عن وصفي التل .. والشاعوب والهُويَّة / باسل الرفايعة

 

باسل الرفايعة ( الأردن ) الثلاثاء 29/11/2016 م …

لَمْ أكتبْ عَنْ وصفي التل، أبداً. أخافُ من عِبادةِ النَّاسِ للنَّاسِ. تأخذني الريبةُ من الصلواتِ الثقيلةِ عِنْدَ تماثيلِ الآلهة. أتحاشى الصوابَ الثقيلَ، والإصغاءَ الكاملَ، وأقعُ في الخطأ والسهو والنسيان، فلا ارتباكَ كالأسف، ولا عُذْرَ كالخطيئةِ. فيما نظنُّها نجاةً، وهروباً إلى النوم.

لَمْ أكتب عن وصفي. قرأتُ عَنْهُ كثيراً. وسمعتُهُ منذُ طفولتي، أحياناً كأغنيةٍ ريفيَّةٍ عاشقةٍ. كأهزوجةٍ أردنيّةٍ، منسوجةٍ من ألوانِ المدارقِ والشروش الرمثاويّة والنابلسية والكركية والسلطيّة. أحياناً كنشيدٍ عسكريٍّ، يُعلنُ الحربَ على الْبَيْتِ وأهله، وثمّةَ مَنْ يستدعيهِ إلى مباراةٍ لكرةِ القَدَم، وإلى البرلمان.

رأيتُ وصفي فلاّحاً بسيطاً، مِثْلَ أبيهِ عرار ‘إربديَّ اللونِ حوراني’. يَعدُّ أصابعَ الشاعوبِ، لأجلِ الزَّرعِ والقشِّ، ويمشي على أصابعهِ، ليوقظَ الهواءَ الغربيَّ، حيثُ يُذرِّي، ويعرفُ جيِّداً أينَ يسجدُ القمحُ، وأينَ يطيرُ التبنُ.

أحْببتُ وصفي، الشاعرَ الشعبيَّ، وهو يتقصَّى أثرَ التي ‘تلوحُ بطرفِ المنديلِ مشنشلْ برباعْ’، وطوَّافَ السروِ والبلوطِ والصنوبر، والجريحَ في ‘حربِ الإنقاذ’. أحببتُه معتقلاً في سجنِ ‘توفيق أبو الهدى’، وعاشقاً لفلسطين، وكتفاً على كَتِف الفدائيِّ، وأنكرُ له كلَّ صورةٍ، إلا بمنجلٍ، وبصحبةٍ مع جورج حدّاد، وتوفيق النمري، وغالباً مع معاصرِ الزيتونِ في السلط، ومصانعِ الصابونِ في نابلس، أحبُّ صورته، وبعضُ الحُبِّ إنكارٌ، إِنْ كُنتِ لا تعرفينَ يا قناةَ الغَوْرِ الشرقيَّة.

من الظلمِ اختصارُ وصفي في شَهْرٍ أسود. فالأخطاءُ سِوارٌ على مِعْصَمِ الآلهة.

كانَ لوصفي ما للبشرِ من أخطاء. لهم كلّهم. الثوريُّ، والفدائيُّ، والعسكريُّ، وصانعُ الكنافة، والسمكريُّ، وموظَّفُ الحكومة. المؤذنُ والقسُّ، وحارسُ فندق الشيراتون في القاهرة، ومعهم جمال عبدالناصر المريض، وصلاح خلف، وياسر عرفات. الكارثة أنَّ ثمَّةَ مَنْ لا يزالُ يرى الماضي بطولةً، أو خيانةً، أو هزيمة، ويُريدُ أنْ يردمَ نهرَ الأردنِّ، لأجلها، ويشعلَ النارَ تحتَ صفيحِ الزينكو، وجسر اللنبي، والجارحُ أنَّ هناكَ مَنْ يحثُّ على توريثِ الدمِ للأحفاد. فيما الأحفادُ من صُلْبٍ واحد، ومن جبينٍ متجهِّمٍ، بالتجاعيدِ، نفسها، وينعكسُ في الصباحِ على ضفتيْ نهرٍ واحد.

غابَ وصفي، وقاتلهُ. ماتَ أيلولُ، وذهبتِ الريحُ بأوراقه الصفراء. نريدُ أغنيةً على كلّ الحناجرِ، لا ‘يخسأُ فيها أحد’. عرضاً فلكولوريّاً على ملعب عمَّان الدوليّ، عوضاً عن مسرحيَّةٍ بائسة، بينَ الفيصلي والوحدات. روايةً، لا يمنعها المراقبُ، وقصيدةً في كلِّ الدفاترِ. القصيدةُ هُويَّة. أمَّا الهويَّةُ، فرائحةُ خبزٍ معجونة بالمِلْح، وهو ذَلِكَ الذي يذوبُ تحتَ اللسان، وينسى، ليعيش.

لَنْ يعودَ أيلولُ الأسودُ. لَنْ نسمحَ لَهُ أنْ يقسمَ الرغيفَ على هواه. الرغيفُ إبنُ النار، وهي أمُّ المدفأة، وَنَحْنُ جميعاً حولها، كأيتامٍ في ليلةِ شتاء..

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.