إفريقيا – موجة ثانية من التّحرّر؟ / الطاهر المعز
الطاهر المعز ( تونس ) – الجمعة 29/3/2024 م …
تقديم …
يدرس النّص أساليب الإمبريالية الفرنسية للهيمنة على جزء من إفريقيا، منذ القرن التاسع عشر، مع محاولة تفكيك مراحل وأدوات الهيمنة كنموذج للسيطرة المباشرة وللعلاقات بين “المركز الإمبريالي” و “المُحيط” الواقع تحت الهيمنة، وأساليب النهب التي تمكّن الإمبريالية من تحقيق أقصى قدر من الربح المادّي (الإقتصادي والمالي) وتميزت فرنسا بإنشاء الفرنك الإفريقي ( CFA ) الذي شكّل كارثة لشعوب الدول الأعضاء وغنيمة لا تُقَدّر بثمن للمصارف والشركات الفرنسية، إلى أن حصل التّصدّع انطلاقًا من مالي وبوركينا فاسو والنّيجر، حيث حصلت الإنقلابات العسكرية على تأييد شعبي، خصوصًا بعد رفض تجديد الإتفاقيات الأمنية مع فرنسا واعتبار القواعد العسكرية الأمريكية غير قانونية، ما أسْقَطَ مشاريع الإمبريالية الأمريكية التي بذلت ما في وسْعِها لبسط هيمنتها على المُستعمَرات الفرنسية السابقة، في إطار التنافس بين الإمبرياليات على تقاسم مناطق العالم، وبعد تدهور العلاقات بين فرنسا ومالي وبوركينا فاسو والنّيجر، حاولت الولايات المتحدة تعزيز مواقعها شمال مالي وفي بورينا فاسو وخصوصًا في النيجر، حيث تمتلك الولايات المتحدة قواعد بها حوالي 1500 جندي وقاعدة للطائرات الآلية (درونز) في منطقة “أغاديز”، شمال النّيجر، بلغت تكاليف إعادة تأهيلها نحو 250 مليون دولارا، وتُشكل القاعدة العسكرية الأمريكية شمال النيجر نتيجة مباشرة للعدوان على ليبيا وتخريبها سنة 2011، بذريعة حماية السكان المَدَنِيِّين في بنغازي، و”تعزيز الدّيمقراطية وحقوق الإنسان في ليبيا” وهي وسيلة لمراقبة المنطقة (ليبيا والجزائر وغيرها) وهنا تكمن أسباب أهميتها.
انقلابات مناهضة للهيمنة الإمبريالية
بعد الإنقلاب الذي أطاح بالرئيس محمد بازوم يوم 26 تموز/يوليو 2023، حاولت فرنسا خنق النيجر وبوركينا فاسو ومالي، بواسطة مجموعة غرب إفريقيا (إكواس أو سيداو) وردًّا على ذلك قرر المجلس العسكري في النيجر إدانة اتفاقيات التعاون التي أبرمت مع فرنسا سنة 1977، وطالب بسَحْب القوات الفرنسية التي تعزّز وجودها منذ 2023 بذريعة محاربة الإرهاب، وعَقَدَ المجلس العسكري في النيجر تحالفًا عسكريًا مع مالي وبوركينا فاسو، وبدأ التقارب مع روسيا وأنهى عَمَلَ بِعْثَتَيْن أمنيتين للاتحاد الأوروبي، فيما تجنّبت الولايات المتحدة تصعيد الموقف مع المجلس العسكري بالنيجر، ما مَكّن القوات الأمريكية من استمرار عملياتها في منطقة الصّحراء الكُبْرى وإقلاع وهبوط الطائرات الآلية ( بدون طيار ) من طراز MALE لتنفيذ مهمات الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع، بعيدة المدى، بينما كان الجيش الفرنسي يُغادر النّيجر ومالي، غير إن حكومة الولايات المتحدة، طالبت المجلس العسكري والجنرال بارمو الذي تدرب في الولايات المتحدة “بإطلاق سراح الرئيس محمد بازوم والعودة إلى النظام الدستوري”، ثم قررت ( لأسباب يفرضها القانون الأمريكي) “تعليق المساعدات المالية”، وإعادة تجميع قواتها ــ التي تم تخفيض أعدادها إلى النصف ــ في قاعدة أغاديز الجوية، ثم أعلن العقيد أمادو عبد الرحمن، المتحدث باسم المجلس العسكري، يوم 16 آذار/مارس 2024، وقف العمل بالإتفاق مع الولايات المتحدة – الذي يعود تاريخه إلى منتصف 2012 – وسحب موظفي وزارة الحرب الأمريكية من العسكريين والمدنيين العاملين في النيجر، وتم الإعلان عن هذا القرار من قبل المجلس العسكري بعد أيام قليلة من رحلة وفد أمريكي إلى نيامي يضم مساعدة وزير الخارجية للشؤون الأفريقية، مولي في، ومساعد وزير الخارجية لشؤون الأمن الدولي، سيليست فالاندر، والجنرال مايكل لانغلي رئيس القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا (أفريكوم )، وأعلن المجلس العسكري إن وصول هذا الوفد الأمريكي إلى نيامي “لم يحترم أُصُول الممارسات الدبلوماسية”، ويبدو إن المرأَتَيْن مُساعِدَتَيْ وزير الخارجية مَعْرُوفتان بالعَجْرَفَة وقِلّة الأدب وببذاءة اللّسان، فيما يُعتبر قائد “أفريكوم” شخصية من الدّرجة الثالثة، ولم يَرُق ذلك للمجلس العسكري الذي رفض رئيسه مظاهر التّعالي والتهديد الأمريكيّيْن ورَفَضَ استقبال الوَفْد الذي طالبت رئيسته “بعودة النيجر إلى المسار الديمقراطي أثناء مناقشة قضايا الأمن والتنمية”، وحَذَّرَت رئيسة الوَفْد من تطوير العلاقات مع روسيا وإيران، وفق وسائل الإعلام الأمريكية، وأكّدَت حكومة النيجر “الحق في اختيار الشركاء ونوع الشراكة التي تخدم مصالح شعب النيجر”…
من جهة أخرى، نشرت صحيفة “لوموند” الفرنسية قبل نحو ثلاثة أشهر – في بداية سنة 2024 – مُلخّصًا لجلسة استماع بمجلس النواب الفرنسي، لمّح خلالها رئيس أركان القوات المسلحة، الجنرال تييري بوركهارد، إلى مشاريع لـ”قواعد مشتركة بين الجيش الفرنسي والجيش الأميركي في بعض مناطق إفريقيا” ومن بينها المناطق التي خسرت فيها فرنسا مواقعها، وعاد الحديث مُؤَخَّرًا عن هذه المشاريع بعد تدهور العلاقات بين بعض الدّول الإفريقية (مالي والنيجر وبوركينا فاسو ) وفرنسا التي لها قواعد عسكرية في السنغال وتشاد وساحل العاج والغابون، فضلا عن المصالح الاقتصادية الفرنسية في فرب إفريقيا حيث يعمل حوالي 200 ألف فرنسي، في حين تغلق فرنسا (ودول الإتحاد الأوروبي) الحُدُود بإحكام لحَظْر دخول المواطنين الأفارقة للدراسة أو السياحة أو للعمل أو زيارة الأهل، رغم ادّعاء وجود “روابط تاريخية وثقافية ” مزعومة بين القُوّة المُسْتَعْمِرَة (فرنسا) والشعوب الإفريقية الواقعة تحت الإستعمار…
تدرس السلطات الفرنسية والأمريكية إنشاء قواعد عسكرية مُشتركة في إطار التحالفات التي بدأت مع انهيار الإتحاد السوفييتي، وتم تكريسها خلال تدمير وتقسيم يوغسلاقيا والعراق (1991) وأفغانستان وليبيا وسوريا واليمن وفي فلسطين وأوكرانيا، وبهدف مواجهة روسيا والصّين في إفريقيا، غير إن روسيا والصين لم تُنَظّما – لحدّ الآن – انقلابات ضد رؤساء الأنظمة التي لا تروق لها، واهتمت باستغلال الموارد الطبيعية، وكذلك ببناء المدارس والمراكز الصحية ومُنشآت البُنية التّحتية. أما التّحالف العسكري بين فرنسا والولايات المتحدة فَيُشَكِّلُ عدوانا على الشعوب الأفريقية، والعدوان يستوجب المُقاومة.
تحَوُّل فرنسا من الاستعمار إلى “الإمبريالية الربوية” بين سنتَيْ 1870 و 1945
بدأت الإمبريالية، حال انتقالها من الهيمنة على الأسواق المحلية إلى غزو أسواق خارجية، النهب المباشر للأراضي المكتشفة حديثًا عبر تَمَلُّكها ( افتكاكها من أصحابها) وتدمير الإنتاج المحلي ( وعلاقات الإنتاج المحلية) وتحويل الأرض إلى رأس مال، وتكثّفت هذه العملية بعد قمع الثورات، وفي فرنسا تمكنت البرجوازية ودولتها – التي كانت تحتل العديد من مناطق بحر الكاريبي وإفريقيا وأمريكا الجنوبية – وجيشها من سحق ثورة 1848 و كميونة باريس سنة 1871، بالتوازي مع تطوير السفن البخارية وسبل الوقاية من الأمراض كاملاريا، لتيْسير احتلال مساحات كبيرة ليستغلها المُستعمِرُون برعاية جيش الإحتلال، قبل مؤتمر برلين (1886 ) الذي مكّن القوى الإمبريالية الأوروبية من تقاسم النّفوذ، من خلال تصدير رأس المال في شكل قروض أو سندات ( بدلا من الإنتاج)، وحققت الإمبريالية الفرنسية فائضًا تجاريا وأرباحًا ضخمة بين سنتي 1870 ( سنة الهزيمة أما جيش بروسيا بقيادة بيسمارك) و 1914 (بداية الحرب العالمية الأولى) قبل أن يُهيمن رأس المال المصرفي ( القائم على العلاقة بين الدّائن أو المُقْرِض والمُستَدِين أو المُقْتَرِض) على رأس المال الإنتاجي ( المبني على العلاقة بين البائع والمُشتري)، لتصبح فرنسا “الإمبريالية الربوية” لأنها كانت تمثل 20% من إجمالي الاستثمار الأجنبي المباشر في العالم وثاني أكبر مصدر لرأس المال في العالم، وكان ذلك من مُؤشرات تَحَوُّل فرنسا من بالنهب المباشر والسيطرة على الأراضي ( الإستعمار التقليدي)، إلى “الإمبريالية الربوية”، التي تميزت بتصدير رأس المال المالي لتفوق مساحة سيطرتها وعدد سكان مستعمراتها الإمبراطورية البريطانية، وفق وقائع ووثائق المعرض الاستعماري في باريس سنتي 1931 و 1939
تَكَيُّف الإمبريالية الفرنسية بعد الحرب العالمية الثانية
شكلت نهاية الحرب العالمية الثانية بداية انحدار الإمبريالية الفرنسية ( وكذلك البريطانية) ليبدأ عصر الهيمنة الأمريكية وقيادتها العالم، رغم تعزيز دور الإتحاد السوفييتي بنهاية الحرب العالمية الثانية، فقد كانت فرنسا وبريطانيا (وأوروبا عمومًا) تحتاجان موارد مالية هامة لإعادة إعمار ما دَمّرته القنابل الألمانية وكذلك الأمريكية، كما اشتد نضال المُستَعْمَرات من أجل الإستقلال، بعد مشاركة أبنائها في محاربة النّازية، غير إن الإمبريالية الفرنسية تنكرت وقتلت 45 ألف جزائري يوم الثامن من أيار/مايو 1945، يوم احتفال أوروبا بالإنتصار على النازية، وقتلت مئات الجنود السينغاليين المُسَرّحين الذين طالبوا بأجورهم المتأخرة، وكانت هزيمة الإمبريالية الفرنسية في ديان بيان فو (فيتنام 1954) مُحَفِّزًا لتوسيع الحملة المناهضة للإمبريالية وإنهاء الاستعمار، ومساهمة المنظمات المناهضة للإمبريالية في تأسيس مجموعة عدم الإنحياز (مؤتمر باندونغ بإندونيسيا سنة 1955)، وأدّت المشاريع الأمريكية للسيطرة على أوروبا (والعالم) من خلال خطة مارشال لإعادة إعمار أوروبا وهيمنة الدّولار وسيطرتها على المؤسسات الدّولية التي أنشأتها بنهاية الحرب (بريتن وودز 1944)، إلى إضْعاف مكانة فرنسا الدّولية وفي مستعمراتها حيث نصبت سنة 1960 أنظمة تابعةً لها، فأنشأت فرنسا مؤسسة الفرنك الأفريقي في مستعمراتها الإفريقية، للمحافظة على بعض نفوذها وسيطرتها الحصرية على غرب إفريقيا، من خلال ربط الفرنك الأفريقي بالفرنك الفرنسي ثم باليورو، وبذلك تمكنت الإمبريالية الفرنسية من خلال الفرنك الإفريقي ( CFA ) من المحافظة على مَوْرِدٍ هام للمواد الخام لتطوير الصناعة الحديثة وعلى سوق واسعة لبيع السلع المصنعة والأسلحة، وبذلك حافظت الإمبريالية الفرنسية على مكانتها ضمن التقسيم العالمي للعمل بعد نهاية الحرب العالمية الثانية…
الفرنك الإفريقي أداة هيمنة فرنسية
كان استقلال المستعمرات الإفريقية سنة 1960 شكْلِيًّا، إذْ حافظت القوة الإستعمارية الفرنسية على قواعد عسكرية وعلى هيمنتها الثقافة من خلال اللغة الفرنسية، وحافظت على هيمنتها الإقتصادية من خلال احتكار شركاتها للقطاعات الأساسية والبنية التحتية والموارد الطبيعية مثل النفط في الغابون والكونغو واليورانيوم في النيجر والذهب في مالي والكاكاو في ساحل العاج، وهيمنتها المالية من خلال الفرنك الإفريقي ( CFA ) فضلا عن هيمنتها على المؤسسات الإقليمية مثل مجموعة غرب إفريقيا (إكواس بالإنغليزية أو سيداو بالفرنسية) ولم تتردّد الإمبريالية الفرنسية في تنظيم الإنقلابات واغتيال أي زعيم يعرقل مشاريعها ( مثل توماس سانكارا، رئيس بوركينا فاسو) وقبله زعماء الإتحاد الشعبي بالكامرون وغيرهم، وكان تهديد هيمنة الفرنك (CFA ) بإنشاء مصرف إفريقي للتنمية وعملة إفريقية موحّدة، من أسباب تواجد الإمبريالية الفرنسية في مقدّمة المحرضين على العدوان على ليبيا التي أعدّ رئيسها معمر القذافي مشروع استبدال نظام الفرنك الأفريقي بنظام يعتمد على الفرنك أو الدّينار الذّهَبِي الأفريقي، ما قد يُهدّد النفوذ الإقتصادي والمالي الفرنسي في أفريقيا، لأن نظام الفرنك “سي إف آي” لم يكن مجرد عملة، بل نظامًا نقديًا مؤسسيًا صمّمته الدّولة الفرنسية من أجل استمرار الهيمنة بواسطة “الاتحاد المالي الأفريقي” (بنين وبوركينا فاسو وساحل العاج وغينيا بيساو ومالي والنيجر والسنغال وتوغو) والمجموعة الاقتصادية لدول وسط أفريقيا ( الكاميرون والكونغو والغابون وغينيا الاستوائية وجمهورية أفريقيا الوسط ىوتشاد) بالإضافة إلى اتحاد جزر القمر الذي اقتطعت منه الإمبريالية الفرنسية جزيرة مايوت وأَبْقَتْها تحت هيمنتها المُباشرة وأنشأت فرنسا ثلاثة مصارف مركزية إقليمية تحت هيمنتها: المصرف المركزي لدول غرب أفريقيا، ومصرف دول أفريقيا الوسطى، والبنك والمصرف المركزي لجزر القمر، ولا تمتلك هذه المصارف المركزية أي استقلالية، حيث يتم التبادل بينها من خلال المصرف المركزي الفرنسي، باعتباره “الضّامن” لعملات التّكتّلات الثلاثة…
يرتكز الفرنك الإفريقي ( CFA ) على بعض الدّعائم ومن بينها أسعار الصرف الثابتة ومراقبة المصرف المركزي الفرنسي لاحتياطيات الدول الأعضاء من العملات الأجنبية، وحرية تنقل رأس المال، أي سيطرة السلطات السياسية الفرنسية على الدول الأعضاء التي تبقى مخططاتها التنموية وعلاقاتها الإقتصادية مع الخارج وإيراداتها وإنفاقها ووارداتها وصادراتها وناتجها المحلي الإجمالي تحت سيطرة فرنسا، لتبقى منطقة غرب أفريقيا سوقًا حصريةً للسلع المصنعة الفرنسية ومساعدة رأس المال الفرنسي والشركات الفرنسية على المنافسة في الأسواق الدّولية…
أزمة الدّيون وبرامج الإصلاح الهيكلي بإفريقيا
فوائد “المركز” ومصائب “الأَطْراف”
عاشت الدّول الإفريقية أزمة الديون خلال العقد الأخير من القرن العشرين ولم تقدم فرنسا أي دعم مالي لأعضاء منطقة الفرنك الأفريقي وتخلت عن وعدها بأن تكون الضامن لفرنك الاتحاد المالي الأفريقي، وفرضت على “شُركائها” سياسة “التّكَيُّف الهيكَلِي” التي يشترطها صندوق النقد الدولي، وفرضت فرنسا خفض قيمة فرنك الاتحاد المالي الأفريقي بنسبة 50%، مما أدى إلى تَضَخُّم قيمة الدّيُون المُقَوّمة بالدّولار أو بالعملات الأجنبية الأخرى، فكانت النتائج إيجابية على فرنسا وسلبية على مستعمراتها السابقة، لأن فرنسا تحصل على السلع من منطقة الفرنك الأفريقي بنصف السعر السابق ( بما إن الفرنك الإفريقي انخفض بنسبة 50% ) بينما اضطرت بلدان منطقة الفرنك الأفريقي إلى استيراد الإنتاج الزراعي والصناعي والأدوية والآلات بالدّولار أو بالعملات الأجنبية الأخرى، في ظل انخفاض كبير في دخل الدول الإفريقية وسكانها والعاملين، بسبب استخدام فرنسا للفرنك الأفريقي كآلية لفرض انكماش الدخل على البلدان التي تهيمن عليها فرنسا، لأن انكماش الدخل هو إحدى الآليات الأساسية للإمبريالية المفروضة على البنية الإنتاجية في بلدان “الجنوب” ( الأَطْراف) بينما يرتفع معدل ربح رأس المال في الدول الإمبريالية (المركز) وبذلك ظهرت الوظيفة الحقيقية للفرنك الأفريقي كضمان للمصالح الفرنسية على حساب أفريقيا الناطقة بالفرنسية، خصوصا منذ سبعينيات القرن العشرين، لمّا احتدّ الصّراع بين الإمبرياليات بشأن التقسيم الدّولي للعمل (بعد فك ارتباط الدّولار بالذهب وربط سعر المحروقات والمواد الأولية بالدّولار) فاستخدمت الإمبريالية الفرنسية الفرنك الأفريقي لإدامة وتعزيز نموذج المركز والأطراف، ولبلورة تقسيم العمل بينها (المركز ) وبين مستعمراتها السابقة ( المُحيط أو الأطراف)، بهدف تعزيز فائض القيمة الذي تحصل عليه من مُستعمراتها السابقة، وتعزيز قُدْرَتِها على المنافسة ضد البلدان الإمبريالية الأخرى،فضلا عن تنظيم فرنسا أسعار وارداتها وصادراتها مع دول منطقة الفرنك الإفريقي ( CFA) دون تدخّل السوق الدولية، ودون تدخّل قانون العرض والطلب، ما مكّن الشركات (والدّولة) الفرنسية من شراء المواد الخام من بلدان منطقة الفرنك الأفريقي بأسعار أقل بكثير من أسعار السوق الدولية، وبيع إنتاج هذه الشركات الفرنسية إلى إفريقيا بأسعار أعلى بنسبة تتراوح بين 20% و 30% عن أسعار السوق الدّولية ما يُحقق لفرنسا عدّة أهداف، وفي مقدّمتها فَرْض تبعية السوق الإفريقية لفرنسا وتعويض العجز التجاري مع بلدان أخرى ( ألمانيا أو اليابان أو الولايات المتحدة) وزيادة معدّل ربحية الشركات الفرنسية وتعزيز مكانة الرأسمالية الاحتكارية الفرنسية في الأسواق العالمية…
خلق نظام الفرنك الإفريقي بعض الخلاف مع الإمبريالية الأمريكية لأن الفرنك الإفريقي مربوط بالفرنك الفرنسي ثم باليورو، وهو نظام تم تصميمه بهدف حَصْر تجارة إفريقيا وجعلها لا تحتاج إلى الدولار الأمريكي، أي إن فرنسا خلقت حاجزًا بين البلدان التي تُهيمن عليها (مستعمراتها السابقة) والنظام العالمي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة، فكانت فرنسا أكبر دائن عالمي للدول الإفريقية بقيمة 1,125 تريليون دولارا بعد الصين ( 1,343 تريليون دولارا) وتم استخدام أهم جزء من هذه الدّيون لتعزيز البُنية التحتية والموانئ والطرقات التي تستفيد منها الشركات الفرنسية المُحْتَكِرَة للأسواق الإفريقية والتي أخرجت من إفريقيا إلى فرنسا أو إلى الملاذات الضريبية، بتواطؤ الفئات الكمبرادورية الحاكمة، أكثر من 850 مليار دولارا بين سنتي 1970 و 2008، فضلا عن الأموال المُهَرّبَة التي لا يشملها الإحصاء، وهكذا سمحت منطقة الفرنك لفرنسا بتحقيق فائض قيمة مرتفع وسمحت بالحفاظ على هيمنة الإمبريالية الفرنسية وعلى مكانتها في منظومة التبادل الدّولي غير المتكافئ بين المركز والمحيط، وتوسيع هامش مقاومة فرنسا لهيمنة الدّولار والاحتفاظ بموقف سياسي واقتصادي مستقل دون الاضطرار إلى العمل بالكامل في إطار الإمبريالية الأمريكية…
أدّى استثمار الصين وقوى رأسمالية أخرى في إفريقيا إلى تغييرات في التوازن بين القوى الرأسمالية التقليدية، وتندرج انقلابات مالي وبوركينا فاسو والنيجر في إطار التّمرّد ضد الإمبريالية الفرنسية، ما خلق علاقات جديدة بين القوى الإمبريالية فيما بينها، وكذلك مع قادة الإنقلابات…
عينات من انحسار نفوذ الإمبريالية الفرنسية في إفريقيا
النيجر
عَلَّقَت الولايات المتحدة تعاونها العسكري مع النيجر عقب الإطاحة بالرئيس محمد بازوم سنة 2023، غير إنها احتفظت بقاعدة عسكرية ضخمة للطائرات الىلية (درونز) في “أغاديز”، شمال البلاد، غير بعيد عن حدود الجزائر، وبما لا يقل عن 1100 جندي في النيجر، وأدّى وفد أمريكي زيارة إلى النيجر مُؤَخّرًا وأعرب عن “استعداد الولايات المتحدة لاستئناف التعاون العسكري، والحفاظ على قاعدة الطائرات بدون طيار في أغاديز”، ولما أدّت وكيلة وزارة الخارجية الأمريكية للشؤون الأفريقية، زيارة إلى النيجر، لم تتمكّن من إجراء مقابلة مع رئيس المجلس العسكري، وهو ما اعتبرته الولايات المتحدة خرقًا للأعراف الدّبلوماسية، وتمثّلت ردّة الفعل في إعلان المتحدث باسم المجلس العسكري الإنسحاب رسميا من اتفاقية التعاون العسكري مع الولايات المتحدة، الموقعة سنة 2012، وتعتبر الحكومة الانتقالية وجود القوات الأمريكية على أراضيها غير قانوني، ووصف الإتفاق مع الولايات المتحدة بأنه “غير عادل” و”تم فرضه من جانب واحد”، ويُشكّل إلغاء الاتفاق العسكري مع الولايات المتحدة، جزءًا من مجموعة إجراءات مماثلة اتخذتها النيجر تجاه فرنسا، مع رحيل آخر جندي فرنسي في كانون الأول/ديسمبر 2023، ضمن إعادة تنظيم التحالفات، تمثلت في خروج النيجر ومالي وبوركينا فاسو من منظمة غربي إفريقيا التي تُهيمن عليها فرنسا، والتي فرضت حصارًا على البلدان الثلاثة التي عززت تحالفها لمحاربة المجموعات الإرهابية وللخروج من عباءة الهيمنة الفرنسية…
بعد أشهر فقط من إجبار فرنسا على سحب قواتها من مستعمراتها السابقة ( كانون الأول/ديسمبر 2023) أعلن قادة النيجر، يوم 16 آذار/مارس 2024 – بعد زيارة وفد أمريكي قيل إن رئيسته هددت قادة النيجر بالانتقام بسبب العلاقات المتطورة مع روسيا وإيران – “إن وجود القوات الأمريكية غير قانوني”، ما قد يُمثّل تقويضًا لمخطط الجيش الأمريكي الذي كان يعتزم استغلال خروج فرنسا لزيادة عدد قواته في المنطقة، وقد يضطر الجيش الأمريكي إلى الخروج من ثلاث قواعد عسكرية ذات أهمية استراتيجية، ومنها قاعدة العاصمة نيامي وبها 1200 جندي وقاعدة في بلدة “ديركو” بالشمال الشرقي للبلاد تديرها وكالة المخابرات المركزية، منذ 2016 وواحدة من أكبر قواعد الطائرات بدون طيار في العالم في مدينة أغاديز، وبها طائرات نقل سي 17 وهي ثاني أكبر قاعدة أمريكية في أفريقيا بعد قاعدة جيبوتي، ولم تصدر الولايات المتحدة بياناً بعد 48 ساعة من هذا الإعلان، وتم إلغاء المؤتمر الصحفي الذي كان من المقرر عقده يوم الأحد 17 آذار/مارس 2024، في السفارة الأمريكية في نيامي عاصمة النيجر، حيث تَجمّع المتظاهرون يوم السبت 16 آذار/مارس 2024 (أمام السفارة) للتنديد بالتدخل الأمريكي، وللتعبير عن دعم قادة المجلس العسكري الذي أطاح بالرئيس محمد بازوم (دُمْيَة فرنسا) ويحظى قادة الإنقلاب بدعم شعبي وبدعم النقابات العمالية، بسبب النقمة على فرنسا التي رفضت حكومتها في البداية سحب قواتها إثر نهاية فترة الاتفاقيات العسكرية المبرمة مع النيجر ( آب/أغسطس 2023 ) ثم اضطرت إلى سحب قواتها بين شَهْرَيْ أيلول/سبتمبر وكانون الأول/ديسمبر 2023، كما انسحبت قوات دول الاتحاد الأوروبي الأخرى في أعقاب فرنسا التي فشلت في الضغط على النيجر ومالي وبوركينا فاسو من خلال الحصار الذي فرضته المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (ECOWAS) خصوصًا بعد انسحاب الدّول الثلاثة من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا في كانون الثاني/يناير 2024، كما روجت الإعلام الأمريكي والأوروبي أخبارًا عن اتفاق سري يُمكّن إيران من التّزوّد باليورانيوم من النّيجر، وكذّب المتحدث باسم المجلس العسكري هذه الشائعة، وشبّهها باتهام العراق بامتلاك أسلحة الدّمار الشامل لتبرير العدوان الأمريكي
أعلنت السّلطات العسكرية بمالي وبوركينا فاسو والنيجر تشكيل “تحالف دول الساحل” (أيلول/سبتمبر 2023) وبناء علاقات بديلة مع دول مجموعة بريكس بدل العلاقات التي كانت مع فرنسا والتي ألحقت أضرارًا كثيرة بالدول المحيطة بالصّحراء الكبرى…
إفريقيا الوسطى
فقدت جمهورية إفريقيا الوسْطى تماسكها كدولة مُوَحّدة منذ حوالي 15 سنة، حيث تُسيطر مجموعات مُسلّحة على مناطق عديدة من شمال وغرب ووسط وشرق البلاد التي أصبحت دولة مجزأة، خصوصًا منذ انتفاضة “سيليكا” في أوائل سنة 2010، وتعني عبارة “سيليكا” في لغة “سانغو”، الإئتلاف أو التحالف، وكانت تستخدم للإشارة إلى تحالف مجموعات من قوات المتمردين، خصوصًا من شمال البلاد، بهدف إسقاط حكومة الرئيس فرانسوا بوزيزيه الذي كان مدعومًا من فرنسا، القوة الإستعمارية السابقة، وكان متورّطًا طوال فترة ولايته – التي انتهت سنة 2013 – في صراع أهلي مع الجماعات المسلحة في المنطقة الشمالية من البلاد، ومع رحيل بوزيزي ووصول مقاتلي السيليكا إلى العاصمة بانغي، حاولت الحكومات المتعاقبة السيطرة على المناطق المُحيطة بالعاصمة، بدعم من الجيش الفرنسي الذي يُدافع عن مصالح المصارف والشركات الفرنسية وتدخّل سبع مرات بشكل مباشر في جمهورية إفريقيا الوسطى، بين 1960 – تاريخ الإستقلال الشكلي – و 2013، وتمت تغطية التّدخل الأخير بجعله تدخّلا عسكريا متعدد الجنسيات تحت إسم سانغاريس، وغير فَعّال انتهى رسميًا سنة 2016، غير أن الانسحاب الفعلي للجيش الفرنسي لم يحصل سوى بعد بضع سنوات، وبعد نَشْر أخبار عن تورّط ضُبّاط الجيش الفرنسي في فضائح عديدة
شاركت العديد من الجماعات المسلحة في تمرد “سيليكا”، قبل أن تنقسم إلى مجموعات متعددة ومنها “الجبهة الشعبية لنهضة جمهورية أفريقيا الوسطى” التي شكلت دولة جديدة تعرف باسم جمهورية “لوغون” ومركزها مدينة “نديلي”، وهي نموذج للمجموعات الأخرى التي حاولت كل منها السيطرة على جزء من البلاد، في غياب دولة مركزية وجيش موحّد، ما دفع مجموعات من المواطنين والعسكريين السابقين إلى تشكيل مليشيات “مناهضة السّواطير” (أنتي بالاكا)، وتم اتهام كافة هذه المجموعات وكذلك الجيش الحكومي والجيش الفرنسي الذي يحميه، بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان، وكانت تلك الإتهامات ذريعة لنَشْر قوة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة (مينوسكا )، ويعني ذلك إن التفتيت وعدم الإستقرار سوف يستمر عُقُودًا، وبدل تحقيق الاستقرار أصبحت قوة مينوسكا فصيلا إضافيا مُشاركًا في الحرب الأهلية، بفعل محاولة التصدي للمليشيات بشكل مباشر، ما تسبب في بعض ردود الفعل العنيفة.وتوجيه اتهامات بالاستغلال الجنسي والعُنف ضد المحتجزين، وهي نفس الإتهامات التي تم توجيهها كذلك للجيش الفرنسي، ولم تتمكن القوات الفرنسية ولا القوات التي تحمل شارَة الأمم المتحدة (مينوسكا) من التّقدّم في حل النزاع، بفعل الدّعم الدّاخلي والخارجي الذي تتلقاه المجموعات المتصارعة، فطلبت الحكومة من روسيا مساعدتها (سنة 2018) بواسطة المستشارين العسكريين والأسلحة، فضلا عن حوالي 1500 من مرتزقة مجموعة “فاغنر” الروسية لمساعدة الحكومة في استعادة الأراضي التي تسيطر عليها المليشيات، وكان تدخل “فاغنر” فَعَّالاً، تمكّنت روسيا بواسطته من الحصول على امتيازات في مجال المعادن الثمينة، مثل المَاس، ورغم ما تنشره الصحف الفرنسية والأمريكية حول انتهاكات مجموعة فاغنر، يعتبر مواطنو جمهورية إفريقيا الوسطى، كما النيجر وبوركينا فاسو ومالي إن الوجود الروسي إيجابي خلافًا للوجود العسكري الفرنسي والأمريكي الذي يُعتبر سلبيا وغير مرغوب، تمامًا مثل قوات الأمم المتحدة، وعرضت الولايات المتحدة على حكومة جمهورية إفريقيا الوسطى، بنهاية سنة 2022 (أي بعد حوالي عشرة أشهر من بداية الحرب في أوكرانيا) تدريب الجيش وزيادة المساعدات الإنسانية، شرط طرد الروس، وكانت جمهورية أفريقيا الوسطى واحدة من 32 دولة امتنعت عن التصويت وعن إدانة روسيا في الأمم المتحدة.
نهاية النفوذ الفرنسي ليس نهاية الإمبريالية
واصلت الإمبريالية الفرنسية وشركاتها ومصارفها ممارسة نفوذ كبير على مستعمراتها السابقة بعد موجة الإستقلالات الشكلية سنة 1960، عبر الفرنك الإفريقي وعبر السيطرة على الموارد وعبر اللغة الفرنسية والقواعد العسكرية، غير إن الوضع تغير وبدأت الإمبريالية الفرنسية تخسر مواقعها منذ بداية القرن الواحد والعشرين، وحاولت الإمبريالية الأمريكية إزاحتها لاحتلال مواقعها، وبعد الإغلاق المحكم للحدود الفرنسية والأوروبية والدّعم المستمر للحكام المُستَبِدِّين ( ومعظمهم من العُملاء الذي نصبتهم فرنسا) والتضييق على كل من أو ما يأتي من إفريقيا، أصْبح الرأي العام مناهضًا بشكل علني للإمبريالية الفرنسية، ويُشكّل الوضع في مالي والنيجر وبوركينا فاسو وجمهورية أفريقيا الوسطى نموذجا ل”المزاج الشعبي”، وتحولًا في موازين القوى الدّولية وبداية نهاية النفوذ الفرنسي في إفريقيا التي بدأت الصين منذ عِقْدَيْن الإستثمار بها واستغلال مواردها، دون إملاء شروط سياسية، وتحاول روسيا تعزيز نفوذها من خلال توزيع كميات صغيرة من القمح المَجاني، ومَثَّل رَفْضُ عدد من قادة الدول الإفريقية الناطقة بالفرنسية ا في أفريقيا النفوذ العسكري والإقتصادي الفرنسي تحولا استغلته روسيا والصين لدعم الأنظمة التي طلبت مساعدتها، وتُشكّل هذه الأحداث انعكاسا لما يحدث من انحدار بطيء للإمبريالية الأمريكية والأوروبية، وصعود قوى رأسمالية أخرى، لا تهدف بناء نظام اشتراكي أو تغييرات جوهرية في العلاقات الدّولية، بل تريد استبدال نظام “القُطب الرأسمالي الواحد” ب”نظام رأسمالي متعدّد الأقطاب”، وهو تحوّل طفيف لا يخدم مصلحة الكادحين والشعوب المُضْطَهَدَة والواقعة تحت الهيمنة، ويُشكل العدوان والإبادة والتدمير الذي يستهدف الشعب الفلسطيني، منذ خمسة أشهر (منذ السابع من تشرين الأول/اكتوبر 2023) والدّعم الإمبريالي والرجعي العربي للمجازر، والصّمت المُتآمر لروسيا والصّين، نموذجًا لهذا العالم متعدد الأقطاب الذي تُرَوِّجُ له هذه القوى التي تدّعي إنها بديلة…
التعليقات مغلقة.