تناقضات الجوع والثراء الفاحش / الطاهر المعز
الطاهر المعز ( تونس ) – الجمعة 5/4/2024 م …
كتب الخبير الاقتصادي الإنغليزي الرجعي “توماس روبرت مالتوس” سنة 1798، في مقال عن “مبدأ السكان”، إن الجوع نتيجة حتمية لتكاثر عدد الفقراء بصورة لا يستطيع النظام الغذائي مواجهتها، واعتبر إن الوفاة المبكرة للفقراء بسبب الجوع أمر طبيعي يندرج ضمن انتقاء الطبيعة للسّلالة البشرية لكي يكون البقاء للأقوى، وتُعْتَبَر هذه النظرية سليلة فاشية القرن العشرين، وأعلن صندوق النقد الدولي ، منذ سنة 1973، أن “النمو السكاني المفرط يُشكّل العائق الأكبر أمام التقدم الاقتصادي والاجتماعي في العالم المتخلف”ووردت نفس العبارات في تقارير البنك العالمي وصندوق الأمم المتحدة للسكان ووكالات التنمية، وردّدت تقاريرها إن معدلات المواليد في البلدان الفقيرة هي المسؤولة عن ارتفاع حجم الفقر والجوع، وعادت هذه النظرية إلى العَلَن على لسان بعض المسؤولين الأمريكيين، مثل دونالد ترامب وهيلاري كلينتون وفيكتوريا نولاند، باسم ضرورة التناسب بين الموارد وعدد سكان العالم، وبما إن الأثرياء أقلية في جميع البلدان وفي كل مكان وزمان فإن الدّعوة إلى الإبادة وخفض عدد سكان العالم تستهدف الفُقراء… أما السبب الحقيقي لارتفاع عدد المحتاجين إلى الطعام – بمن فيهم من يعملون بدوام جزئي وبعقود هشة ووظائف غير ثابتة – هو احتكار الثروات والموارد واحتكار إنتاج الغذاء من قِبَل قِلة من الشركات الزراعية.
تُشير الوقائع والبيانات والأرقام إن النمو السكاني العالمي لم يتجاوز أبدا وفي أي وقت من الأوقات نمو الإمدادات الغذائية العالمية، وأشارت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة إلى ارتفاع إنتاج الغذاء العالمي بشكل كبير خلال الفترة من 2005 إلى 2020، حيث ارتفعت إنتاجية محاصيل قصب السكر والذرة والأرز والقمح والإمدادات العالمية من الفاكهة بأكثر من 50% كما ارتفع إنتاج الخضروات بكافة أنواعها بنسبة 65% والحليب بنسبة 53% وإنتاج اللحوم بما لا يقل عن 40%، وأوْرَدَت دراسة أجرتها مؤسسة “الحرب على العوز” الخيرية ونشرتها في لندن (آذار/مارس 2023) إن مُزارعي العالم ينتجون أكثر من 2,6 أضعاف احتياجات البشر من الغذاء، أو ما يُعادل ستة آلاف سعرة حرارية لكل إنسان في العالم، ومع ذلك يفتقر 2,3 مليار شخص إلى طعام صحي ومغذي، أو ما يُطلق عليه “انعدام الأمن الغذائي”، بزيادة قدرها 150 مليون شخص بين 2019 و 2022 كما أن 3,1 مليار شخص غير قادرين على تحمل تكاليف نظام غذائي صحي، بسبب قِلّة الموارد المالية وبسبب الإرتفاع القياسي لأسعار الغذاء، وبالمقابل بلغ حجم الثروات المُتَجَمِّعَة لدى أثرى الأثرياء درجة قياسية، وتحتكر الشركات العابرة للقارات البذور والمواد الكيميائية الزراعية والتوزيع والبنية التحتية للبيع بالتجزئة، وتمتلك هذه الاحتكارات العالمية حصصًا مهمة في العديد من فروع قطاع الأعمال الزراعية، وتفرض مواصفات الإنتاج والتعليب والتخزين والنّقل والتّسويق، وعلى سبيل المثال تسيطر ست شركات فقط على 58% من سوق البذور العالمية، و77,6% من سوق الكيماويات الزراعية وتسيطر عشر شركات على 40% من التجارة الزراعية، وتستولي هذه الشركات على الأراضي الزراعية بينما يعتمد 2,5 مليار شخص على الأرض بدرجة أو بأخرى لتحصيل معيشتهم ولتوفير الغذاء لنحو 70% من سُكّان العالم، باستغلال 30% فقط من الأراضي الزراعية، فيما احتكرت الشركات العابرة للقارات والمضاربين العقاريين النسبة المتبقية من الأراضي الزراعية، ما يُؤَكّد إن أزمة الوصول إلى الغذاء ناتجة عن الإحتكار الرأسمالي وليست أزمة إنتاج أو نُقص الغذاء، وهي أزمة ناتجة كذلك عن توجيه الزراعة نحو المحاصيل المُعَدّة للتصدير، ما جعل نسبة هامة من سكان البلدان الزراعية يعانون من الجوع، بعد استحواذ الشركات الإحتكارية على الأراضي التي كانوا يستغلونها وتحويلها إلى الزراعات الأحادية التي تستنزف خصوبة التّربة وترفع أسعار الغذاء الصحي بنحو 7%، فأصح 17% من سكان تايلند وباكستان ومن سكان الوطن العربي ( حوالي سبعين مليون شخص) و 26% من سكان ميانمار يواجهون انعدام الأمن الغذائي، وفق الأمم المتحدة التي أشار تقريرها إلى المضار التي تُسببها مُضاربة المصارف بالغذاء، وعلى سبيل المثال أدّى نشاط المضاربة بالسلع الغذائية لمصرف غولدمان ساكس، بين سنتَيْ 2008 و 2011 (باستخدام المال العام الذي تسلمته المجموعة المصرفية من الحكومة الأمريكية، بدون فائدة) إلى رفع أسعار القمح بنحو 40%، ما زاد من قيمة فواتير الواردات في البلدان المُستوردة مثل مصر والجزائر بنسبة 56% وترجع منظمات الأمم المتحدة ارتفاعًا حادًّا لأسعار المواد الغذائية بسبب الجفاف وتقلبات المناخ، وبسبب برامج “التكيف الهيكلي” التي يفرضها صندوق النقد الدولي والبنك العالمي…
.بعد سنة من نشر تقرير مؤسسة “الحرب على العوز”، نشرت منظمة أوكسفام ( آذار/مارس 2024) تقريرا عن عدم المساواة، وأشار التقرير إن أغنى خمسة رجال في العالم قد ضاعفوا ثرواتهم بين سنتَيْ 2020 (سنة كوفيد-19) و 2023، في حين طاول الفقر أغلبية سكان العالم بالتوازي مع خفض الإنفاق الإجتماعي وخصخصة المرافق والخدمات الأساسية…
في جبهة الأثرياء، ارتفعت أجور الرؤساء التنفيذيين بأكثر من 1200% منذ سنة 1978، في حين ارتفعت أجور العمال بنسبة 15,3% فقط، وأدى ارتفاع الأسعار ونقص القيمة الحقيقية للأجور إلى خسارة نحو 800 مليون عامل في جميع أنحاء العالم بشكل جماعي ما يعادل 1,5 تريليون دولار أمريكي على مدى سنتَي 2022 و 2023، أي ما يعادل أجر شهر تقريبًا لكل منهم، فيما أصبحت مستويات العَوَز في البلدان الأكثر فقرا أعلى مما كانت عليه سنة 2019، وبلغ مستوى التفاوت العالمي وعدم المساواة مستويات غير مسبوقة في تاريخ البشرية، وعلى هذا المنوال سوف يستغرق إنهاء الفقر 230 عاماً، ما يؤكّد مقولة كارل ماركس: “إن تراكم الثروة في أحد القطبين هو في نفس الوقت تراكم البؤس، ومعاناة الكدح، والعبودية، والجهل، والوحشية، والتدهور العقلي، في القطب المقابل“.
أحْصت “أوكسفام” احتجاجات على تكاليف المعيشة في 122 دولة ومنطقة سنة 2022، وأدّت إضرابات العمال سنة 2023 بالولايات المتحدة إلى “خسارة 7,4 ملايين يوم عمل” و”خسر” اقتصاد كندا وبريطانيا وبعض البلدان الرأسمالية المتقدمة أكبر عدد من أيام العمل منذ ما لا يقل عن عقدَيْن بسبب الإحتجاجات العمالية، فضلا عناحتجاجات فئات العمال والمزارعين في أوروبا الغربية والأرجنتين والهند…
تقترح منظمة أوكسفام على الحكومات “تفكيك الاحتكارات الخاصة والحد من قوة الشركات… واستخلاص الدّروس من قضايا مكافحة الاحتكار المرفوعة ضد مجموعات أمازون وغوغل في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا” ، لكن هل يمكن الإعتماد على جهاز الدّولة – وهو نتيجة موازين القوى وممثل لمصالح الإحتكارات وليس محايدًا البَتّة – لتنظيم الرأسمالية؟
إن الاحتكارات تخلق أرباحًا فائقة، وهب لا تُشكّل انحرافًا للرأسمالية، بل هي مرحلة من تطورها فالشركات الكبيرة التي تحقق أرباحًا أكبر تبتلع الشركات الأقل ربحية.، ما يُؤدِّي إلى ظهور الشركات الإحتكارية وتَضَخّم حجمها وإيراداتها وأرباحها، وبعد احتكار الأسواق المحلية تغزو أسواقًا خارجية لتصريف إنتاجها واستغلال الموارد المتوفرة وإخراج الموارد الطبيعية والأموال من البلدان الفقيرة إلى البلدان الغنية، وهذه النتيجة الحتمية للرأسمالية التي تعتمد على جهاز الدّولة لتأمين مصالحها ولإرسال الجيوش لحماية مصالحها في البلدان الفقيرة، ولذا فإن دَوْر الدّولة في ظل الرأسمالية لا يتمثل في إعادة توزيع الثروات ولا في معالجة عدم المساواة فالدّولة هي حامية الرأسمالية، لأنها جزء منها، وقد تُقر مجالس النواب ضريبة إضافية بنسبة 1% على الثروات العالمية الضخمة ( 140 ألف شخص تقريبًا)، لكن ذلك لا يضع حدًّا للإستغلال وللإضطهاد وللفقر، بل استعادة لجزء بسيط من الثروة التي خلقتها الطبقة العاملة، فضلا عن الإمكانيات العديدة المتوفرة لتهرّب الأثرياء من تسديد الرسوم والضرائب، ويُشير تقرير أوكسفام نفسها (التي تقترح إصلاح رأس المال من الدّاخل وإقرار ضريبة بسيطة ) إلى “تحويل نحو تريليون دولار من الأرباح ــ أو 35% من الأرباح التي حققتها الإحتكارات في الخارج ــ إلى الملاذات الضريبية خلال سنة 2022″، وبدل الضغط على هذه الشركات الإحتكارية، أقرت الحكومات ومجالس النواب إعانات جديدة وتخفيضات ضريبية لأكبر المصارف والشركات والأثرياء ومالكي وسائل الإنتاج…
إن الجوع لا يستمر بسبب ندرة الغذاء بل بسبب الإحتكار والإرتفاع غير المُبَرّر (بثمن التكلفة) للأسعار، ولا يمكن القضاء على البطالة والفقر والجوع والمرض سوى بالقضاء على جذور النظام الرأسمالي وقانون السوق واستيلاء المُضاربين على الإنتاج وعلى جهد العاملين لإنتاج السلع أو الغذاء من أجل الربح وليس من أجل الحاجة…
يكمن الحل في إرساء نظام يضمن حصول الجميع على فرص متساوية في التعليم والسكن والرعاية الصحية وفرص العمل والتّأهيل وظروف المعيشة الكريمة للجميع، من المهد إلى اللحد…
التعليقات مغلقة.