ألمانيا – بلد شبه الإجماع الرّجعي / الطاهر المعز
الطاهر المعز ( تونس ) – الأربعاء 10/4/2024 م …
ألمانيا الإستعمارية
ظهرت العديد من النّشرات الصهيونية في أوروبا، منذ القرن الثّامن عشر، وأهمّها في ألمانيا والنمسا وبريطانيا تدعم الإستعمار الإستيطاني الصّهيوني لفلسطين وتعمل على جمع التبرعات لتمويل إنشاء هذه المُستعمرات وجسّدت هذه النّشريات تقاطع أهداف الحركة الصهيونية مع أهداف الكنيسة البروتستنتية والإنغليكانية وأهداف الدّول الإستعمارية في المشرق العربي وفي فلسطين بشكل خاص، واستخدام الدّين ومكانة القُدْس كذريعة لدعم الإستعمار الإستيطاني بعد قُرُون من هزيمة الغُزاة خلال حروب الفَرَنْجَة ( من 1095 إلى 1291) وهزيمة نابليون في عكا (1799) وتحتوي الفقرات الموالية على محاولة تعريف التراث الإستعماري الألماني والعلاقة العدائية لألمانيا بالعرب والعُرُوبة…
الدعم الألماني المُطْلَق للكيان الصهيوني
وقّعت ألمانيا الغربية (جمهورية ألمانيا الإتحادية) يوم العاشر من أيلول/سبتمبر سنة 1952 اتفاقية في لكسمبورغ تُجسّد الإعتراف بالكيان الصهيوني، حال تقسيم ألمانيا وتأسيس ألمانيا الغربية (التي تُدِيرها الولايات المتحدة بقواعدها العسكرية الضّخمة) والتزمت ألمانيا بتسديد 3,5 مليار مارك سنويا للكيان الصهيوني، تعويضًا على مُعاناة وإبادة المواطنين الألمانيين والأوروبيين اليهود، قبل تأسيس دولة الإحتلال الصهيوني في فلسطين، ودعمت ألمانيا كيان الإحتلال بالخبرات العلمية والمنتجات الصناعية، قبل إقامة العلاقات الدّبلوماسية بينهما سنة 1965، وكانت زيارة “أبا إيبان” وزير خارجية الإحتلال، سنة 1970، إلى العاصمة “بون” أول زيارة رسمية لوزير صهيوني، رغم العلاقات المتينة، وكانت تلك الزيارة نقطة انطلاق لمرحلة جديدة من تطور العلاقات بين البلدين، وتوطيد العلاقات التي أرْسى أُسُسها المستشار الألماني “كونراد أديناور” ورئيس الوزراء الصهيوني “ديفيد بن غوريون“.
لم يتراجع الدّعم الألماني الرّسمي للكيان الصهيوني بل تعزّز، وظهر ذلك جليًّا أثناء عمليات الإبادة الجماعية لفلسطينيي غزة وشنّت أجهزة القمع الألمانية ( الشرطة والقضاء والإعلام) حملة لقمع النشاط المؤيد للفلسطينيين، بما في ذلك مداهمة منازل المناضلين في عدة مناطق، واعتقال الأشخاص في منازلهم ليلا بين منتصف الليل والساعة السادسة صباحًا من قِبَلِ ضباط شرطة مسلحين وملثمين حطّموا أبواب مساكن المناضلين في عدة مدن، من بينها العاصمة برلين، حيث قامت الشرطة بتفتيش وبَعْثَرة الأمتعة واحتجاز الممتلكات الخاصة ومصادرة الأجهزة الإلكترونية والهواتف، وكانت هذه المداهمة الثالثة لمساكن البعض من المناضلين العرب، بين السابع من تشرين الأول 2023 والثاني والعشرين من آذار/مارس 2024، وتُشكل هذه المداهمات جُزْءًا من حملة مُنَسّقة ومدروسة من قِبَل أجهزة الدّولة في ألمانيا، تستهدف المُشاركين في تجمعات قانونية للإحتجاج على انتهاكات حقوق الإنسان الفلسطيني والعربي، وسبق أن حَظَرَت وزارة الداخلية الألمانية كتابة وهتاف “من النهر إلى البحر” واعتقلت بعض من كتبوه على صفحات التواصل “الإجتماعي”
لا تُشكّل المنشورات على وسائل التواصل “الإجتماعي” تهديدا للكيان الصهيوني ولا لألمانيا، بل تهدف التّدابير الإستثنائية (التي تُذَكِّر بفترة النّازية) والمداهمات والاعتقالات إلى زرع الخوف وردع الآخرين عن المشاركة في الاحتجاجات أو التحدث علناً ضد الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني، والإدّعاء بأن هذه الأنشطة “تنشُرُ الكَراهِيّة ومُعاداة السّامية”، والمساواة بين معاداة الصهيونية و “معاداة السامية” بهدف تبرير الإبادة الجماعية الحالية التي تجري أمام أنظار العالم…
تعدّدت أساليب تَجْرِيم التّضامن مع الشعب الفلسطيني في ألمانيا (والعديد من الدّول الأوروبية، وخصوصًا في فرنسا) لِرَدْع المواطنين عن المشاركة في الاحتجاجات، لأن مُعارضة الدّعم الأوروبي (الألماني خصوصًا) والأمريكي للعدوان الصهيوني وللإبادة الجماعية أصبح بمثابة التحدي للدولة الألمانية التي نشرت التّرهيب والخوف في وسائل الإعلام وفي الشوارع والساحات وكذلك في مراكز البحث العلمي والجامعات، فقد سحبت جامعة كولونيا الألمانية دعوة كانت توجهت بها إلى البروفيسورة نانسي فريزر ( 76 عاما)، المفكّرة والفيلسوفة اليهودية الأمريكيّة، لتولي منصب أستاذيّة مرموق فيها، وذلك بحجة توقيع البروفيسورة ( مع العشرات من أساتذة الفلسفة في جامعات العالم) على رسالة مفتوحة نشرت في تشرين الثاني/نوفمبر 2023، بعنوان “فلسفة من أجل فلسطين” واعتبرت إدارة الجامعة “إن مضمون الرسالة لا يتماشى مع موقفها ومع روح علاقات الشراكة مع الجامعات الإسرائيلية”
اعتبرت رسالة الفلاسفة التي وقعتها البروفيسورة نانسي فريزر “إن حق (إسرائيل) في الوجود كدولة عنصرية عرقية منذ تأسيسها سنة 1948 قد أصبح موضع تساؤل”، و “إن العمليات الفدائية ( ومنها عملية السابع من تشرين الأول/اكتوبر 2023) ترقى إلى مستوى المقاومة المشروعة”، ودعا الموقعون على الرسالة إلى “مقاطعة أكاديمية وثقافية للمؤسسات الإسرائيلية”…
استنكر بعض الأكاديميين، ومن بينهم أكاديميون ألمان، قرار جامعة كولونيا الذي “لا يتوافق مع الحريات الأكاديمية” وأدان أكاديميون ألمان معروفون مثل علماء الاجتماع ستيفان ليسينيتش وهارتموت روزا والفيلسوف أكسل هونيث القرار “لأن هذه الخطوة تبدو كمحاولة أخرى إضافية لتقييد النقاش العام والأكاديمي حول (إسرائيل) وفلسطين” في إشارة إلى الخطوط الحمراء التي حددتها الحكومة الألمانية – بالتعاون مع اللوبي الصهيوني – بشأن التضامن مع الفلسطينيين أو انتقاد حرب الإبادة ضدهم في قطاع غزّة واعتبروا تصرفات إدارة جامعة كولونيا هجومًا مُسَيَّسًا على الجامعة التي تعتبر فضاءاً للتحاور المكثف والمثير للجدل حول القضايا ذات الصلة اجتماعياً، ومساحة لتبادل الأفكار العابرة للتخصصات العلمية والحدود القوميّة…
تجدر الإشارة إلى النفوذ الكبير لسفارة الولايات المتحدة في برلين على الحياة الثقافية في البلاد، ويمكن تفسير الصمت الذي التزمته السفارة تجاه المعاملة المتعسفة التي تلقتها مواطنتها نانسي فيزر، مقارنة بالصخب الذي تثيره السلطات الأمريكية وتوابعها من منظمات حقوق الإنسان والتجمعات الثقافية والصحف ضد عرقلة حرية التعبير في روسيا والصين وكوريا وفنزويلا وكوبا وسوريا وإيران…
كتب عشرات من الكتاب والأكاديميين والصحفيين والفنانين المحلّيّين رسالة مفتوحة للسلطات الألمانية يُدينون حملة القمع الممنهج التي ضد أي شكل من مظاهر تأييد الشعب الفلسطيني، وضد ممارسة العنف والاعتداء بالضرب المبرح واعتقال العديد ممن شاركوا في تظاهرات سلمية ضد الإبادة الجماعية للفلسطينيين، وضد نشر الدّولة والإعلام السائد لمناخ العنصرية وكراهية الأجانب المتصاعد والخلط المُتَعَمَّد بين معاداة السامية وأي انتقاد للدولة الصّهيونية، وبلغ التّماهي الألماني حدّ تطوّع الحكومة الألمانية للدفاع عن الكيان الصهيوني في محكمة العدل الدولية، ولم نسمع صوت حزب دي لينكه والمنظّمات المحسوبة على اليسار الألماني وأحزابه، مثل «روزا لوكسمبورغ» و«هاينريش بول»
تمكّنت ألمانيا (بدعم من الولايات المتحدة) ترويج صورة زائفة تدّعي إن ألمانيا قبل النازية لم تكن دولة استعمارية، خلافًا لبريطانيا ولفرنسا، ليتم التركيز على المرحلة النازية، أو على جانب واحد من تلك المرحلة وهو اضطهاد اليهود الأوروبيين، الذي دفعت الشعوب العربية والشعب الفلسطيني ثمنه غاليا، لأن الحركة الصهيونية استغلت ذلك الإضطهاد لتعقد الصفقات مع السلطات الألمانية بهدف إرسال اليهود لاستعمار فلسطين، واستخدام أموال اليهود التي صادرها النازيون لتوريد مُعدّات وتجهيزات وسلع ألمانية إلى فلسطين، كما استغلت الحركة الصهيونية مرحلة الحكم النازي لوصف اضطهاد اليهود من قِبَل ألمانيا النّازية كحدث فريد في الجغرافيا والتاريخ الدّوليين وليس واحدًا من مظاهر التطور الرأسمالي الذي أفْضى إلى ابتكار نظرية التفوّق العرقي التي تُشَرْعِنُ الإبادة التي مارسها الإستعمار الألماني في إفريقيا حيث تمت إبادة ما لا يقل عن ستين ألف شخص من قومية الهيريرو في جنوب غرب أفريقيا (ناميبيا حالياً)، بين سنتي 1904 و 1908، وحشد أكثر من 15 ألف في معسكرات صحراوية فماتوا جوعًا وعطشًا، وبدأت المؤسسات الأكاديمية الألمانية تنشر الدّراسات العنصرية التي تدّعي تفوّق “العرق الأوروبي” ( الجنس الآري) أو الأبيض عموماً، وهي نظريات “النّقاء العِرقي” التي أعاد إحياءها الرايخ الثالث ( السلطات النازية) واعتبار “الآخرين” (السّلاف والقوقازيين وحتى الإغريق ) “أعراقًا منحطّة” ومن بينها اليهود، وهم في الواقعة لا يُشكّلون إثنية أو عرقًا أو قومية، بل جزءًا من الشعوب الأوروبية، ولم تعترف ألمانيا بارتكابها المجازر، باستثناء الإبادة الجماعية لليهود الأوروبيين، وعينت الكيان الصهيوني مُمثّلاً ليهود أوروبا (وخصوصًا يهود ألمانيا) والعالم، ومنحته تعويضات بمعدل 3,5 مليار يورو منذ سنة 1952، فضلا عن الحوافز والدّعم الإقتصادي والسياسي والعسكري، وتبيع ألمانيا أسلحة ثقيلة وصواريخ وغواصات قادرة على حمل رؤوس نووية بثُلُثَيْ سعرها، ولم تخرج مواقف وممارسات ألمانيا منذ بيسمارك عن السياق الإستعماري والإمبريالي الذي يدعم الكيان الصهيوني باعتباره جزءًا من أوروبا أو قاعدة أو مَحْمِيّة استعمارية في الوطن العربي…
العلاقات الاقتصادية
بدأت العلاقات الإقتصادية بين ألمانيا والكيان الصهيوني ببطء، لكنها كانت في تطور مستمر، وكانت الذّكرى السبعون للنكبة فُرصةً ليجتمع البرلمان الألماني (بوندستاغ) خلال شهر نيسان/ابريل 2018، بشكل استثنائي للاحتفال بذكرى تأسيس الدولة الصهيونية، وخلال المناقشات، صرح “مارتن شولتز”، باسم الحزب الديمقراطي الإجتماعي: “من خلال حماية إسرائيل، نحمي أنفسنا من شياطين الماضي. » وحاول المتحدث باسم حزب الخُضْر المُزايدة قائلا: “إن حق إسرائيل في الوجود جزء من حقوقنا الأساسية”، وأجمعت جميع الأحزاب والكُتَل البرلمانية على الثناء على دولة الإحتلال وعلى زيادة التقارب معها وزيادة حجم وقيمة “التعويضات” على الإبادة التي كانت ضد مواطنين ألمانيين بدعم من أغلبية شعب ألمانيا، وأثْبَتَ المُؤَرِّخُون استغلال الولايات المتحدة وبريطانيا للعديد من العُلماء وذوي الخبرات النازيين لتطوير الأسلحة وغزو الفضاء، كما ظلَّ المسؤولون النازيون السابقون يشغلون مناصب رفيعة في ألمانيا الغربية، في حين كان المجتمع بشكل عام غارقاً في إنكار الهمجية التي أطلقها النازيون قبل فترة وجيزة…
لقد أدْمَجت الولايات المتحدة ألمانيا في حلف شمال الأطلسي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، رغم القيود المفروضة على المهزومين في الحرب (ألمانيا واليابان)، وفرضت على الدّائنين إسقاط الدّيون المُتَخَلِّدَة بذمّة ألمانيا التي يشرف على إدارة شؤونها طاقم عسكري أمريكي، واندمجت ألمانيا في أوروبا، بل أصبحت تقودها وتُشارك في كل عدوان تقوده الولايات المتحدة، وتقف بحزم إلى جانب الإحتلال الصهيوني، بانحياز واضح يحظى بإجماع سياسي داخلي مُطْلَق يتجلى سياسيا واقتصاديا وعسكريا، وأكد المستشار الألماني، يوم 12 تشرين الأول/أكتوبر 2023، في كلمة ألقاها أمام نُوّاب البرلمان الألماني (البوندستاغ) “إن المكان الوحيد لألمانيا، في هذه اللحظة، هو أن تكون إلى جانب إسرائيل التي لها الحق في الدفاع عن نفسها والدفاع عن مواطنيها… إن أمن إسرائيل هو أمن دولة ألمانيا” وهي صيغة كررها بعد خمسة أيام خلال رحلة إلى فلسطين المحتلة، وكان أول رئيس حكومة يزور تل أبيب بعد الحرب، كما أعاد تأكيد نفس هذا الموقف يوم 12 تشرين الثاني/نوفمبر 2023، معتبرا “إن شدة الدمار والضحايا ( الفلسطينيين) جُزْءُ لا ينفصل من حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها“.
الدّعم السياسي والدّبلوماسي والإيديولوجي
ألقت المستشارة السابقة أنغيلا ميركل، خطابًا باللغة الألمانية أمام الكنيست، سنة 2008، بمناسبة الذكرى الستين للنكبة واستخدمت عبارة “إن أمن إسرائيل هو أمْن ألمانيا” وأعلنت في خطابها: “لقد تعهدت جميع الحكومات الفيدرالية وجميع المستشارين الذين سبقوني بِتَحَمُّلِ مسؤولية ألمانيا التاريخية الخاصة عن أمن إسرائيل، هذه المسؤولية الألمانية التاريخية هي جزء من منطق دولتنا، وهي ضرورة لأمن دولتنا ألمانيا…” وبعبارة أخرى “نقف إلى جانب الكيان الصهيوني في كل الحالات دون تَساؤل عن الأسباب أو الظروف” ولم يتغيّر هذا الإتجاه، بل ازداد حجم ونوعية الدّعم الألماني للعدو الصهيوني.
بعد أكثر من ثلاثة أسابيع من العدوان الصهيوني على فلسطِينِيِّي غزة، نشرت شبكات التواصل المُسمّى “اجتماعي” شريطًا يوم الثالث من تشرين الثاني/نوفمبر 2023، لتصريح وزير الاقتصاد والمناخ “روبرت هابيك” ( من حزب الخُضر الذي أظهر إنه أكثر التزامًا والتحامًا بحلف شمال الأطلسي وبالصهيونية من الأحزاب اليمينية التّقليدية) يوضح من خلاله طبيعة الدعم الألماني المُطْلَق: “… إن أمن إسرائيل هو ضرورة بالنسبة لدولة ألمانيا… ولا يمكن التسامح مع أي شكل من أشكال معاداة إسرائيل لأن ذلك يُعْتَبَرُ معاداة للسامية “.
يرتكز الدعم الذي تقدمه الحكومة الألمانية لدولة العدو على مسؤولية ألمانيا التاريخية عن إبادة يهود ألمانيا وأوروبا خلال الحرب العالمية الثانية، وفق تصريح المستشار “أولاف شولتس” الذي أعلن “إن تاريخنا ومسؤوليتنا الناشئة عن المحرقة يفرض علينا واجبًا دائمًا بالدفاع عن وجود وأمن دولة إسرائيل، وتبقى هذه المسؤولية هي دليلُنا ومُرشدنا” (08 تشرين الأول/اكتوبر 2023)، ولنا أن نتساءل: ما علاقة الفلسطينيين بذلك؟ وفي الواقع فإن المسألة ليست أخلاقية ولا علاقة لها بالتكفير عن الذنوب، ولو كانت المسألة كذلك لمنحوا مقاطعة بافاريا (حيث كان عدد اليهود مرتفعًا) للصهاينة بل إن الحركة الصهيونية انطلقت قبل حصول النّازيين على أغلبية برلمانية في ألمانيا (سنة 1933) وقبل ذلك بقرون أطلقت الحركة البروتستَنْتِية الألمانية مُخَطّط تجميع اليهود في فلسطين (لأسباب دينية، ولتسريع الإنبعاث المزعوم للمسيح ) خلال القرن السابع عشر، ونَفّذت الحركات اللاحقة فكرة خلق بؤرة استعمارية استيطانية في فلسطين، بدعم من حُكُومة “بروسيا” (أقوى ممالك ألمانيا التي فرضت بواسطة مُستشارها “أُوتّو فُون بيسمارك ” الوحدة الألمانية، بعد إلحاق الهزيمة بفرنسا خلال حرب 1870) ثم بدعم من حكومة الوحدة الألمانية، وتميز المُستوطنون الألمان في فلسطين وإفريقيا بالعنصرية والعجرفة… أما حاليا فإن النّظام السياسي الألماني (مهما كان الحزب الذي يقود الإئتلاف الحاكم) يُحاول استدامة الهيمنة الإيديولوجية اليمينية (الأمريكية والأطلسية) من خلال التّعلُّل بأحداث الماضي، ودعم العدوان الصهيوني – الذي يُتْقِن الأساليب النّازية – لتبرير التّنصّل من المحاسبة، ولتبرير مشاركة الجيش الألماني في أي عدوان ترتكبه الولايات المتحدة…
الدّعم العسكري
قبل وقت قصير من المذبحة الصهيونية في غزة، وقع وزيرا حرب الدّولتَيْن، في آب/أغسطس 2023، صفقة لبيع نظام الدفاع الصاروخي الذي يصنعه الصهاينة بترخيص أمريكي “سهم 3” إلى ألمانيا بقيمة أكثر من 4 مليارات يورو، وهو أكبر عقد في تاريخ كيان الإحتلال، ولما بدأ العدوان الصهيوني، تبنى البرلماتن الإتحادي الألماني (بوندستاغ)، يوم الثاني عشر من تشرين الأول/اكتوبر 2023 اقتراحًا يتضمن ما يلي: “… حق إسرائيل في الوجود والأمن غير قابل للتفاوض. ولذلك يجب على ألمانيا أن تزود إسرائيل بكل ما هو ضروري لضمان أمْنِها”، وأعلن وزير الخارجية يوم 15 تشرين الأول/أكتوبر 2023 أن “ألمانيا ستقدم أي مساعدة تحتاجها إسرائيل، حتى الدعم العسكري”، وصَرَّحَ المستشار الألماني ( رئيس الحكومة) أولاف شولتز، يوم 12 تشرين الأول/اكتوبر 2023: “يمكن لإسرائيل طلب الدعم العسكري من ألمانيا التي تستعد حاليًا لهذا السيناريو، فنحن نستخدم مع شُرَكائنا (من الإتحاد الأوروبي ومن حلف شمال الأطلسي) كل الوسائل الممكنة لتجنب هزيمة إسرائيل، لأن مثل هذا السيناريو مُرَوِّعٌ. »
بدأ إرسال الأسلحة والمُعدّات العسكرية منذ أصبح “كونراد أديناور” ( 1876 – 1967) مستشارًا (من 1949 إلى 1963) قبل إقرار “التعويضات” المالية سنة 1952، وتكثّف التعاون الأمني والعسكري المُعْلَن، بمناسبة احتجاز الرياضيين الصهاينة المُشاركين في الألعاب الأولمبية بمدينة ميونيخ سنة 1972، ثم بمناسبة حرب 1973، وكان “ويلي براندت” ( 1913 – 1992) أول مستشار ( من 1969 إلى 1974) يزور تل أبيب رسميًا.
تكثف التعاون العسكري بين الدولتين منذ حرب 1973، وخصوصًا منذ سنة 2008 (سنة الذكرى الستين للنكبة وزيارة أنغيلا ميركل وخطابها أمام نواب الصهاينة وسنة عُدْوان واسع على غزة وأراضي الإحتلال الثاني 1967) وتميز بالتعاون بين مؤسسات صناعة الأسلحة مثل أنظمة الدّفاع الجوي والصواريخ، وتُبرّر ألمانيا (مهما كان لون الإئتلاف الحكومي) هذا الدّعم العسكري القوي بالمسؤولية التاريخية لألمانيا، غير إن هذه “المسؤولية التاريخية” لا تنطبق على عمليات الإبادة والمجازر التي نَفّذها الإستعمار الألماني في جنوب غرب أفريقيا (ناميبيا الحالية) بداية من سنة 1883 وفي الكاميرون وتوغو بداية من سنة 1884، وفي شرق أفريقيا ( تنجانيقا التي أصبحت اليوم جزءًا من تنزانيا، ورواندا وبوروندي بداية من سنة 1885…
يُؤَدِّي التأكيد على “أمن إسرائيل باعتباره سبباً من أسباب وجود الدولة” إلى تبرير الدّعم العسكري الملموس والمُكثّف فقد التزمت ألمانيا، من خلال وزير الحرب (بوريس بيستوريوس)، الذي أعلن يوم الثاني عشر من تشرين الأول/اكتوبر 2023 “… الإلتزام بتقديم الدعم العسكري لإسرائيل إذا طلبت ذلك”، وسلّمت ألمانيا طائرتين بدون طيار من طراز Heron TP ، بالتوازي مع ارتفاع قيمة صادرات الأسلحة الألمانية إلى الصهاينة منذ العدوان (08/10/2023) بمقدار عشرة أضعاف بين الثامن من تشرين الأول/اكتوبر والثامن من تشرين الثاني/نوفمبر 2023 ما يُعَدُّ تواطُؤًا ومُشاركة في الإبادة الجماعية للفلسطينيين، و لِدولة ألمانيا دور مركزي في تسليح وتجهيز الجيش الصهيوني التي دَمَّرَ قطاع غزة خلال أسابيع وساهمت ألمانيا في قَتْل نحو عشرين ألف فلسطيني خلال ثمانية أسابيع، من خلال استخدام الجيش الصهيوني الأسلحة الأمريكية والألمانية وغيرها، التي تُقَدَّمُ له بسخاء، ومن بين الأسلحة الألمانية المتطورة التي حصل عليها الجيش الصهيوني بسعر تفضيلي (65% من السّعْر المُعْلَن) سفن حربية من فئة ساعر 6، صنعتها شركة ( ThyssenKrupp Marine Systems ) في أحواض بناء السفن الألمانية في “كيل” وكذلك سُفُن “دولفين”، وقامت الحكومة الألمانية بتوسيع تراخيص تصدير الأسلحة بشكل كبير إلى دولة العَدُوّ، ووافقت على صادرات بقيمة 303 ملايين يورو مُعْلَنة، خلال عشرة أشهر من سنة 2023 أي ما يقرب من 10 أضعاف المبلغ المُعْلَن ( 32 مليون يورو ) لنفس الفترة من سنة 2022، بحسب تقرير نشرته وكالة الأنباء الألمانية (د ب أ) يوم الأربعاء 13 كانون الأول/ديسمبر 2023، استنادا إلى معلومات من وزارة الاقتصاد التي يُديرها روبرت هابيك (حزب الخضر) والذي أعلن: ” إن أولوية الحكومة تتجه إلى تلبية طلبات تصدير المعدات العسكرية إلى إسرائيل، بسبب حاجتها الماسّة لها في الوضع الحالي”، وأعلنت وزارة الحرب التي يقودها بوريس بيستوريوس (الحزب الديمقراطي الإجتماعي ) يوم 12 تشرين الأول/اكتوبر 2023: “وافقت الحكومة على طلب دعم إسرائيلي من الطائرات المقاتلة بدون طيار وذخيرة للسفن الحربية والسترات الواقية ومكونات الدفاع الجوي ومعدات الاتصالات… فضلا عن المساعدة على تطوير برنامج الطائرات بدون طيار القتالية…” كما أفاد معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام ( SIPRI ) إن ألمانيا زَوّدت الجيش الصهيوني بأكثر من أَلْف محرك دبابة في السنوات الأخيرة (دون تحديد الفترة الزمنية)، وهي المحركات المثبتة في “دبابة ميركافا 4 “وناقلات الجنود المدرعة “نمر” ، ووفرت ألمانيا محركات الديزل لحاملة الجنود المدرعة “إيتان”، فضلا عن تسليم غواصات من طراز دولفين ذات قدرة نووية وطرادات من طراز ساعر، ورَصَد معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، تعاونًا صناعيًّا عسكريًّا وثيقًا بين مؤسسات الصناعات العسكرية الألمانية والصّهيونية، وخاصة في مجال تطوير الصواريخ والذخائر الأخرى، فضلا عن المناورات والتجارب التي يُنفّذها الجيش الصهيوني في ألمانيا، كما أشار المعهد إلى الدّور القَذِر للمعدات الحربية الألمانية في المذبحة الحالية في غزة، ما يجعل من الحكومة الألمانية مُتواطئًا، بل شريكًا مباشرًا في جرائم الإبادة الجماعية، وفق أحد مسؤولي المعهد… أما “كريغ مخيبر”، رئيس مكتب نيويورك لمفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، فقد ذكر في خطاب استقالته بتاريخ 28 تشرين الأول/اكتوبر 2023: “إن الأحداث المروعة في قطاع غزة هي عملية إبادة جماعية كلاسيكية، لكن المذبحة الحالية للشعب الفلسطيني، والتي ترتكز على أيديولوجية استعمارية عرقية قومية، هي استمرارية لعقود من الاضطهاد والتطهير المنهجي، وتستند بالكامل إلى وضعهم كعرب، وترتبط بإعلانات صريحة للنوايا من جانب قيادة الدولة الإسرائيلية وحكومتها وجيشها، وهو ما لا يترك مجالاً للشك أو الجدل، حيث تتعرض منازل المدنيين والمدارس والكنائس والمساجد والمؤسسات الطبية للهجوم، ويتعرض آلاف المدنيين للذّبح… فيما تتم مصادرة المباني والمنازل وإعادة تخصيصها على أساس العرق، في الضفة الغربية وفي كافة أنحاء البلاد، بتواطؤ القوى الأجنبية في التدمير المتسارع لآخر بقايا الحياة للسكان الأصليين في فلسطين… إن حكومات الولايات المتحدة والمملكة المتحدة ومعظم أوروبا متواطئة تماما في هذا الهجوم المروع، دون احترام التزاماتها، ومن بينها احترام اتفاقية جنيف…”
تُوَفِّرُ القوى الإمبريالية – وأهمها الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا وفرنسا – الدعم الاقتصادي والغطاء السياسي والدبلوماسي والدعم العسكري والإستخباراتي للكيان الصهيوني، كما تنتهك وسائل الإعلام الغربية المادة 20 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية بشكل علني، وتجرد الفلسطينيين باستمرار من إنسانيتهم لتسهيل الإبادة الجماعية وتقوم بنشر الدعاية لصالح الإبادة الجماعية للفلسطينيين والدعوة إلى العنصرية والكراهية والتحريض على التمييز والعداء والعنف.
قدمت ألمانيا ذخائر بحرية وطائرتين بدون طيار متطورتين وإمدادات الدم وسترات واقية، إضافة إلى مساعدات طبية بقيمة 200 ألف دولار، تجسيدًا لالتزام القادة السياسيين والعسكريين الألمان بدعم الكيان الصهيوني عسكريا، وصَرّح مفتش البحرية جان كريستيان كاك في مقابلة نشرتها صحيفة “هاندلسبلات” يوم 23 تشرين الأول/أكتوبر 2023: “يجب أن نستعد لجميع الاحتمالات، فالبحرية لديها قوات خاصة على الأرض ولديها – في الاحتياط – أفراد إضافيون على مستوى عالٍ من الاستعداد، وإذا طلبت إسرائيل ذخيرة لسفنها الحربية مرة أخرى (لأنها حصلت على دعم سابق)، فإن البحرية الألمانية ستكون جاهزة وقادرة على المساعدة”، رودريش كيسفيتر، أحد زعماء الاتحاد الديمقراطي المسيحي، قد أعلن يوم العاشر من تشرين الأول/أكتوبر 2023: “يجب على قوات الأمن الألمانية تنفيذ إجراءات عَمَلِيّة لدعم إسرائيل التي يرتبط وجودها وأمنها بأمننا، ويشمل الدّعمُ إرسال جنودنا إذا لزم الأمر… إن الطائرات المقاتلة والسفن الحربية جاهزة لتنفيذ مهمة الردع”… وكتبت صحيفة “بيلد” الألمانية يوم 18 تشرين الأول/أكتوبر 2023: “تم نقل وحدات ومعدات القوات الخاصة الألمانية جواً إلى قبرص للتحضير لمهام عسكرية في الشرق الأوسط. وهذه القوات مستعدة لإنقاذ الرهائن الألمان في غزة، كما تستعد لجميع الإحتمالات والخيارات، بما في ذلك القتال إلى جانب الجيش الإسرائيلي”، وتندرج هذه التصريحات والإجراءات العمَلِيّة ضمن الدّعم الألماني غير المشروط للكيان الصهيوني، بل إن ألمانيا مُستعدّة لِنَشْرِ جيشِها في غزّة أو أي منطقة من فلسطين، للمساهمة في العدوان على الشّعب الفلسطيني، وتُساهم ألمانيا وبريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة ودول أخرى في مُحاصرة غزة بالبوارج العسكرية، منذ سنة 2006، وتم تعزيز الحصار سنة 2014، بذريعة “مَنْع تهريب السلاح” وتعتزم ألمانيا إرسال سفينة حربية أخرى إلى ساحل غزة لاستعراض قوتها العسكرية، مع الإستعداد لتحليق الطائرات العسكرية الألمانية في أجواء فلسطين المحتلة تجسيدًا للدعم العسكري الألماني والأوروبي للكيان الصهيوني.
تَمَيّزت ألمانيا وحكومتها (بل حكوماتها منذ الحرب العالمية الثانية) بتأجيج حملة التشهير ضد المهاجرين والعرب والمسلمين ومُساواة أمن الكيان الصهيوني بأمن ألمانيا، ولم تتغير الطبيعة العنصرية لنظام الحكم في ألمانيا خلال تسعين سنة، لولا تغيير إسم وصفات الأشخاص المُستهدَفين وضحايا الإرهاب الحكومي، واستَمَرَّ تبرير عنف الإبادة الجماعية وقمع كافة أشكال مقاومة هذا العنف الرّسمي الذي تم ارتكابه بالأمس ضد اليهود، باسم الجنس الآري واليوم باسم الحرب ضد معاداة السامية، وبذلك ذابت الفوارق بين أحزاب ائتلاف الحكومة الإتحادية وحزب “البديل من أجل ألمانيا'” وهو حزب فاشي، بل تسعى معظم القوى السياسية لتحقيق مصالح جيواستراتيجية واقتصادية للرأسمالية الألمانية من خلال دعم الكيان الصهيوني باعتباره رأس جسر إمبريالي في المنطقة، وتستخدم الدّولة والرأسمالية في ألمانيا تهمة معاداة السامية لإقامة نظام استبدادي، حيث يتم اتّهام كل من يعارض الإستغلال والإضطهاد والإبادة الجماعية للفلسطينيين بمعاداة للسامية وبالإرهاب.
الدّعم الرياضي
شمل الإجماع الألماني بشأن دعم الصهيونية كإيديولوجيا وكتعبيرة سياسية وعسكرية كافة المجالات مجال الرياضة (التي يدّعي مسؤولوها عدم خلط الرياضة بالسياسة !!!) فقد تحولت العديد من مجموعات مُشجّعي الأندية الرياضية الألمانية إلى بوق دعاية صهيونية بدعم من السلطات ومن وسائل الإعلام ومن الطواقم الإدارية للأندية، خصوصًا نوادي كرة القدم، ومنها نادي “سانت باولي” الذي تربطه علاقات وثيقة بنادي “هبوعيل تل أبيب“
وتميزت بيانات الأندية الرياضية الألمانية (التي تدّعي إن ممارسة الرياضة تتعارض مع ممارسة السياسة) بدفاعها غير المشروط عن الصهيونية والمساواة بين أي مناهضة للاستعمار وأي شكل من الدّعم للشعب الفلسطيني و”معاداة السامية”، وأرسلت العديد من الأندية ومجموعات المشجعين واللاعبين رسائل التضامن إلى الصهاينة مع تجاهل كامل للضحايا من المدنيين في غزة، وبالغت نوادي هامبورغ وسانت باولي وفيردر بريمن وآينتراخت فرانكفورت ونادي بي إس جي كيمي لايبزيغ وبايرن ميونيخ في دعم الصهاينة ودعا بعضها للإنظمام للتظاهرات المؤيدة للكيان الصهيوني والتضامن غير المشروط معه، ونظّمت العديد من النوادي الرياضية الألمانية حملات “جمع التبرعات لدعم ضحايا حماس.”
إجماع سياسي ألماني
تم التعبير عن الإجماع الألماني (أو شبه الإجماع) لدعم الكيان الصهيوني بشكل مُطْلَق، عندما تبنت المجموعات السياسية الست الممثلة في البوندستاغ، من “دي لينكه” الذي يُدْرِجُ نفسه في خانة اليسار (بمقاييس ألمانيا وأوروبا) إلى أقصى اليمين (البديل من أجل ألمانيا)، بالإجماع، نصاً يعرب عن “التضامن مع إسرائيل وإدانة حماس باعتبارها منظمة إرهابية… (ودعوة) الحكومة الألمانية إلى بذل كل ما في وسعها لضمان إطلاق سراح الرهائن ودعم إسرائيل التي تمارس حقها في الدفاع عن النفس…”، وسارع اليمين المتطرف إلى المطالبة بوقف الدعم الذي تقدمه ألمانيا لبرنامج الأمم المتحدة للاجئين الفلسطينيين (أنروا)…
في تورينجيا، شرق ألمانيا، قام رئيس الوزراء بودو راميلو (من حزب دي لينكه الذي يُقحم نفسه في صفوف اليسار) برفع العلم الصهيوني أمام مستشارية الدولة…
لم تتجاوز تصريحات مجموعات اليسار غير البرلماني، التي يُدرجها الإعلام الألماني ضمن “اليسار المتطرف” أو “أقصى اليسار” استنكار الإبادة الجماعية والمطالبة بوقف إطلاق النار، فيما استمرت المظاهرات المُندّدة بالعدوان، رغم الحَظْر، ورغم الطقس البارد والثّلوج، وندّدت بها وسائل الإعلام والحكومة، معتبرة إياها “دعمًا لإرهاب حماس” واعتقلت الشرطة عشرات المتظاهرين ونفذت حملات مداهمة ضد المهاجرين واللاجئين الذين تم تهديدهم بمحاكمات استثنائية سريعة وبإلغاء تصريح إقامتهم، لتيْسير عملية ترحيلهم.
اعتاد حزب “اليسار” الألماني “دي لينكه” الدفاع عن برنامج “إعادة التوزيع الاجتماعي”، ولكن منذ أن ركز الحزب في حملاته الإعلامية والانتخابية على مسائل الهوية، فقد الحزب موطئ قدمه في عالم العمل وفقد جزءًا هامًّا من قاعدته الانتخابية، وصوّت نواب الحزب في البرلمان الإتحادي لصالح إقرار دخل أساسي غير مشروط، يُدفع للجميع، للأغنياء والفُقراء على حد السّواء، ويؤدّي تطبيق هذا الإجراء إلى تقليل الموارد المالية المُتاحة لدعم المُحتاجين حقًا إلى دعم الدولة.
لا تتميز مواقف حزب دي لينكه عن اليمين في القضايا الدولية، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالدعم غير المشروط للكيان الصهيوني، فالحزب، مثل اليمين، يدعم السياسات العدوانية لحلف شمال الأطلسي، وَصَوَّتَ لصالح جميع التدابير التي اقترحتها الولايات المتحدة، بما في ذلك العقوبات المفروضة على الغاز الروسي، والتي أضرّت كثيرًا بالاقتصاد الألماني والأوروبي، فأصبحت أوروبا تعتمد الآن على الغاز الصخري الأمريكي، وهو غاز باهظ الثمن وذو نوعية رديئة وملوث للغاية.
حكمت المحكمة الدستورية الألمانية في تشرين الثاني/نوفمبر 2023، بعدم قانونية استخدام مبلغ ستين مليار يورو المتبقية من صندوق كوفيد-19 في السياسات البيئية، لأن مكابح الديون منصوص عليها في الدستور، ويُشكل هذا القرار جزءًا من هاجس الانضباط في الميزانية، الأمر الذي يهدد بتقييد الائتمان من أجل الاستثمار، وللالتفاف على هذه المكابح (للإنفاق العسكري على سبيل المثال)، أطلقت الحكومة ميزانيات موازية، أو ما يسمى بميزانيات “الأغراض الخاصة”، والتي لا تخضع لرقابة البرلمان، وذلك بمباركة أحزاب البرلمان ومنها حزب “دي لينكه”، وأدّت سياسات التّقشّف وتحويل جزء من المال العام إلى الحروب والأسلحة إلى تدهْوُرِ الوضع الاجتماعي في ألمانيا خلال السنوات الأخيرة،
تُظهر استطلاعات الرأي الخاصة بالانتخابات الأوروبية أن الحكومة الائتلافية لا تحظى بشعبية، وتُظْهِرُ أيضًا أن ناخبي حزب دي لينكه الذي يدعي أنه يساري يشعرون بخيبة أمل، أما الحكومة فلا تحظى بشعبية لأنها أعلنت عن إنفاق 100 مليار يورو على التسلح، بدل تخصيص هذا المبلغ للإنفاق العام على البنية التحتية والإسكان والتعليم وما إلى ذلك، وقد صوّت حزب دي لينكه لصالح تدابير لا تحظى بشعبية ودَعَمَ سياسة التحالف الأطلسي بزعامة الولايات المتحدة، ما أفقَدَه دعم الطبقة العاملة، وما عَزّز حزب “البديل من أجل ألمانيا” اليميني المتطرف الذي ارتفعت شعبيته وفق جميع استطلاعات الرأي، خصوصًا في ألمانيا الشرقية السابقة.
تعاني ألمانيا حاليًا من أزمة، بسبب الحرب الاقتصادية التي أطلقتها الولايات المتحدة ضد روسيا، والتي تتسبب في خسارة ألمانيا للسوق الروسية، بالإضافة إلى تقلص الطلب المحلي (في ألمانيا) وانخفاض الاستثمار العام، والذي كانت الفئات الكادحة من أكبر ضحاياه، ولا يختلف الأمر بشأن المعاداة المُطلقة لحقوق الشعب الفلسطيني، فالحكومة الألمانية وجميع الأحزاب السياسية الممثلة في البرلمان الاتحادي تدعم العدوان الصهيوني على الشعب الفلسطيني دون قيد أو شرط، وارتفع حجم ونوعية وقيمة المساعدات العسكرية الألمانية – التي كانت كبيرة جداً أصلاً – بالإضافة إلى الدعم الدبلوماسي والسياسي والاقتصادي…
الدّور الألماني بين الماضي والحاضِر
دعم البروتستانتيون الأوروبيون، ثم المُبشّرُون الأمريكيون، هجرة اليهود الأوروبيين إلى فلسطين، منذ النصف الأول من القرن التاسع عشر، وساعدوا في تأسيس الإتحاد الإسرائيلي العالمي (الاليانس)، سنة 1860، ودعموه ماليًّا وتقنيا، لاستئجار أو شراء الأراضي، وإقامة مستوطنات بفلسطين، التي يُسميها بعضهم “أرض صهيون”، قبل ظهور الحركة الصهيونية، وانطلق المشروع الإستعماري الإستيطاني من أوروبا من خلال دعوات “مارتن لوثر” 1483 – 1546، مؤسس المذهب “الإصلاحي” المسيحي (البروتستاني)، من منطلقات عقائدية، لأن “عودة اليهود إلى أرض صهيون تُعجّل عودة المسيح”، ومن منطلقات عُنصرية تعتبر أن اليهود (الأوروبيين أبا عن جَدّ) “غُرَباء عن النّسيج الحضاري والإجتماعي الأوروبي”، أي المسيحي الأُصُولي، وأسّس المستوطنون البروتستانتيون الألمانيون أول المُستعمرات الرسمية بفلسطين، وساعدوا (منذ سنة 1870) المُستوطنين اليهود على تأسيس المُستوطنات الزراعية، وتقديم التسهيلات المالية، ودعمهم بالمُعدّات وبالخبرات الفَنّيّة والزراعية… (راجع المزيد من التفاصيل في فقرة لاحقة)
أما خلال الفترة النّازية، فقد عقدت الحركة الصهيونية اتفاقًا مع حكومة ألمانيا، لتوجيه خمسين ألف يهودي ألماني نحو فلسطين، بين 1933 و 1939، وأرسلت ألمانيا النازية، بواسطة المُحامي “فون ميلدنشتاين” والموظف السّامي في الحكومة النّازية “أدولف إيخمان”، أسلحة وذخائر، بداية من سنة 1933، إلى المليشيات الصهيونية (أهمُّها “الهاغاناه”) بفلسطين، التي استخدمتها لإخماد ثورة الفلسطينيين (1936 – 1939)، ومع ذلك تم اختطاف “إيخمان” من الأرجنتين، ومحاكمته وإعدامه بفلسطين المحتلة، سنة 1962، وبعد الحرب العالمية الثانية، لم تُسدّد ألمانيا، المدعومة أمريكيا، تعويضات إلى الشعوب التي استعمرتها ألمانيا النازية ودمّرت بلدانها (المغرب العربي وأوروبا الشرقية وروسيا واليونان وألبانيا ويوغسلافيا…) وسددت أموالاً طائلة، ولا تزال، إلى الكيان الصهيوني، بما يفوق تكاليف كافة الحروب العدوانية التي شنّها الصهاينة ضد الشعوب العربية، ولا تزال الحكومات وكافة الأحزاب البرلمانية الألمانية تعتبر المُقاومة الفلسطينية “إجرامًا وإرهابًا، وتعتبر هذه الأحزاب، وكذلك معظم الصّحف الألمانية، أي احتجاج أو مُعارضة للكيان الصهيوني “عِدَاءً للسامية”، وحاولت السّلطات الألمانية (وكذلك الفرنسية) مَنْعَ كافة تظاهرات الخامس عشر من أيار/مايو 2021، في ذكرى النّكبة، وفي برلين استخدمت الشرطة العُنف لتفريق مسيرة سلمية، شارك بها حوالي ثلاثة آلاف شخص، معظمهم من العرب، واتهمت وسائل الإعلام المتظاهرين بالإستفزاز وبمعاداة السّامية، وطالبَ بعض السياسيين، منهم وزير الدّاخلية “أندرياس جيزل”، وكذلك الزعيم اليميني “ألكسندر دوبريندت”، بترحيل المُقيمين الأجانب الذين يُشاركون في مثل هذه المَسيرات، رغم خُلُوّها من أي حوادث، وأعلن أحد زعماء ائتلاف “ديلينكه”، الذي يُعتبر يساريا للغاية، بمقاييس ألمانيا، والذي يُشرف على إدارة مؤسسة “روزا لكسمبورغ” (منظمة “غير حكومية”، تمولها الحكومة الألمانية) :” لقد استَوْرَدنا مُعاداة السّامية”، أي أن ألمانيا كانت خالية من العُنْصُرية ومن العداء للسامية، قبل مجيء اللاجئين والمُهاجرين، الذين عبّروا عن تضامنهم مع الشعب الفلسطيني، واتفقت الأحزاب البرلمانية الألمانية والإعلام الرسمي، على اعتبار مناهضة الصهيونية “عداءً للسّامية”، وحذّرت محطة “دويتشه فيلله” الحكومية صحافييها من استخدام عبارات “استعمار” أو ميز عنصري”، عند الحديث عن فلسطين، أو عن الكيان الصهيوني، ما يُبرّئُ النّازية والإستعمار الألماني لبلدان إفريقية وبالمحيط الهادئ من العُنصرية ومن عمليات الإبادة والمجازر المُرتكَبَة بحق الشُّعوب، وما يُبرّئُ اليمين المتطرف من الجرائم العنصرية العديدة التي ارتكبها باسم “نقاوة العرق الآري”، وما يُبَرِّرُ الدعم المُطْلَق للكيان الصّهيوني ولجرائمه، وإنكار أي عدوان صهيوني، وتصنيفه “كرد مَشْرُوع على الإرهاب الفلسطيني”، وانتقدت منظمة هيومن رايتس ووتش الأمريكية (التي تمولها وكالة التنمية والتعاون الدولي التابعة للحكومة الأمريكية) المُستشارة الألمانية “أنغيلا ميركل”، بخصوص موقفها المُعادي للشعب الفلسطيني، والمُنحاز بدون قيد أو شرط للكيان الصهيوني، وانتقدت تصريحها “يجب أن تكون هناك دولة أسرائيل يهودية ديمقراطية”، واعتبرت أن ميركل “تتجاهل واقع المَيْز العنصري واضطهاد ملايين الفلسطينيين”…
تميزت السياسة الرسمية الألمانيا، منذ هزيمة ألمانيا بنهاية الحرب العالمية الثانية، وتقسيمها، وتأسيس ألمانيا الغربية التي لا تزال تحتضن أضخم القواعد العسكرية الأمريكية، بالإنحياز المُطلق للكيان الصهيوني، ونكران حق الشعب الفلسطيني في وطنه وبحساسية مُفرطة إزاء أي نَقْدٍ لبعض جوانب سياسات الكيان الصهيوني، ناهيك عن مُعارضة الحركة الصهيونية وأُسُس إنشاء دولتها على الأراضي الفلسطينية والعربية.
أعلنت الحكومة الألمانية، منذ سنة 1998، بيع الكيان الصهيوني ما لا يقل عن سبع غواصات (حتى سنة 2014) متطورة وقادرة على حمل رؤوس نووية، بأسعار تقل عن سعر التكلفة، وبنسبة تقل عن 65% من سعر البيع المُعلَن رسميا، أي أن الخزينة الألمانية تُسدّد ما لا يقل عن 35% من سعر الغواصات، أي حصول الكيان على غواصَتَيْن مجانِيّتَيْن، فضلاً عن الدّعم المالي المُباشر، بقيمة لا تقل عن 3,5 مليارات دولار سنويا، منذ سبعة عُقُود، بحسب موقع صحيفة “يونغا فيلت” الألمانية (08 أيار/مايو 2014)، وكانت صحيفة “دير شبيغل” قد أثارت (30 كانون الثاني/يناير 2006) انحياز الحكومات الألمانية المتعاقبة، سواء من الإئتلاف الذي كان يقوده الحزب الديمقراطي الإجتماعي، أو الذي يقوده اليمين المسيحي-الديمقراطي، إلى دولة الإحتلال، وتجسّد الإنحياز في منح إسرائيل غواصات متطورة، مُزوّدة بأنابيب كبيرة قادرة على إطلاق أنواع مختلفة من الطوربيدات والصواريخ والقذائف، وقادرة على حمل رؤوس نووية، بأسعار منخفضة جدًّا (مع غواصَتَيْن مجانِيّتَيْن)، بقرار من حكومة المستشار غيرهارد شرودر (الحزب الديمقراطي الإجتماعي) والحكومات التي تلَتْها، “لإظهار التزامها غير المحدود بضمان أمن إسرائيل في ظل أوضاع الشرق الأوسط الحالية المتفاقمة، ما يُمثل مُخالفة لمُعاهدة حَظْر انتشار الأسلحة النّوَوِيّة”، بحسب الصحيفة، وكان الكيان الصهيوني قد نفَّذَ في أيار/مايو 2002، مُناورات عسكرية بَحْرية، في سواحل سريلانكا، تَضَمّنت إطلاق صواريخ من هذه الغَوّاصات الألمانية يبلغ مداها ما بين 1000 و1500 كلم…
تُعَدُّ ألمانيا حليفا أوروبيا رئيسيا للكيان الصهيوني، وتمثّل دَوْرُ “أنغيلا ميركل” في تعزيز العلاقات الأمنية والاقتصادية الثنائية، حيث أكّدت يوم العاشر من تشرين الأول 2021: ” إن قضية أمن إسرائيل ستكون دائما ذات أهمية مركزية ومسألة محورية لأي حكومة ألمانية، فنحن ( في جميع الأحزاب الألمانية) متفقون جميعًا على ضرورة أن تكون هناك على الدوام رؤية لبقاء دولة إسرائيل اليهودية الديمقراطية… لأن تاريخ المحرقة حادثة فردية نحن مستمرون في تحمل المسؤولية عنها في كل مرحلة من التاريخ بما في ذلك المستقبل…”، بحسب ما نقلته وكالتا رويترز وأ.ف.ب، يوم 10 تشرين الأول/اكتوبر 2021.
ضُعْف اليسار الألماني:
بعد الحرب العالمية الأولى، نفَّذ التيار “الديمقراطي الإجتماعي” مجازر ضد الحزب الشيوعي وقادَتِهِ سنة 1919، ولما فاز الحزب النّازي بأغلبية نسبية وحَكَمَ البلاد، بداية من سنة 1933، بادر بحشر الشيوعيين في المحتشدات، قبل الغَجر، وقبل اليهود بحوالي عشر سنوات، وخلال فترة ما بعد الحكم النّازي (بعد الحرب العالمية الثانية وتقسيم ألمانيا) تم تهميش وإقصاء التّقدّميّين الذين قاوموا النّازية وسدّدوا ثمنا باهضًا، وحرمانهم من الوظائف في القطاع العام، وتم حَظْرُ عودة الحزب الشيوعي وحظْرُ مشاركته في الحياة السياسية، ما أدّى إلى تهميش الفكر التقدمي واليساري، في ظل تقسيم ألمانيا وهيمنة الإمبريالية الأمريكية على أوروبا الغربية، وعلى ألمانيا بشكل خاص، واقترنت مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية باصطفاف ألمانيا وراء السياسات العدوانية الأمريكية، وكذلك بالدّعْم المُطْلَق للكيان الصهيوني، ولم يشذ اليسار البرلماني، وكذلك التروتسكي الألماني عن هذه “القاعدة”، بذريعة أن كل فئات الشعب الألماني (وليس الحزب النازي ونظامه) برمته، وبكافة أجياله، منذ ثلاثينيات القرن العشرين، يتحمّل نتائج السياسات النازية، ووجب “التّكفير عن الذّنوب” (وهي فكرة دينية أخلاقوية، وليست سياسية أو عقلانية) من خلال الدّعم المُطلق للحركة الصّهيونية، ولدولتها، وإلْصاق صفة “الإرهاب” بضحايا الحركة الصهيونية، وبكل من يُقاومها…
في منتصف شهر كانون الثاني/يناير 2021، عبرت حركة ( Antideutsche Deutschen ) أو ما يمكن ترجمته ( مناهضو ألمانيا الألمان )، أي مُعادين للفكرة القومية التي أدّت إلى انتصار الحزب النازي في انتخابات 1933، وهذه الحركة مُصنّفة “حركة يسار راديكالي”، بمقاييس ألمانيا، عن دعمها المطلق وغير المشروط لسياسات الكيان الصهيوني، بدون أية تحفظات، وهو موقف لا يختلف عن حكومة ألمانيا وأحزابها، كما لا يختلف عن دعم الطوائف الإنجيلية اليمينية للكيان الصهيوني، خلافًا لحركات اليسار الألماني، قبل بضعة عُقود (ستينيات وسبعينيات القرن العشرين)، التي شارك مناضلوها في المقاومة الفلسطينية، واعتبروا الكيان الصهيوني مشروعًا استعمارِيًّا، امبرياليًّا، في تناقض تام مع موقف شق من تنظيم تروتسكي ألماني (الرابطة الشيوعية)، دافعَ سنة 1991، عن العدوان العسكري الأمريكي على العراق، ودافع عن الكيان الصهيوني (مجلة “كونكريت”، كانون الثاني/يناير 1991) كما أَيَّدَ بعض اليسار الألماني العدوان على العراق ثم احتلاله، سنة 2003، ورفع مناضلو حركة “مناهضو ألمانيا الألمان” العلم الأمريكي والعلم الصهيوني، سنة 2003، لاستفزاز المتظاهرين المناهضين للحرب…
أظهرت الإنتخابات الأخيرة بألمانيا، التي جرت يوم السادس والعشرين من أيلول/سبتمبر 2021، تَعَصُّبَ معظم وسائل الإعلام إلى الفكر الصّهيوني والرواية الصّهيونية لتاريخ فلسطين (وهي رواية تَوْراتِيّة، وليست تاريخية)، ولما يحدث حاليا، مقابل غياب كامل لوجهة النظر العربية والفلسطينية، رغم ظهور بعض الإختلافات بين الناخبين والمترشحين بشأن القضية الفلسطينية، وذلك للمرة الأولى، خلال الحملات الإنتخابية، وتعرّض حزب “دي لينكه”، الذي يدّعي الإنتماء إلى اليسار، لانتقادات شديدة من الداخل بسبب إدلاء زُعامئه بتصريحات مؤيدة للكيان الصهيوني، وانتهاجه أساليب مماثلة لحزب العُمّال البريطاني، لخَنْق صوت المدافعين عن الحقوق الفلسطينية، وقال أحد زعماء الحزب: “فشلنا في الفوز ببعض الأصوات التي كان من المفترض أن تكون لنا بطبيعة الحال، مثل أصوات أبناء المهاجرين وأنصارهم”.
خلاصة وخاتمة
لمّا أراد زعماء الإخوان المسلمين (التّيار الحاكم بتركيا) ابتزاز دول الإتحاد الأوروبي التي رفضت قبول عضوية تركيا، جعلوا من بلادهم (تركيا) –منذ سنة 2015- مَمَرًّا للاجئين الذين دَمّرت الإمبريالية الأمريكية وحلف شمال الأطلسي (وألمانيا عضو نشط جدا بالحلف) بلدانهم، والراغبين بالذهاب إلى أوروبا، بحثًا عن ظروف حياة أفْضَل، وبالفعل حصلت حكومة تركيا الإخوانية على دعم مالي أوروبي بنحو 6,5 مليارات يورو سنويا، مقابل إغلاق الحدود مع اليونان، بوابة الإتحاد الأوروبي، واستثمرت شركات ودول أوروبية، وفي مقدّمتها ألمانيا، بتركيا لتشغيل اللاجئين السوريين برواتب منخفضة، وأعلنت منظمة أرباب العمل الألمانية أنها بحاجة إلى أكثر من مليونَيْ عامل مُختص وفَنِّي ومُهندس وطبيب، لتعويض النّقص جراء تقاعد المِهَنِيِّين وشيخوخة السّكّان، كما أرسل أرباب العمل الألمان مُختصّين إلى مخيمات اللجوء بتركيا وسوريا والعراق ولبنان والأردن، لاختيار حاجتهم من العاملين، وأعلنت منظمة أرباب العمل بألمانيا، سنة 2021، أنها بحاجة إلىى نحو 2,5 مليون عامل وموظف لِسدّ الشُّغُور، ولتنفيذ البرامج الإقتصادية والصناعية التي تُبْقِي ألمانيا في مركز الرّيادة الأوروبية…
لذا لم تكن لسياسة استقبال اللاجئين أي علاقة بحقوق الإنسان ولا بالإحسان أو التّعاطف مع ضحايا الحروب العدوانية، التي يُساهم جيش ألمانيا في إشعالها، بل هي سياسة تخدم مصالح رأس المال الألماني، وتخدم مُخطّطًا امبرياليا “غربيا”، حيث استقبلت ألمانيا (ودول أوروبا الشمالية وكندا)، بعد الإجتياح الصهيوني لِلُبنان، وبعد مجاز المُخيّمات، آلاف الشبان الفلسطينيين، بطلب من الإمبريالية الأمريكية، وباتفاق مع الكيان الصهيوني لإبعادهم آلاف الكيلومترات عن فلسطين ولبنان والمشرق العربي…
قُدِّرَ عدد ضحايا ألمانيا النازية ( 1933 – 1945) بنحو 17 مليون ضحية مُباشرة ( زيادة على ضحايا الحرب العالمية الثانية من الجنود والمدنيين) من بينهم حوالي 10,6 ملايين من “السّلاف” ( ضمنهم ستة ملايين سوفييتي) فضلا عن الشيوعيين والغجر وغيرهم، وقَدّرت الأوساط اليهودية عدد الضحايا اليهود بنحو 5,7 ملايين ضحية، لكن ألمانيا الحالية، التي نصّبت نفسها وريثةً للنظام النّازي، اعتذرت لليهود، بل اعتذرت في الواقع للحركة الصهيونية التي أبرمت اتفاقيات مع نظام الحُكْم النّازي، ونَصّبت الكيان الصهيوني وَصِيًّا على حقوق اليهود الأوروبيين، وقدّمت عشرات المليارات من الدّولارات بعنوان “تعويض اليهود عن الفظائع التي ارتكبتها ألمانيا النازية”، فضلا عن الدّعم العسكري والسياسي والعقائدي والدبلوماسي…
لم تعتذر ألمانيا لضحاياها من المدنيين السلافيين من بولندا، وأوكرانيا، وروسيا، وبيلاروسيا، وأغلبهم من خلفيات مسيحية أرثوذكسية، ورفضت ألمانيا (بدعم أمريكي) تعويضهم ومُساواتهم بالضحايا اليهود، ما يثير تساؤلات حول الدعم الألماني المُطلق – بإجماع الأحزاب والمُؤسسات ووسائل الإعلام – للكيان الصهيوني الذي يرفع نفس شعارات النّازية ويُطبّق سياساتها العنصرية…
لعبت ألمانيا الإتحادية (الغربية) دور القاعدة المتقدمة للإمبريالية الأمريكية طيلة سنوات “الحرب الباردة” ( من نهاية الحرب العالمية الثانية إلى انهيار الإتحاد السوفييتي سنة 1991 ) ولم تعد لألمانيا مواقف مستقلة بشأن السياسة الدّولية، وبلغ انبطاح ألمانيا حدّ التّضحية بمكانتها الإقتصادية وبمصالح شركاتها خلال حرب أوكرانيا، حيث طبّقت ألمانيا الحَظْر الذي فرضته الولايات المتحدة على الغاز الرّوسي، ما أدّى إلى انتكاسة الإقتصاد الألماني الذي يُعْتَبَرُ قاطرة الإقتصاد الأوروبي…
يُعتَبَرُ موقف ألمانيا المُعادي للشعب الفلسطيني والشعوب العربية وشعوب بلدان “الأطراف” (الجنوب) تعبيراً عن الإيمان بسيادة شُعُوب أوروبا على بقية شعوب العالم، وهو جوهر الإيديولوجية النازية وجوهر الصهيونية التي تعتبر اليهود “شعب الله المختار“
هذه بعض ملامح المانيا الإمبريالية التي لم تخرج سياساتها من المنطق الإستعماري العنصري، منذ التّوحيد القَسْري سنة 1870، ثم إعادة التّوحيد، سنة 1990، وبقي احتقار الشعوب، ودعم الحركة الصهيونية خيطًا رابطًا بين هذه المراحل
التعليقات مغلقة.