دراسة مختصرة … مركزية فلسطين عند عز الدين القسام وعبدالله عزّام

 

محمد حجازي* ( فلسطين ) الخميس 1/12/2016 م …

اعتبر بعض الإسلاميين أن إسرائيل مشكلة فرعية نتجت عن مشكلة أصلية، تمثلت في سقوط الخلافة. وأنه مع تطبيق الشريعة وقيام حكم الله تكون فلسطين وجدت الحل المناسب، وقد غفل أصحاب هذا الرأي، عن فهم الأبعاد الكاملة لوجود إسرائيل، التي هي تجسيد للمشروع الغربي الاستعماري، الذي يسعى لتدمير مقومات الأمة، وتجزئة الأرض، وبث الفتن والخلافات، حرصاً على إطالة عمر الغدة السرطانية المزروعة في قلب الوطن العربي.

إن القضية الفلسطينية بقيت محط أنظار المسلمين، على اختلاف توجهاتهم، فيما بقيت المحاولات الجادة للقيام بالواجب عاطفية أكثر مما ينبغي. لذا كان ضرورياً أن تعاد بوصلة الأمة إلى فلسطين، وتحويل الجهود إلى ميدان المعركة الحقيقية، بدلاً من ميادين وهمية وصراعات تستنفذ الجهد والطاقة.

من سوريا الشمالية إلى جنوبها في فلسطين، كانت رحلة الباحث عن واجب الجهاد والباعث في الأمة روح الفريضة الغائبة. الشيخ عز الدين القسام، القادم من جبلة، يرتدي عمامته الأزهرية ويتكأ على بندقيته التي قاوم بها الاستعمار الفرنسي، حتى صدر بحقه حكم الإعدام، ليحط رحاله في فلسطين ويصعد منبر الاستقلال في حيفا، ويخوض معركة الجهاد في أحراش يعبد حتى قضى نحبه شهيداً.

أدرك القسّام مبكراً، أن الصهيونية هي طليعة الاستعمار الغربي، وفلسطين مركز الصراع وساحة المواجهة. آمن بالمقاومة، ورفض المفاوضات والحلول الوسط، وحذّر من تأجيل القضية؛ لأن الانتظار يعني تمكن اليهود في فلسطين. في الوقت الذي كانت فيه بعض الزعامات تسعى لمفاوضات سلمية مع بريطانيا.

عرف القسام أبعاد المشروع الغربي وخطره على الأمة الإسلامية، حين كانت مصر خاضعة للاحتلال البريطاني بعد ثورة عرابي، وحين دخلت القوات الإيطالية إلى ليبيا عام 1911، قاد القسام تظاهرة دعا فيها إلى التطوع لقتال الطليان، إلا أن السلطات التركية منعته ورفاقه المتطوعين من السفر إلى ليبيا. وعندما احتلت القوات الفرنسية سورية عام 1920، رفع القسام راية المقاومة، وكان في طليعة الثوار الذين حملوا السلاح.

اعتمد القسام على قاعدة «الجماهير أداة التغيير»، فبدأ من مسجد الاستقلال في مدينة حيفا يزرع الوعي والثورة، وينمي ثقافة التحدي والمواجهة. ويتحرك بين الناس كمأذون شرعي وإمام مسجد، ويستثمر ذلك في خدمة قضيته. لم يكتف بالتنظير، بل كان يشكل الخلايا السرية، ويختار جنوده من الفقراء والبسطاء، الذين يبيعون حُلي زوجاتهم، من أجل توفير قطعة سلاح. كما عمل على تأسيس جمعية الشبان المسلمين لتربية الشباب وإنقاذهم من الانحراف والضياع.

استصدر القسام فتوى من قاضي دمشق الشرعي بدر الدين التاجي الحسيني، تحلل القتال ضد الإنجليز واليهود لمنع إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. وكانت له اتصالات سياسية مع الملك فيصل في سوريا وأمين الحسيني مفتي فلسطين وراشد الخزاعي من شرق الأردن، وكان يحرضهم على الجهاد ضد العدو البريطاني والصهيوني.

كانت أهداف الجهاد في أرض فلسطين التي سعى إليها الشيخ القسام، والتي رفض تأجيلها أو التغافل عنها، تتمثل في طرد الانتداب البريطاني، وإسقاط مخطط الوطن القومي لليهود، وإقامة الحكم الإسلامي. وكان جهاده البداية الحقيقية للثورة ضد اليهود، حيث قام المجاهدون بعمليات جهادية عدة ما بين عام 1931 – 1935، على مستعمرات صهيونية عدة. وقد وصفه أحمد الشقيري رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، بالقول: «ولم يكن يدور في خلدي أو في خلد غيري، حتى من أصدقائه المقربين، أن هذا الشيخَ المعممَ إمامَ الجامع كان يهيئ نفسه لقيادة ثورة مسلحة ضد السلطات البريطانية مباشرة».

وبعد معركة مع القوات البريطانية، قادها الشيخ القسام مع عدد من رفاقه في أحراش يعبد قرب جنين في 20 تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1935، فاستشهد بعدما جسد مقولته الشهيرة «إنه لجهاد نصر أو استشهاد»، وكان لاستشهاده الأثر الأكبر في اندلاع الثورة الفلسطينية الكبرى. وما يزال الفلسطينيون يذكرون القسام بعد عقود على رحيله، واسمه ما يزال يواصل المعركة ضد العدو الصهيوني، بكتائبه التي تكبر يوماً بعد يوم، ورجاله الذين يؤمنون بفكرته في استمرار جذوة الجهاد وعدم استقرار هذا المحتل على أرضنا.

أما الاتجاه الآخر، والذي يرى بإقامة الدولة الإسلامية أولاً، ثم تحرير الأراضي المحتلة ومنها فلسطين، فكان أبرزهم الشيخ الفلسطيني الأصل عبدالله عزام، الذي يوصف بأنه رائد «الجهاد الأفغاني» والمنظر الأول لـ«الجهاد العالمي»، من أعلام «الإخوان المسلمين» وتتلمذ على كتابات سيد قطب. كان له دور كبير في ثمانينيات القرن الماضي لإحياء «الجهاد» في أفغانستان، وشكّل حلقة الوصل بين الأفغان والمؤيدين لهم في البلدان العربية، وأسس مكتب الخدمات عام 1984، لرعاية «المجاهدين». وتتلمذ على يده مؤسس تنظيم «القاعدة» الشيخ أسامة بن لادن.

بقيت فلسطين خارج حسابات المجاهدين وبعيدة عن عيونهم

الشيخ عبد الله يوسف عزام، ولد عام 1941 في جنين المحتلة ــ المدينة التي شهدت استشهاد الشيخ القسام ــ وبعدما تخرج من كلية الشريعة في دمشق، شارك في مقاومة الاحتلال لفترة وجيزة، ونال الشهادات العليا من الأزهر، ثم غادر فلسطين وذهب للجهاد في كابول. وحتى تكتمل المفارقة، فقد استشهد الشيخ عزام في 24 تشرين الثني/ نوفمبر عام 1989، إثر تفجير سيارته وكان معه اثنين من أبنائه، في التاريخ نفسه الذي استشهد فيه الشيخ القسام. وفي سياق الحديث عن استشهاده، لم يعرف هوية القتلة، إلا أن الأدلة تشير إلى أنها مؤامرة اشترك فيها عدد من الأفغان العرب!

تسع سنوات خاضها الشيخ عزام في أفغانستان عقب الغزو السوفياتي، من دون أي مبرر مقنع، حيث وجد هناك على بعد آلاف الكيلومترات، «أرضاً لشوقه وحبه الجارف للحرب على طريق الله»، كما حشد آلاف المتطوعين العرب ومن بينهم الفلسطينيون، لإرسالهم إلى ساحة المعركة هناك. وأصدر الشيخ عزام فتوى تؤكد أن الجهاد في أفغانستان فرض عين، وحصل على توقيع عدد من كبار العلماء، أبرزهم ابن باز وابن عثيمين والقرضاوي. وأتبع بفتوى أخرى عنوانها «الدفاع عن أراضي المسلمين أهم فروض الأعيان». في المقابل لم نجد أي فتوى تدعو إلى الجهاد في فلسطين، ولم يتحرك الشيخ عزام لمساندة «الإسلاميين»، الذين تحقق وجودهم في عام 1988 كما يقول. إضافة إلى أنه اعتبر البداية الواجبة للجهاد هي أفغانستان، برغم أنها لم تكن حاضرة في مشروع الإسلاميين آنذاك، وساوى في الأهمية بين قضية فلسطين وقضايا أفغانستان والفيليبين وكشمير وغيرها.

أما عن الأسباب التي طرحها الشيخ عزام لتأجيل الجهاد في فلسطين، فإنه كان يرى، أن الذين يقودون المعركة هناك ليسوا من الإسلاميين، برغم أن قضية فلسطين ليست إسلامية فحسب، بل هي إنسانية، يشارك في الدفاع عنها كل حر، بغض النظر عن دينه أو طائفته، وفي هذا دعوة لعدم مشاركة الآخرين حتى لو كان الهدف وطنياً.

كما اعتبر أن قضية أفغانستان لا تخضع لما تسمى «الدول المشركة» بحسب وصفه، وما لا يُنكر أن أميركا قامت بجهد كبير لاستغلال القضية الأفغانية ودعم المجاهدين هناك، الذين وصفوا ذلك بـ«تلاقي المصالح».

وسبب آخر، وهو أن الحدود مغلقة أمام المجاهدين والدول العربية تحاربهم وربما تقتلهم. برغم ذلك، فإن المقاومة الفلسطينية تخوض المعركة من الداخل من دون الحاجة إلى فتح الحدود، وحتى لو لم يستطع الشيخ عزام أن يعبر الحدود إلى فلسطين كان بإمكانه أن يؤسس لقواته، في أقرب نقطة، في لبنان مثلاً، حيث كانت تواجه الاجتياح الصهيوني.

أما ما يثير الغرابة، فهو ما تحدث به الشيخ عزام، واصفاً أفغانستان بأنها «شعب فريد في صلابته وعزته، وكأن الله أعد جبالها وأرضها للجهاد». وهذا ما يعبر عن رؤيته لصلاحية المقاومة والجهاد في أرض من دون أرض، فضلاً على أنها تنفي عن الشعب الفلسطيني عزته وصلابته. كما أجاب عن الاتهام الموجه له بإضعاف الجهاد في فلسطين عقب جذب الشباب الفلسطيني والعربي إلى أفغانستان، بالقول: «على الفلسطينيين الهجرة إلى أفغانستان حيث أنهم ستشتد عزيمتهم بالدين هناك، ويمرون بالتجربة العسكرية، والفكر الذي سيساعدهم في تحرير فلسطين».

يمكن القول إن مشروع الشيخ عزام يرتكز على ركنين هامين، أولاً: استغلال الظروف والاضطرابات في أي بلد وتحويله إلى مركز استقطاب، وقد وجد ضالته في أفغانستان آنذاك، وهذا ما نشهده اليوم في العراق وسوريا حيث يتحول الشباب المسلم إلى أدوات تمارس الإرهاب العابر للحدود. ثانياً: تحويل الهجرة إلى تلك الأرض الموعودة إلى فريضة على كل مسلم، عبر الفتاوى وذلك لحشد المقاتلين وعائلاتهم ليكونوا شعباً في الدولة الجديدة.

وقد أنتج ميراث الشيخ عزام، كتائب وفصائل جهادية تحمل اسمه وتلتزم فكره، تصوّب بنادقها يمنةً ويسرةً باستثناء فلسطين، التي لم يفتقدها «المجاهدون»، بل بحثوا عن أراض أخرى لسياحتهم! وكما كانت أفغانستان، تحولت العراق إلى أرض جهاد وانجذب إليها تلاميذ الشيخ عزام الذين شكلوا تنظيم «القاعدة». وبقيت فلسطين خارج الحسابات، وبعيدة عن عيون المجاهدين الذين يرددون مقولة، «نقاتل هنا وعيوننا على بيت المقدس»، قيلت في كابول وبغداد واليوم تقال من دمشق، بعدما نفروا إليها من كل أصقاع الأرض، في أحداث ما يسمى «الربيع العربي»، تحت راية «داعش» وأخواتها، التي خرجت من صفوف «القاعدة».

الذرائع التي كان يتمسك بها الشيخ عزام ورفاقه في تأجيل الجهاد على أرض فلسطين، سقطت. فقد بات «المجاهدون» على مرمى حجر من فلسطين المحتلة، بعد سيطرتهم على مناطق عدة في سوريا. ويملكون من السلاح ما يكفي لضرب العمق الصهيوني وزعزعة أمنه وتهديد وجوده.

يقال إن الشيخ عزام تحدث عن عهد بينه وبين الأفغان، ينص على أنه سوف يتم التفرغ بعد معركة كابول للبدء بمعركة القدس. ويقولون: «إن قضيتنا الأولى هي قضية القدس، ولكن هذه الدواهي التي حلت بنا شغلتنا». ولكن هذه الدواهي التي شغلت الأفغان لم تنته بعد!

ما حدث سابقاً، وما يحدث اليوم، يدلل على أن هناك مشروعاً مشبوهاً لاقتلاع فلسطين من وجدان الأمة، ولذلك نرى تبدّل الأولويات وصناعة الأعداء في المنطقة منذ «سايكس بيكو» والشرق الأوسط الجديد مروراً بـ«الربيع العربي». إن فلسطين هي كاشفة العورات، وأي بوصلة لا تشير إلى بيت المقدس هي بوصلة مشبوهة، ولذلك فإن فلسطين تعرف جيداً ويقيناً مع من تكون.

* باحث فلسطيني

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.