لماذا لا تسمح السلطات الاردنية للمتظاهرين ببلوغ مبنى سفارة العدو؟! / كمال ميرزا
كمال ميرزا ( الأردن ) – الأربعاء 27/3/2024 م …
بعد أكثر من (170) يوما من حرب الإبادة والتهجير، وبعد أن تعدّى الإجرام الصهيوني القصف والنسف والتجويع والتعطيش، وبلغ حدّ اغتصاب النساء وحرق الناس ودهسهم ووأدهم أحياء.. لماذا لا تسمح السلطات الأردنية لجموع المتظاهرين المنتفضين نصرةً لإخوانهم في غزّة ببلوغ مبنى السفارة الصهيونية في عمّان، بل واقتحامه عند الضرورة (باعتباره خاوٍ على عروشه بكل الأحوال)، وضرب ثلاثة عصافير بحجر واحد؟!
أولا هذا سيسهم في امتصاص غضب الشارع الأردني، ورأب أي فجوة موجودة أو ممكنة بين الموقفين الشعبي والرسمي، وتمتين الجبهة الداخلية.
ثانيا هذا سيشكل ورقة ضغط على الكلب المسعور “نتنياهو” وعصابة حربه، والذين يصرّون على الإمعان في غيّهم وإجرامهم وغطرستهم غير آبهين لا بحليف أو صديق في سبيل التشبث بمستقبلهم السياسي، أو لمجرد حماية أنفسهم من المساءلة القانونية.
ثالثا سدّ الذرائع وإغلاق الباب أمام أي أصوات مُغرضة قد تستغل قمع السلطات الأردنية للمظاهرات واعتقال المتظاهرين للغمز في قناة النظام الأردني، والتشكيك في موقفه من حقّ الشعب الفلسطيني بـ “المقاومة”، وإثارة تساؤلات حول طبيعة انحيازاته واصطفافاته في غمرة عملية الفرز والغربلة التي تمخّض عنها “طوفان الأقصى”.
نفس الكلام ينطبق على السفارة الأميركية، لماذا لا تسمح السلطات الأردنية للمتظاهرين بالوصول إلى السفارة، والتظاهر جوارها وتحت أسوارها، وحتى رشقها بـ “البيض” إذا اقتضت الضرورة؟!
لو كان الأميركان حقا هم “الحليف” الذي يدّعونه، ولو كان الصهاينة حقا هم “الصديق” الذي يدّعونه، لقدّرا وتفهّما مقدار الحرج الذي تواجه السلطات الأردنية، ولمنحاها الضوء الأخضر للسماح للمتظاهرين بالاقتراب والوصول والتنفيس عن غضبهم و”فشّ غلّهم”.. ولكن الأميركان والصهاينة هم أحقر حليف أو صديق يمكن أن يُبتلى به نظام سياسي، وألأم مَن يبتزّ حليفه وصديقه في مثل هذه المواقف!
المشكلة أنّ موقف السلطات الأردنية من المتظاهرين ومن مبدأ التظاهر هو بحدّ ذاته موقف مركّب، ومتعدد العوامل، ومتداخل المستويات، ولا يمكن ردّه مباشرة إلى عامل واحد أو مستوى واحد على طريقة سبب – نتيجة.
ففي المستوى الأول، سنجد أنّه قد نما عندنا في الأردن للأسف خلال العشرين سنة الماضية نخبة متغرّبة تقبع في قمة الهرم أو قريبا منه في جميع المجالات، بحيث تؤمن هذه الفئة الطفيلية المُقحَمة (أي لم يفرزها الشارع والناس) أنّ رضا أميركا ورضا الكيان الصهيوني أهم من رضا الله والوالدين، وأنّ أميركا والكيان يرفعان بيدهما مَن يشاءان ويُذلّان مَن يشاءان، وأنّ مجرد حصولك على (clearance) من السفارة الأميركية والصهيونية هو أهم لمستقبلك الوظيفي والمعاشي و”البزنسي” من أي شهادة علمية، أو شهادة خبرة، أو شهادة “عدم محكومية”، أو شهادة “حسن سلوك”.. يمكن أن تحصل عليها من أي جهة أخرى!
وفي المستوى الثاني، سنجد أنّ “العقلية الأمنية” في الأردن قد طوّرت خلال سنوات ما يسمّى “الربيع العربي” حساسية مفرطة تجاه كلّ ما هو “إضراب”، وكل ما هو “اعتصام”، وكل ما هو “حراك شعبي”، وكل ما هو “مطالب شعبية”.. بغض النظر عن طبيعة هذه الحراكات وفحوى مطالبها!
وأصبح اللجوء إلى مثل هذه الأساليب في التعبير وإيصال الصوت هو بمثابة تطاول، وتجاوز، وتمرّد، وتهديد للأمن العام، وزعزعة لأركان الدولة، وتقويض لنظام الحكم.. وكلّ مَن يلجؤون إلى مثل هذه الأساليب أو ينادون بها هم بمثابة “نماريد” أو “جاحدين” أو “مندَسّين” أو “متآمرين” أو “أصحاب أجندات خارجية” يجب الوقوف في وجههم، وقطع الطريق عليهم، وضربهم بيد من حديد إذا استدعى الأمر كي لا “تقوى عينهم”، و”يصدقوا حالهم”، ويتمادوا، و”يفرعنوا”.. حتى لو كانوا مثلا مجرد معلمين مربّي أجيال يطالبون بحقوق مهنية ومعاشية مشروعة!
وإذا كان لهذا المنطق الأمني والأسلوب الأمني مبرراته ومسوغاته خلال فترة “الربيع العربي”، فإنّ استمرارهما وتحوّلهما إلى “عقلية” مهيمنة على صانع القرار له آثار عكسية مدمّرة، والدروس التاريخية ما قبل الربيع العربي وأثناء الربيع العربي علّمتنا أنّ الأنظمة التي كانت تعوّل على الحلول الأمنية والسطوة الأمنية قد اضطرت في نهاية المطاف إلى دفع أثمان وخيمة، وأول مَن تخلّى عنها وتنصّل منها هم حلفاؤها وأصدقاؤها المفترضين!
وفي المستوى الثالث، سنجد أن السلطات الأردنية قد طوّرت خلال المرحلتين أعلاه “ترسانة” متكاملة من الأساليب والأدوات المباشرة وغير المباشرة الجاهزة للاستخدام من أجل صدّ أو احتواء أو تفريغ أو تمييع أو تشتيت أي حراك شعبي ومطالب شعبية.
ولكن حتى هذه الأدوات والأساليب أصبحت منتهية الصلاحية، أو غير صالحة للاستخدام، على الأقل في السياق الحالي:
فلا أعتى الأقلام المأجورة وكتّاب التدخل السريع بقادرين على “شيطنة” حراكٍ عنوانه غزّة والقضية والمقاومة.. مهما بلغ هؤلاء الكتّاب من “كلاحة” وانعدام ماء الوجه، ومهما امتلكوا من مهارات التلاعب بالألفاظ وليّ عنق اللغة.
ولا أعتى أزعر على استعداد للخروج في مظاهرة مضادة للصدام مع المتظاهرين الخارجين من أجل غزّة وفلسطين، بل إنّ “كود الشرف” الذي يجمع الزعران ببعضهم البعض قد يُملي عليهم الانضمام إلى المتظاهرين هم أيضا بكون إجرام الكيان الصهيوني قد بلغ حدّ المساس بأعراض الأمّهات والأخوات والزوجات والبنات، وهذا حتى بالنسبة للزعران خط أحمر لا يُغتفر تجاوزه.
ولا إغراء “القيادات” بالمال والمناصب والمكتسبات الانتخابية قادر على حرف البوصلة، فغالبية الخارجين من أجل غزّة هم ليسوا حزبيين أو مسيّسين حتى يكون لهم قيادات يركنون إليها ويأتمرون بأمرها، بل جلّهم ينتمون إلى “المواطن” العادي و”رجل الشارع” الاعتيادي، والذين خرجوا بكل عفوية بانتماء ابن البلد وحميّة ابن الأصل نصرةً لأشقائهم وشقيقاتهم في غزّة والضفة وعموم فلسطين.
ولا اللعب على ورقة “الأمن والأمان”، وافتعال أحداث أمنية واجتماعية بعينها أو تضخيم أوضاع قائمة، كإعادة تسخين الجبهة الشمالية مثلا، قادر على إلهاء الناس، وحرف اهتمامهم، وتشتيت تركيزهم، لأنّها ساعتها ستكون حركات سمجة وبائسة ومفضوحة!
المسؤولون الأردنيون على مدار السنوات الأخيرة هم من أكثر الناس تشدّقا بثيمة “تحويل التحدّي إلى فرصة”، وذلك في غمرة تبشيرهم ببركات سياسات الخصخصة وتشجيع الاستثمار والريادة والتمكين والتحوّل السياسي والاقتصادي..
لذا فإنّ المتوقّع من السلطات الأردنية والنظام الأردني وصانع القرار الأمني الأردني، التوقّف عن النظر إلى المظاهرات الشعبية ضد الإجرام الصهيوني والهيمنة الأميركية باعتبارها تحديّا أو تهديدا، والنظر إليها عوضا عن ذلك باعتبارها “فرصة”:
فرصة لإعادة إنتاج اللُحمة الوطنية والجبهة الوطنية الموحّدة في مواجهة أي مخاطر ومؤامرات..
وفرصة لإعادة إنتاج الدور المحوري للأردن إقليميا وإعادته إلى حضنه العروبي وامتداده الإسلامي..
وفرصة للتخفيف كثيرا من ضريبة الشروط المجحفة والأعباء المتراكمة وغير المتكافئة المفروضة على الأردن جرّاء دخوله في الحلف الأميركي وتيار “الاعتدال” العربي، وتحسين موقفه التفاوضي بهذا الخصوص..
وفرصة لتمكين “الدولة الأردنية” من استعادة زمام المبادرة، وردّ الاعتبار لسيادتها الوطنية في أعين الآخرين، وهيبتها في أعين مواطنيها، ووقف حالة الاستلاب المُمنهجة التي ترزح تحتها المصلحة الوطنية العليا لحساب مصالح شخصية وفئوية ضيقة ذات ارتباطات إقليمية ودولية مشبوهة!
بكلمات أخرى، إذا كان المسؤول الأردني وصانع القرار الأردني غيورا حقا على مصلحة الدولة الأردنية وأمنها ومستقبلها.. فعليه أن ينزل إلى الشارع، ويضمّ صوته إلى صوت الناس، وحراكه إلى حراكهم، وأن يكون أول المباركين لحصار سفارة الكيان الصهيوني، وأول المبادرين إلى إغلاقها وتجميد العلاقات مع العدو الذي بات يشكّل تهديدا وجوديّا لكل مَن حوله.. وذلك بدلا من محاولة منع هذه المظاهرات، أو قمعها، أو التنكيل بالداعين إليها والقائمين عليها، والظهور بمظهر المهزوز وغير الواثق، والأخطر، الظهور بمظهر “غير المُمانع” حقّا لما يُقترف بحقّ غزّة وأهلها ومقاومتها!
التعليقات مغلقة.