بزنس الرياضة – الألعاب الأولمبية باريس 2024 / الطاهر المعز
الطاهر المعز( تونس ) – الخميس 18/4/2024 م …
بذل آل سعود ما في وِسْعِهِم لتستضيف السعودية دورة الألعاب الآسيوية سنة 2029، ووعدت اللجنة الأولمبية الدولية الهند بتنظيم دورة الألعاب الأولمبية قبل تنَحِّي نانيندرا مودي وحزبه اليميني المتطرف “باهارتيا جاناتا” عن الحكم، وتَهْتَمُّ السعودية والهند بتنظيم الدّورات الرياضية الدّولية والألعاب الأولمبية للظهور على مسرح السياسة الدّولية، وفي كل الحالات لا تتم استشارة سكّان البلدان والمُدُن التي تستضيف تظاهرات رياضية دَوْلِيّة، وأظهرت العديد من الدّراسات انخفاض عدد السكان الدّاعمين لتنظيم الألعاب الأولمبية لأن المعلومات أصبحت مُتاحَة للجمهور، منذ العام 2008، بشأن العواقب الاقتصادية ( إنفاق يفوق الإيرادات) والاجتماعية ( تهديم أحياء بأكملها وترحيل سكانها وتشريدهم) واستغلال فاحش للعاملين في مرحلة تهيئة البُنْيَة التحتية لتنظيم الألعاب الأولمبية، ولذلك ارتفعت نسبة المواطنين المعارضين لتنظيمها في مُدُنِهِم، وعلى سبيل المثال، اعتبر ما يقرب من 22% من سكان منطقة باريس، سنة 2022، أن استضافة الألعاب الأولمبية كان قرارًا سيئًا (قرارًا سلبيا)، وارتفعت النسبة سنة 2023 لتصل إلى 53% لكن 85% من المواطنين الذين يعيشون خارج منطقة باريس يؤيدون تنظيم الألعاب الأولمبية، لأنهم لا يتعَرَّضُون لصخب الأشغال وإغلاق الفضاء العمومي وتشريد سكان الأحياء الشعبية وتشديد الرقابة البوليسية…
أصبحت الألعاب الأولمبية وسيلة لتبرير الاستيلاء على الممتلكات العامة من قبل الشركات الخاصة، دون استشارة السكان، ودون أي احترام للإجراءات الديمقراطية وقواعد القانون العادي، ومنذ العام 2017، تاريخ الموافقة على استضافة الألعاب الأولمبية من قِبَلِ مدينة باريس، بدأت السلطات السياسية عمليات إخلاء آلاف الأشخاص من الفئات الإجتماعية الفقيرة والمتوسطة ومن عناصر الطبقة العاملة من منازلهم، واستغلت الدّولة الفُرصةَ لتعزيز السيطرة الجماعية من خلال المراقبة الآلية بالفيديو وعسكرة الفضاء العام، ومن جهة أخرى يَتِمُّ تسديد تكاليف الألعاب الأولمبية من المال العام، أي من قِبَلِ دافعي الضرائب الذين يعيشون على الأراضي الفرنسية، وتُشكّل الألعاب الأولمبية كذلك فرصة لتجربة التقنيات الجديدة للمراقبة الجماعية التي سيتم اعتمادها لاحقًا ودمجها في أجهزة إنفاذ القانون والمراقبة الجماعية، مثل التعرف على الوجه الذي يحتوي على معدل خطأ مرتفع جدًا والذي يطرح مشكلة احترام الحريات الفردية والعامة.
عمدت أجهزة الدّولة، قبْلَ الشّروع في إنجاز البنية التحتية للألعاب الأولمبية، إلى إخلاء المحَلاّت وطرد آلاف السكان من الأحياء الشعبية في باريس وضواحيها، وتم طرد الطلاب والعمال الشباب والعمال المهاجرين من الحرم الجامعي وبيوت الشباب ومحلات السكن الجماعي، وتُمَثل عمليات الإخلاء هذه فرصة لاستبدال الإسكان الاجتماعي بإسكان أعلى سعرًا أو ما يُسمّى “سعر السوق” حيث يكون الإيجار أو سعر المتر المربع أعلى تكلفة بكثير.
تُقدّم الحكومة الفرنسية واللجنة الأولمبية الدولية إعانات مالية لشركات البناء متعددة الجنسيات والجهات الراعية (الشركات الراعيَة للألعاب) والشركات السمعية والبصرية التي تبث العروض الرياضية، أما رعاة الألعاب الأولمبية فهي شركات متعددة الجنسيات من قطاعات مختلفة، ومن بينها: آربيإنبي وكوكاكولا وعلي بابا ومجموعة آليانز للتّأمين وأوميغا وسامسونغ وتويوتا و بي&جي الخ، وتحصل اللجنة الأولمبية الدولية على حوالي 90% من إيراداتها من الإتاوات من شركات البث الإذاعي والتلفزيوني التي تشكل ما يقرب من 90% من إيراداتها، والتي تضاف إليها إيرادات التذاكر.
تُشْرِف اللجنة الأولمبية الدولية على إدارة كافة العمليات، من اختيار المدينة المُضَيِّفَة إلى اختتام كل دَوْرَة، فهي تتخذ القرارات ذات الصّبغة المالية وتبرم العقود مع المدينة المضيفة للألعاب وتنص العقود على تحَمُّلِ المدينة المُضيفة التكاليف الاقتصادية و”التكاليف الاجتماعية” للحدث، ولا تتحمل اللجنة الأولمبية الدّولية أي مسؤولية…
على المستوى السياسي، تعكس دورة الألعاب الأولمبية في باريس 2024 جدل اللحظة الراهنة، واختلاف المصالح والصراعات الخاصة بالنُّخَبِ المَحَلِّيَّة، بما في ذلك مسألة الأمن والعنصرية المؤسسية ضد المهاجرين ومواطني المستعمرات وما إلى ذلك.
ترافقت حقبة النيوليبرالية (التي يمكن تأريخ بداياتها بسنة 1979 في بريطانيا وبسنة 1980 في الولايات المتحدة) مع زيادة أهمية رعاة النّوادي والتّظاهرات الرّياضية، وارتفاع ثمن عُقُود البث السمعي والبصري التي حولت هذا الحدث الرياضي إلى مشهد أو مسرحية أو احتفال لن تتجاوز مكانة ألعاب القوى ضمنه أداةً لتحقيق الربح، ويكون تحقيق الربح هو المُحفّز لترشيح المُدُن الكبرى لاحتضان الألعاب الأولمبية، إذْ يوجد في كل مدينة ما يكفي من المصالح السياسية والاقتصادية التي تستفيد من الألعاب والتي تحشد لدعم الترشيح، وخصوصًا تلك الشركات ذات النّفُوذ القوي، والتي لها علاقات بقطاعات البناء والعقارات والأمن الخاص.
“رأسمالية الاحتفال”
تَحَوّلت الألعاب الأولمبية من حدث رياضي إلى فُرْصَة اقتصادية للإستثمار المُرْبِح، وأصبحت ألعاب القوى والمنافسة ملحقات في خدمة آلة أو مَسار تراكم الأرباح، ومن هنا نشأ مصطلح “رأسمالية الاحتفال” الذي يُشير إلى حالة الاستثناء وتعليق الوضع السّياسي الطبيعي، لكي تسمح الحكومة لنفسها بالتعاون مع الشركات الخاصة لإنشاء المشاريع والشراكات بين القطاعين العام والخاص التي يدعو لها صندوق النقد الدّولي والبنك العالمي، والتي يَعْسر تبريرها في الأوقات العادية، وتستخدم الدّولة الفرنسية حالة الإستثناء كوسيلة للتحايل على القواعد العادية للحياة الديمقراطية وعلى دَوْر المُؤسّسات، وبشكل عام يشير مصطلح “رأسمالية الاحتفال” إلى البُعْد الاستبدادي المناقض للديمقراطية واستخدام الأحداث الرياضية الكُبْرى للإلتفاف على الحدود وعلى الكوابح.
تُوَلِّدُ الألعاب الأولمبية تدفقًا كبيرًا لرأس المال، لكن لا تستفيد الفئات الهَشّة أو الدّنيا ( في أسفل السُّلَّم الإجتماعي) من هذه الأموال، بل يَسْتَفِيدُ منها الأثرياء، ومن هم في أعلى درجات السُّلَّم الإجتماعي، أو ما يُسَمّى ” اقتصاد التقطر العكسي للأسفل”، حيث يتجَمَّعُ المال في جيوب وخزائن أولئك الذين يملكون الكثير منه، والحصيلة إن الألعاب الأوليمبية لا تشكل فرصة اقتصادية للشركات المحلية الصغيرة، بل للشركات الكبيرة مُتَعَدِّدَة الجنسيات، وهو ما يفسر تَبَخُّرَ جزء كبير من التمويل المُعْلَن عنه ولكنه لا يُسْتَثْمَرُ عبأ في الدوائر الدولية ولا يستثمر محليا أبدا، على النقيض من الوعود التي يبذلها منظموها. يمكن القول أن الألعاب الأولمبية مُصَمَّمَة ليَسْتَفِيدَ منها أغنى 10% من الأثرياء على مستوى العالم.
تلعب ألعاب القوى والرياضيون والألعاب الأولمبية التي تحتضنها دورًا إيجابيًّا ومهمًا للغاية في المِخْيال الجماعي للشعوب، لأن الألعاب الأولمبية تجْمَعُ أفضل الرياضيين في العالم، غير إن هؤلاء الرياضيين الذين تستغل الشركات ووسائل الإعلام واللجنة الأولمبية الدّولية جُهُودهم، يتقاضون أجوراً مُنْخَفِضَة، وقد وثقت دراسة جامعية كندية – أجريت بالتعاون مع التحالف العالمي للرياضيين، وهو اتحاد يجمع الرياضيين من عديد الدُّوَل- حجمَ الفجوة في الدخل بين الرياضيين الأولمبيين، الذين يحصلون على 4,1% من دخل الرياضيين، وأولئك الذين ينتمون إلى اتحادات أخرى مثل الرابطة الوطنية لكرة السلة ودوْرِي الهوكي في الولايات المتحدة أو الدوري الممتاز لكرة القدم في بريطانيا العظمى، والذين يحصلون على ما بين 45% و 60% من دخل الرياضيين، في حين أن أعضاء اللجنة الأولمبية الدولية الذين يكْتَفُونَ بِحُضُور المسابقات يحصلون على ما بين 450 و 900 دولار يوميًا، مما يعني أنهم يكسبون أموالًا أكثر من الرياضي الذي يفوز بالميدالية الذهبية.
أظْهر تقرير غرفة المُحاسبة (مؤسسة تفتيش رسمية ) إن أُجُور خمسة مُوظفين (مُديرِين) من لجنة تنظيم الألعاب الأولمبية بباريس حصلوا على 2,2 مليون يورو، وبلغت رواتب المديرين حوالي 200 ألف يورو سنويا لكل منهم و260 ألف يورو للمدير العام لِلَجْنة تنظيم الألعاب، وساهم ارتفاع الرواتب في زيادة ميزانية الأجور بنحو 115 مليون يورو عن الميزانية المعلنة في ملف دورة باريس 2024 للألعاب الأولمبية…
في باريس، استغلّت السّلطات الألعاب الأولمبية فَوَجّهت التخطيط الحضري للعام 2024 نحو إنجاز تغييرات جَوْهَرِيّة في المناطق الشعبية من باريس وضواحيها والمحافظات القريبة منها، لإبْعاد وإقْصاء الأغلبية السكانية العُمّالية والشّعبية، وبالتالي أصْبَحت الألعاب الأولمبية فُرْصَة لتغيير النسيج الاجتماعي والاقتصادي لمدينة باريس والمناطق المحيطة بها، من خلال طرد العمال ذوي الدّخل المنخفض وحتى متوسطي الدّخل، وغير المستقرين والفقراء، وكما تم ذكره في فقرة سابقة، فإن التحضير لدورة الألعاب الأولمبية للعام 2024 شَكَّلَ مناسبة لإقرار عدة استثناءات للقانون في مسائل الحريات الفردية والعامة، وتخطيط المدن، والبيئة، وما إلى ذلك، ولجأت الدولة إلى زيادة عدد أفراد الشرطة والجنود “لتأمين الألعاب”، وما ذلك سوى وسيلة لزيادة القمع وإدارة شؤون المواطنين بواسطة قوات الأمن العام.
ساهمت اللجنة الأولمبية الدّولية في نَشْر الضّبابية وإلغاء الشفافية وبادرت إلى إنشاء آلة معادية للديمقراطية، وفي كل دورة، تقوم هذه اللجنة بإعداد عقد تُوَقِّعُه المدن المضيفة للألعاب، ويمنح هذا العقد اللجنة الأولمبية الدولية “السلطة العليا” على الألعاب، وبالتالي، في حالة حدوث مشكلة أو حدث غير متوقع، فإن اللجنة الأولمبية الدولية هي وحدها التي تتمتع بسلطة إلغاء الألعاب أو تأجيلها، دون تدخّل مُمَثِّلِي المدينة الذين انتخَبَهُم السّكّان، فضلا عن عدم إمكانية اللجنة الأولمبية الدّولية، لأنها ليست مسؤولة أمام أحد، ولا توجد آلية لتقييد عمل اللجنة الأولمبية الدولية، رغم كل الوثائق والإعلانات المتعلقة بالديمقراطية.
استغلت نقابات وتجمعات العمال غير النّظامِيِّين في فرنسا ( المحرومين من وثائق الإقامة والعمل) استضافة دورة الألعاب الأولمبية في باريس لتنظيم إضراب، مع احتلال موقع شركة أديداس (أديداس أرينا) في تشرين الثاني/نوفمبر 2023 وتَمكّنوا من توقيع اتفاقيات تهدف إلى “تسوية” الوضع القانوني للعاملين في مواقع الملاعب والمسابح وأحياء إقامة الرّياضيين بالحي الأولمبي، وتمكّن العُمّال من تحقيق بعض المكاسب بفضل تضامنهم، رغم سياق التّضْيِيقات السياسية وقمع الحركات الاجتماعية…. حظيت تصرفات مجموعات المهاجرين غير النّظامِيِّين والنقابات في مواقع بناء الألعاب الأولمبية باهتمام دولي في الصحافة الناطقة باللغة الإنجليزية، والتي تُتابع كل ما يحدث حول الألعاب الأولمبية، خصوصًا خلال الأشهر السّابقة لافتتاح دَوْرَة باريس للألعاب الأولمبية، وساهم ذلك في نجاح إضراب العمال وتحقيق مطالبِهِم…
تقام دورة الألعاب الأولمبية في باريس في سياق قمع العُمّال والمُهاجرين والفئات الشّعبية وخصوصًا حركات التضامن مع الشعب الفلسطيني والمظاهرات وجميع أشكال الاحتجاج، إلى جانب زيادة مراقبة المُناضلين، ومُحاكمة العديد من المسؤولين النّقابيين من القيادات المُتوسّطة، واختلاق ذريعة “التهديد الإرهابي”، وبذلك نجحت الحكومة في نشر الخوف والرُّعْب، ما اضطرّ مختلف المجموعات المناضلة لتقييد نشاطها والإكتفاء ببعض المظاهرات الرَّمْزِيّة والصّغيرة… يَنْدَرِجُ قَمْع المعارضة ضمن مناخ التّرهيب الذي خلقته الحكومة الفرنسية بذريعة حماية الألعاب الأوليمبية، والذي يَتَعَمَّدُ تشبيه النضال النقابي والاجتماعي بالتهديد الإرهابي، ويندرج كذلك ضمن مناخ أصبحت فيه فرنسا (وكذلك ألمانيا) بمثابة رأس جسر للعدوان العسكري من قبل حلف شمال الأطلسي ( ناتو ) والإمبريالية في أماكن مختلفة حول العالم، ومنحت الدولة الفرنسية قروضًا مُيَسّرة ومِنَحًا وإمدادات أسلحة لأوكرانيا وكذلك للدولة الصهيونية، ووزعت أكثر من 84 مليار يورو على الأثرياء والشركات على شكل مساعدات وإعفاءات ضريبية، في حين َينْضَمُّ عدة ملايين من المواطنين إلى صفوف الفقراء كل عام، ووصل عدد المشردين وذوي السكن غير الصّحِّي، بمن فيهم عشرات الآلاف من الأطفال، فضلاً عن الباحثين عن “السكن الاجتماعي”، إلى أرقام قياسية، كما وصل عدد المنازل الشاغرة وعمليات الإخلاء إلى مستويات قياسية، لأن المُسْتأجرين لم يعودوا قادرين على دفع مبالغ الإيجار والرسوم (الكهرباء والماء والضرائب) التي ارتفعت بنسق يفوق ثلاثة أضعاف زيادة متوسط الدخل، ففي سنة 1973، أنفق المستأجرون 10% من دخلهم على الإيجار، وتضاعفت القيمة ثلاث مرات في المتوسط سنة 2022 لتتجاوز قيمة الإيجارات ورسوم الإيجار نصف دخل عدة فئات من السكان، خاصة بعد ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء، ولئن وُجِدَت بعض القوانين التي تحمي حقوق المُسْتَأجِرِين والمُشردين فإن أجهزة الدّولة (الشرطة والقضاء) لا تُطبّقها، بل يتعرّض الأشخاص الذين يشغلون محلات ومباني فارغة، دون عقد إيجار، لخطر الحكم عليهم بالسجن لمدة ثلاث سنوات، وسوف يُضاف إلى فاقدي المأوى من يتم طردهم من مساكنهم، في إطار تهديم أحْياء بأكملها، لتقام مكانها طرقات أو عمارات من طراز آخر، في إطار مشاريع “باريس الكُبْرى” أو في إطار إنشاء البُنْيَة التحتية الضرورية للألعاب الأولمبية…
التعليقات مغلقة.