غزة وحلم العودة: العودة حتى نعود /  فيحاء عبد الهادي




 فيحاء عبد الهادي ( فلسطين ) – الخميس 18/4/2024 م …

ليس غريباً أن يحاول المهجّرون من شمال غزة إلى جنوبها العودة إلى بيوتهم مرة واثنتين وثلاثاً.
ليس غريباً أن يحاولوا العودة رغم قصف الطائرات والمدافع، وصليات الرصاص، التي يتوقّعونها ليل نهار، وأينما كانوا، وأينما حلّوا.
هو حلم العودة الذي ما انفكّ يصاحبهم في ليلهم ونهارهم، في حلِّهم وترحالهم، في رحلة تهجيرهم القاسية منذ العام 1948، هو حلم العودة الذي يدقّ بابهم، ونوافذهم، وأحلامهم، وفي سبيله استعدّ آباؤهم وأجدادهم أن يدقّوا أعناقهم.
هو حلم العودة ليس إلى الشمال فحسب، بل إلى البيوت والقرى والمدن التي هجِّروا منها عام النكبة، هو الحلم الآن، والحقيقة غداً أو بعد غد.
*****
لم تكن المرّة الأولى، التي حاول فيها الغزّيون الذين هجِّروا إلى شمال القطاع، منذ تشرين الأول/أكتوبر، 2023، العودة إلى بيوتهم.
غادر الآلاف من المهجَّرين/ات الفلسطينيين الأماكن التي نزحوا إليها، وحاولوا العودة إلى بيوتهم، رغم تحذير الجيش الإسرائيلي لهم من التوجه إلى مدينة غزة، والمناطق الشمالية، إثر إعلان الهدنة المؤقتة، نهاية شهر تشرين الثاني، 2023.
وتوجَّه مئات المهجَّرين/ات إلى بيوتهم/ن شمال غزة، يوم الرابع عشر من نيسان، 2024، رغم نفي الجيش الإسرائيلي الخبر الذي انتشر حول السماح بالعودة إلى شمال القطاع، ورغم معرفتهم أن هذه المحاولة قد تكلِّفهم حياتهم.
*****
لم تكن المرّة الأولى ولا الثانية، التي حاول فيها الفلسطينيون، بعد تهجيرهم العام 1948، العودة إلى بيوتهم التي هجِّروا منها.
ومن الملاحظ أن المهجَّرين كانوا يضطرّون للتسلل إلى بيوتهم في الليل، خشية القتل أو الاعتقال، منهم من استطاع البقاء في بلده/قريته، أو قريباً منها، ومنهم من قنصه الاحتلال وقتله؛ فاستشهد على أرضها، ومنهم من كان يعود إلى البلد الذي هجِّر إليه، ومعه بعض مقتنيات بيته.
روى “أمين محمد عبد المعطي” – مواليد العام 1935 – المهجَّر من صفورية، والذي أقام في الناصرة حتى رحيله العام 2022 – عن عودته مع عائلته إلى الناصرة، بعد تهجيرهم إلى بنت جبيل، وعن إصراره على العودة إلى بيته في صفورية – التي لا تبعد سوى 6 كم شمالاً عن الناصرة – مهما طال الزمن.
بعد هجوم القوات الصهيونية على قريته، واحتلالها، وتطويق البلد، وترك ناحية مفتوحة لتهجير سكانها، مشى “أمين عبد المعطي”، مع أفراد أسرته، والطخّ من أمامهم ومن ورائهم، حتى وصلوا إلى بنت جبيل.
ومن بنت جبيل إلى بيروت إلى القرعون؛ حيث عانت الأسرة مرارة التهجير، وآثاره الاجتماعية والنفسية والاقتصادية لمدة عشرة أشهر.
مرضت شقيقته “غزالة”، وتوفيت بمرض السحايا، وكادت والدتها تجنّ من الحزن عليها؛ ما دفع الوالد إلى اتخاذ قراره مع أشقّائه بالعودة إلى فلسطين، مهما كان الثمن.
ومن القرعون إلى رميش إلى دير حنا، أكملوا رحلتهم إلى الرينة/شمال شرقي الناصرة.
بقوا ستة أشهر يعيشون برعب وخوف لأنهم دون هويّات، ومهدّدون بالسجن أو الترحيل، إلى أن توسّط له “الشيخ صالح”؛ أحد كبار أهل البلد، فحصلت العائلة بأفرادها جميعاً على هويات، وسكنوا في الناصرة، وسكنهم حلم العودة إلى صفورية.
*****
روى “إسماعيل يوسف أبو حميدان” – مواليد العام 1932، والمهجَّر من صُمِّيل/غزة إلى بيت جبرين/شمال غربي الخليل، إلى إذنا/غرب الخليل، إلى مخيم البقعة/الأردن – عن محاولته العودة من بيت جبرين إلى مسقط رأسه، مع والدته، كي يحضرا المال الذي تركته والدته في بيتهم، ويستعينوا به لتدبير معيشتهم.
تحدّث عن عودته غير مرّة، مع عدد من الفلسطينيين، إلى صُمِّيل، ونجاحهم في إحضار غنم، وبقر، ومواتير ميّ، من بيوتهم، غير عابئين بالألغام التي كان يزرعها الإسرائيليون في الطرق، لمعرفتهم الدقيقة بمداخل وطرق القرية.
وروى عن تسلّله ليلاً ذات مرّة بصحبة والدته، لإحضار النقود وكواشين الأرض، التي خبّأتها أمّه في مجمع حديد، ثم في حائط البيت، وحين وصلا البيت وجداه محروقاً قبل يوم أو يومين من وصولهم؛ لأن النار كانت ما زالت مشتعلة فيه، ولم يعودا خاليي الوفاض؛ إذ ذهبا إلى بيت شقيقة الوالدة، وعبَّآ شوالاً من الشعير من بئر في البيت، ووضعاه في جرن، وعادا به إلى بيت جبرين.
وروت “خضرة محمد صالح” – مواليد العام 1924، والمهجَّرة من رَنتِيَة/شرق يافا، إلى دير السودان/شمال غربي رام الله، إلى أريحا – عن عودة زوجها إلى بيتهم في رَنتِيَة، لإحضار ذهبها الذي تركته في الخزانة، وتحدَّثت عن تسلّل زوج شقيقتها إلى بيتهم ليلة إثر ليلة، كي يحضر ذهب زوجته، وبعض أثاث البيت الجديد، وبعض ثياب أولاده الجديدة.
وتحدّثت عن العديد من المهجَّرين، الذين كانوا يتسلّلون إلى بيوتهم ليلاً، كي يستعيدوا بعضاً من مقتنياتهم وحوائج بيتهم التي خلّفوها وراءهم، مثل الطحين، والذرة، والكواشين، وبعض المال، والمصاغ.
*****
رغم صنوف العذاب كافة، يصرّ الفلسطينيون في فلسطين والشتات، على حقهم في العودة إلى ديارهم التي هجِّروا منها، ولا يرضون عن ذلك بديلاً.
يمشي فلسطينيو 1948؛ ممن هجِّروا من بيوتهم، في “مسيرة العودة”، التي تنظّمها “جمعية الدفاع عن حقوق المهجّرين” سنوياً، إلى قرية من 531 قرية ومدينة عربية، دمِّرت وهدمت عن بكرة أبيها العام 1948؛ في رسالة دالة ومعبِّرة وقوية يوجّهونها للاحتلال الإسرائيلي الكولونيالي العنصري: نرفض كل البدائل؛ من تعويض وتبديل وتوطين، ونجدّد إصرارنا على العودة حتى نعود.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.