيّة أو مذهبيّة أو حزبيّة, وبعضها لا يمتلك أي دستور ينظم حياة المجتمع داخل الدولة, وبعضها لها دساتير مشبعة بمفردات الحريّة والعدالة والمساوة, ولكن في الواقع كل ما يرد في هذه الدساتير ليس أكثر من شعارات لذر الرماد في العيون, فالدولة هنا لا تعمل في سياقها العام لمصلحة الشعب بقدر ما تعمل لمصلحة القوى الحاكمة وحاشيتها وأسرها ومرجعياتها التقليديّة. وإن عملت للشعب, فهي تعمل من منطلق شعبوي, أي تريد من عملها إرضاء الناس للبقاء في السلطة, وليس من منطلق المسؤوليّة  المنطلقة من المبادئ القانونيّة والدستوريّة.

     ثالثاً: هي دولة غالباً ما تحتمي فيها القوى الحاكمة ذات المرجعيات التقليديّة بحزب حاكم, يطرح شعارات فضفاضة في الحريّة والعدالة والمساواة والوطنيّة والقوميّة, لا ترتكز على بنية أيديولوجية ثوريّة ومنهج فكري عقلاني نقدي في التفكير والممارسة, لذلك تتخذ هذه القوى الحاكمة هذه  الشعارات الثوريّة ذات الطابع والوطني أو القومي واجهة لسياسات براغماتيّة, وعندما تجد أي معارضة لسياساتها من قبل الشعب, أو حتى من  ينتقد سياسات الدولة الداخليّة والخارجية البعيدة كل البعد عن جوهر وروح هذه الشعارات, نجدها تعمل على مواجهة وقمع كل من يعارضها تحت ذريعة عدم إيمان هذه المعارضة بهذه الشعارات والعمل على عرقلة تطبيقها,. هذا في الوقت الذي تُحوّل فيه القوى الحاكمة ذات الطبيعة الحزبيّة أحزابها ومنظماتها إلى حزام ناقل للسلطة لا أكثر, أي العمل على تنفيذ ما تريده منهم القوى الحاكمة حتى لو تعارض ذلك مع مبادئ وشعارات هذه الأحزاب والمنظمات أو الاتحادات. وبناءً على ذلك تفقد الأحزاب التي يحكم باسمها دورها الحقيقي في قيادة الدولة والمجتمع.

     رابعاً: هي دولة يدعي قادتها الحقيقيون أو المهيمنون على السلطة بالقوة, أنها دولة قانون ومؤسسات ومواطنة. ولكن في التطبيق العملي هي بعيد كل البعد عن هذه الادعاءات, فالدولة تحكم في الواقع من قبل الطبقة الحاكمة ومن يواليها من مرجعياتها التقليديّة, ومن الانتهازيين والمصفقين الذين يخدمونها خدمة لمصالحهم الأنانيّة الضيقة أيضاً, فالقانون بكل مستوياته يخرق دائما من قبل القوى الحاكمة, والاقتصاد يصبح بيد القوى الحاكمة وحاشيتها, والسياسة تصب دائما في كيفيّة حفاظ القوى الحاكمة على السلطة بيدها, وفي الثقافة تعمل القوى الحاكمة على إقصاء المثقفين العقلانيين التنويرين وكل ما يساعد على خلق بنية فكريّة عقلانيّة تنويريّة بين مكونات الدولة والمجتمع, في الوقت الذي تدفع فيه إلى الواجهة رجال دين ممن يشتغلون على الفكر الغيبي الامتثالي الذي يبارك للسلطة حكمها وظلمها وتجهيلها وقهرها للرعيّة, يساندها شرائع من مدعي الثقافة المطبلين والمزمرين للسلطان, الذين يعملون بدورهم على تبرير كل ما يصدر عن الحاكم لإقناع الشعب بما يُطرح والأخذ به كحقائق لا يأتيها الباطل, والهدف طبعاً هو  تهجين الشعب ومسح عقول أبنائه وإقناعهم بأن كل ما يصدر عن السلطة الحاكمة, من سياسات وتشريعات وغيرها هي عقلانيّة وهدفها مصلحة الشعب.

     خامسا: هي دولة في الحقيقة يعيش حكامها بواد وشعبها بواد, بل هي قوى حاكمة نتيجة فسادها وقمعها وظلمها للشعب, راحت تعيش حالة خوف من الشعب, وتعمل على الاكثار من الأجهزة الأمنيّة, هذا الأجهزة التي تحولت إلى فزاعة بل أداة قمع بيد السلطة الحاكمة, تسخرها لقمع كل من تسوّل له نفسه انتقاد السلطة وقياداتها وعملها وحتى فسادها, ومن المفارقات العجيبة أن هذه الأجهزة الأمنيّة التي سبب قيامها كما تدعي القوى الحاكمة هي حماية الشعب من أعداء الداخل والخارج, هي ذاتها تخاف من الشعب كثيراً, وتقوم بوضع التحصينات والأسيجة والحراسة المشدّدة حول مقراتها. وعلى هذا يتحول دورها من أم المواطن إلى  نتشر سياسة الخوف والرعب والقمع, وهي السياسة الأكثر تأثيراً على الفرد والمجتمع فكراً وممارسة, وفي مثل هذه الحالة تغيب الحريات وكل ما يرافقها من إبداع, فالفن والأدب لم يعودا بخدمة الشعب بل بخدمة السلطة الحاكمة. والفكر الفلسفي والتفكير الحر, لم يعد له مكانه كفر يساهم في توعية الشعب والرقي به, بل هي تعمل على تسييد الفكر الجبري الاستسلامي, وكل فكر يغيب العقل والإرادة الإنسانيّة دينيّاً كان أم وضعيّاً.

     سادساً: هي دولة نجد فيها من يساهم في إدارتها شخصيات من خارج مؤسسات الدولة, أي ليس لها أي صفة قانونيّة مكلفة بها بشكل رسمي وفق الدستور وأنظمة الدولة, وترى أن هذه الشخصيات من داخل البيت الحاكم أو من يواليه تصول وتجول في سياسات الدولة, حيث تقوم بتعين فلان في هذا الموقع, أو تخرج فلان منه, وتجتمع بهذه الشريحة الاجتماعيّة أو تلك وتعطي توجيهاتها وفق ما تريده هي تحت الادعاء بأن ما تقوم به هذه الشخصيات (غير الشرعيّة) هو لمصلحة الدولة والمجتمع. وهذا في الحقيقة ما يدل على غياب ما يسمى دولة المؤسسات والقانون والمواطنة, وفرض دولة الوصاية والمحسوبيات والزعامات والكينتونات السلطويّة.

     سابعاً: هي دولة غنيمة في الحقيقة, حيث تجد أن أكبر المؤسسات الاقتصاديّة وذات الربحيّةّ العالية, بيد الطبقة الحاكمة وحاشيتها, أو من يمثلها في المواقع الاقتصاديّة داخل الدولة, وهذا ما يساهم في نهب ثروات البلاد وتحويلها إلى أرصدة في بنوك الخارج وحرمان الشعب منها, وزيادة إفقاره وتجويعه. وخلق حالة من التفاوت الطبقي الحاد والمخيف ما بين طبقة قليلة العدد من المسؤولين والموالين للبيت الحاكم, تملك حصة الفطير الكبرى من حيث مواقع المسؤوليّة والبعثات التعليميّة والسيطرة على المواقع الاقتصادية, وامتلاك القصور والسيارات الفارهة.. وغير ذلك, وطبقة هي الأوسع تعيش حالات من الفقر والجوع والحرمان وفقدان تكافؤ الفرص والكفاءة والجهل والتخلف والمرض.

     ثامناً: هي دولة غائبة الوضوح عموماً في توجهات خطها السياسي والثقافي والاقتصادي, فهي لا تمثل لا الليبراليّة ولا الاشتراكيّة ولا أي خط سياسي أو اقتصادي أو ثقافية واضح المعالم, وهذا الشكل من عدم الوضوح يرافقه سياسات براغماتيّة, وأهم وسيلة لتبرير هذه السياسات والتغطية عليها, هي قيام القوى الحاكمة بتجهيل الشعب عن طريق المؤسسات الثقافيّة والتعليميّة والاعلاميّة والدينيّة, بحيث يعيش الشعب بكل مكوناته في حالة من الضياع لا يعرف ماذا يجري في بلاده وكيف تدار أمور هذه البلاد. أو بتعبير آخر هي دولة عصابة بعيد كل البعد في الواقع العملي عن مفهوم دولة القانون والمواطنة والمؤسسات.

     تاسعاً: هي دولة عسكرة, أي يسيطر عليها العسكر, وأكثر من نصف ميزانيّة الدولة تذهب للعسكرة ودعمها, وخاصة الوحدات العسكريّة المكلفة بحماية القوى الحاكمة, أو الرجل الحاكم ذاته.

     عاشراً: هي دولة تشتغل على عبادة الفرد (اللدنيّة), حيث يحول هذا الفرد الحاكم إلى شخصيّة (صمدانيّة) هي الآمرة والناهية, وهي من يشكل الحكومة, ويقود الجيش والدولة والحزب أو العشيرة والقبيلة والطائفة, وكل من يأتي لمناصب الدولة والحزب يجب أن يكون مطلق الولاء للقائد, ويُسبح دائماً بحمده ويواليه ويخضع لإرادته, وعلى هذا الأساس يقوم هؤلاء الموالون المطيعون (المؤدبون جداً) بتبرير سياساته كلها دون اعتراض, وليس عندهم مشكلة أن يحولوا كل زوايا شوارع المدن وساحاتها وواجهات دوائرها ومؤسساتها وغرف المكاتب والقاعات العامة, إلى قاعات عرض لصور القائد (الصمداني) وبكل الأوضاع التي يظهر فيها أمام شعبه الذي يحبه بدوره ويضحي من أجله إذا اقتضت الحاجة. وعلى هذا التوجه نحو عبادة الفرد القائد, يظهر زيف كل من يقول أن هذه الدولة هي دولة مؤسسات, وقانون, ومواطنة, وتعدديّة, وتداول سلطة, فلا ديمقراطيّة ولا حريّة ولا عدالة ولا مساواة ولا دولة مواطنة.. وكل هذه ليست أكثر من شعارات تحددها الدساتير الموضوعة على الرف, والتي لم تعد تنطلي على الشعب, وكل من يدعي بها في الدولة الشموليّة هو يكذب على نفسه وعلى الشعب, بل لنقل هو يستغبي الشعب ويتاجر باسمه.

     إن عبادة الفرد (اللدنيّة) أوصلت قادة هذه الدول إلى مرحلة راح يعمل فيها الحاكم الفرد وفق عقليّة الملك “لويس الخامس عشر” في فرنسا عندما خاطب البرلمان الفرنسي عام  1766  قائلاً: (في شخصي فقط تكمن السلطة العليا, ومن شخصي بالذات تستمد مجالسي وجودها وسلطتها, وإليّ فقط تعود السلطة التشريعيّة بلا شريك أو رقيب, وعني ينبثق النظام برمته.). وأمام هذه السلطة الشموليّة/ الكليانيّة, تفقد كل سلطات الدولة التي حددها الدستور دورها, فلم يعد للدستور والقانون هيبته, وعلى هذا الأساس تفقد الدولة أيضاً قدرتها على محاسبة الفاسد والمخرب, وهنا يعم الفساد ويستشري في كل مسامات حياة الدولة والمجتمع.. ولنقل هنا يفسد الملح وتضيع (الطاسة). وأمام فساد الملح وضيعان (الطاسة) ترتفع الأصوات تطالب القائد الفرد وحده أن يحل أمر هذه المفسدة التي لم تعد الدولة الشموليّة أن تستمر أصلاً بدونها.    

كاتب وباحث من سوريّة.

[email protected]

 

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.