لعبة الحكى فى الصراعات الدولية / مصطفى كامل السيد
لا تتصورون ــ عزيزاتى وأعزائى القراء ــ أن استخدام الخيال فى تصوير الواقع هو أمر يقتصر على الأدباء وأهل الفن وحتى العلماء.
الواقع الإنسانى والطبيعى هو واحد بالنسبة لنا جميعا، ولكن الأديب سواء كان روائيا أو شاعرا يراه على نحو مختلف، بل إن العالِم يرى فيه ما لا يراه الآخرون.
كل منهم يكتشف زاوية خاصة فيه. أو يستشرف بعدا غاب عن كُثر.
كذلك الأمر بالنسبة للواقع السياسى فهو واحد بالنسبة للشعب والحكام، ولكن الحكام يريدون أن يراه المواطنون والمواطنات على نحو محدد؛ ارتفاع الأسعار ليس عبئا على ميزانية المواطن المرهقة ولكنه إصلاح اقتصادى، واتباع تعليمات صندوق النقد الدولى ليس تعميقا للتبعية، ولكنه مباركة من هذه المؤسسة الدولية العليمة لبرنامج مصرى صميم.
الزاوية التى يريد الساسة أن ينظر الأفراد من خلالها هى الزاوية التى تفتق عنها خيالهم لكى يكتسب ما يقومون به الشرعية فى نظر مواطنيهم ومواطناتهم، ومن ثم يستتب حكمهم.. ولذلك يلجأ الساسة إلى ما يسميه علماء السياسة بالتأطير Framing أى تحديد زاوية معينة يرى من خلالها الآخرون هذا الحدث، ويكتسب هذا التأطير أثره إذا كان مفهوما على نطاق واسع وعلى النحو الذى يريده الساسة، وخصوصا إذا كان مرتبطا بسردية narrative تربط هذا الإطار بأحداث أخرى جرت فى التاريخ المعاصر أو القديم من شأنها أن تثير فى نفوس الأشخاص المتلقين لخطاب الساسة مشاعر كثيفة تدعم من أثر الإطار الذى استخدموه.
ماذا حدث فى السابع من أكتوبر؟ لنا فيما جرى فى السابع من أكتوبر مثل بارز على ذلك، فهو حدث هز الملايين من البشر، ليس فقط أطراف الصراع الفلسطينى الإسرائيلى، ولكن من يتعاطف مع كل واحد منهما، ومن يهتم بمتابعة ما يجرى فى موقعنا فى العالم.
سمته حماس طوفان الأقصى، وأسمته الحكومة الإسرائيلية أبشع مجزرة جرت لليهود منذ المحرقة، وتقصد بذلك ما جرى من اضطهاد لليهود وإيداع الكثيرين والكثيرات منهم معتقلات بها أفران الغاز على يد المؤسسات النازية قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية. شاءت قيادة حماس أن تسمى عملها الجرىء فى ذلك اليوم بطوفان الأقصى وهو يحيل الذاكرة إلى ما جرى فى العالم وفق الكتب المقدسة لدى المسلمين والمسيحيين واليهود.
الكتب المقدسة فى الأديان الثلاث تُجمع على أن الطوفان ارتبط بالنبى نوح وغرق العالم، ونجاة من اختارهم نوح للهرب من ذلك الخطر المحيق. أى أن طوفان الأقصى هو اختبار عظيم للشعب الإسرائيلى حتى يعود إلى صوابه ويفوز بالنجاة عندما يعترف بحقوق الشعب الفلسطيني، وهو اختبار مقدس إذ ينسب إلى المسجد الأقصى الذى نزل عليه النبى محمد عند رحلته إلى السماء.
اختارت الحكومة الإسرائيلية أن تربط ذلك الحدث بما جرى لليهود فى أوروبا، وبينما كان التعاطف مع حماس غير مرتبط بكيفية وصفها لذلك الحدث، كان التعاطف مع الموقف الإسرائيلى فى البداية ناجما عن كيفية تسميتها له.
ولذلك رأت فيه الحكومات الغربية تجددا لممارسات الاضطهاد التى تعرض لها اليهود فى فترات تاريخية سابقة، ولذلك وقفت هذه الحكومات مؤيدة لما سمته حق إسرائيل فى الدفاع عن نفسها، وتجاوبت معها تيارات واسعة من الرأى العام الغربى، كما تكشف عن ذلك استطلاعات الرأى العام فى تلك الدول فى الأسابيع الأولى للحرب التى شنتها إسرائيل على غزة.
لكن، مع اكتشاف العالم من خلال وسائل الإعلام وخصوصا أدوات التواصل الاجتماعى بشاعة المجزرة التى يدبرها الجانب الإسرائيلى للمواطنات والمواطنين الفلسطينيين فى غزة، لم تعد الرواية الإسرائيلية التى تذكر بالمحرقة النازية مقنعة فلجأت الحكومة الإسرائيلية ومعها القنوات الإعلامية وخصوصا التلفزيونية المتعاطفة معها إلى التركيز على ما يعانيه الأسرى الإسرائيليون لدى حماس، وبدلا من أن تستفيض فى وصف سلامة من جرى إطلاق سراحه منهم وعدم حديث أى منهم عن معاناة لقوها أثناء فترة أسرهم، أصبحت هذه القنوات تشدد على معاناة من بقى أسيرا لدى حماس وعرض صورهم وخصوصا الإناث منهم، ثم أضافت لذلك روايات مشكوكا فيها عن الاغتصاب الذى تعرضت له الأسيرات الإسرائيليات حتى دون أن تشفع ذلك بشهادات مباشرة من الأسيرات اللاتى أطلق سراحهن. طبعا الرأى العام يتأثر كثيرا ويستنكر جريمة الاغتصاب، وطبعا ترد صورة العرب فى المخيلة الأوروبية باعتبارهم لا يولون المرأة مكانتها المستحقة فى المجتمع، ويواصلون قمع حرياتها الشخصية سواء فى الملبس أو اختيار الزوج أو تطلب الطاعة المطلقة من جانب الإناث تجاه الذكور أيا كانوا آباء أو أزواجا أو إخوة. الحرب مع حماس هى واحدة من المعارك ضد الإسلام المتطرف لم تُجدِ هذه الأطر الجديدة فى كسب الحكومات ولا الرأى العام الغربى. فقد أصبحت كل هذه الحكومات تقريبا بما فى ذلك الحكومة الأمريكية تطالب بوقف إطلاق النار وتوصيل المساعدات لسكان غزة. لذلك لجأت الحكومة الإسرائيلية بالفعل والقول إلى توسيع إطار الصراع مسلكا وخطابا.
الهجوم على القنصلية الإسرائيلية فى دمشق واغتيال شخصيات إيرانية بارزة ومنهم قائد فيلق القدس فى الحرس الثورى كان المقدمة لوصف الصراع مع حماس على أنه واحد من المعارك التى تخوضها إسرائيل ضد الإسلام المتطرف، وبذلك أخذت تلعب على وتر حساس لدى الحكومات والرأى العام فى الغرب.
فصورة النظام الإيرانى فى الغرب ليست صورة إيجابية، إذ إيران هى الدولة التى يحكمها رجال الدين فى القرن الحادى والعشرين، والنظام الإيرانى هو الذى يفرض على المرأة زيا محددا، وقائد ثورتها ــ الإمام الخمينى الراحل ــ هو الذى دعا إلى قتل الكاتب البريطانى ذى الأصل الهندي، سلمان رشدى، وفضلا عن ذلك فإيران تهدد الغرب بالميليشيات الموالية لها فى لبنان والعراق واليمن وفلسطين، كما تهدد سلام العالم بسعيها لحيازة سلاح نووى. الحرب ضد الإسلام الراديكالى لها الأولوية على إنقاذ سكان غزة الواقعين تحت الاعتداءات اليومية من القوات الإسرائيلية. ولقى هذا الطرح هوى لدى الحكومات الغربية.
تجاهلت تلك الحكومات أن إسرائيل هى التى تستفز إيران بغاراتها المتكررة على التواجد الإيرانى فى سوريا بل وبتجرؤها على اغتيال قادة الحرس الثورى على أرض القنصلية الإيرانية فى دمشق والتى تعتبر بحكم القانون الدولى أرضا إيرانية، وتحججت هذه الحكومات وفى مقدمتها الحكومة الأمريكية بأنه ليس من المؤكد أن موقع الهجوم الإسرائيلى فى دمشق هو أرض دبلوماسية.
كما رفضت الحكومات الغربية الممثلة فى مجلس الأمن مشروع القرار الروسى الذى يستنكر هذا الهجوم الإسرائيلى. حتى عندما قامت الحكومة الإيرانية بردها المحسوب على إسرائيل بإطلاق ٣٠٠ مسيرة وعشرات الصواريخ على إسرائيل مدفوعة من ناحية بتوقع الرأى العام الإيرانى أن تقوم بالرد، وخشيتها من ناحية أخرى من الدخول فى حرب مفتوحة ضد إسرائيل التى ستقف الولايات المتحدة حتما إلى جانبها، أدانت الحكومات الغربية كما هو متوقع رد الفعل الإيرانى، واتخذت مجموعة الدول السبع الصناعية المتقدمة قرارات بغرض عقوبات على إيران بسبب هجومها على إسرائيل.
هكذا نجح التأطير الإسرائيلى للصراع مع الشعب الفلسطينى فى إبعاد الاهتمام مؤقتا عما يجرى فى الأراضى الفلسطينية فى غزة والضفة الغربية وتحويل كافة الدول الغربية إلى مناصر لها بل ومشاركة بعضها مثل بريطانيا وفرنسا إلى جانب الولايات المتحدة فى التصدى لهجوم المسيرات والصواريخ الإيرانية، بل ذهب المتحدثون باسم الحكومة الإسرائيلية إلى أن المعركة ضد التطرف الإسلامى الذى تمثله إيران هو معركة مشتركة تجمع إسرائيل مع حكومات عربية وغربية على حد سواء.
وكانت تقارير عديدة أشارت إلى مشاركة دول عربية فى التصدى للمسيرات الإيرانية التى عبرت أجواءها. هذه المكاسب السياسية والمعنوية التى حصلت عليها إسرائيل بتغيير توصيف الصراع مع الشعب الفلسطينى وتصويره على أنه مجرد ميدان واحد من الصراع ضد الإسلام الراديكالي، ليس سهلا على إسرائيل أن تتخلى عنه وهى عازمة على استمرار هجماتها الوحشية فى غزة، بل وتصعيدها ببدء عملية برية فى رفح المكتظة بمليون وثلاثمائة ألف فلسطينى وفلسطينية، ولذلك سارعت ــ رغم تحذير أمريكى ــ بشن هجوم بالطائرات والصواريخ على موقع عسكرى ومطار بالقرب من أصفهان وعلى بعد كيلومترات قليلة من منشآت إيران النووية والصاروخية. لم تعلن رسميا عن هذا الهجوم وإن ذكرت ذلك المصادر الأمريكية، وتمنت أن تقوم الحكومة الإيرانية بالرد الفورى على ذلك حتى يبقى توصيف حملتها الوحشية ضد غزة على أنها صراع ضد الإسلام المتطرف.
وقد أدركت الحكومة الإيرانية فيما يبدو أهداف إسرائيل، ولذلك قللت من خطورة هذا الهجوم وأكدت أنها لن تقوم بالرد عليه. فلسطين حرة من النهر إلى البحر هناك طرف ثالث فى معركة التأطير والسرديات هذه لا يمكن تجاهله، فهو الذى أدى إلى هذا التغيير فى مواقف الدول الغربية من مساندة لما أسمته حق إسرائيل فى الدفاع عن نفسها إلى المطالبة بوقف إطلاق النار فى غزة، وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية لسكانها المحاصرين، وهو الرأى العام العالمى وخصوصا فى الدول الغربية.
الذى طرح تأطيره لهذا الصراع على أنه نضال من أجل حرية فلسطين، ليس بمعنى التخلص من الوجود البشرى لملايين من اليهود الإسرائيليين على نحو ما ذهب غلاة أنصار إسرائيل فى الكونجرس الأمريكى، وإنما كان معنى هذا الشعار لمن رفعوه فى مدن عديدة فى العالم بالولايات المتحدة وأوروبا هو تخلص فلسطين من المشروع الصهيونى العنصرى الإحلالى، وأن تصبح فلسطين وطنا حرا يعيش فيه اليهود والعرب مسلمين ومسيحيين كمواطنات ومواطنين على قدم المساواة، بل هو قريب مما كانت تدعو له حركة فتح فى سنواتها الأولى أن تكون فلسطين دولة علمانية ديمقراطية ثنائية القومية، بل وهو ما يدعو له من يرون أن حل القضية الفلسطينية هو فى وجود دولة واحدة بهذا الوصف بدلا من حل الدولتين الذين يرون استحالته.
وهكذا ربطت الحركة العالمية المناصرة للشعب الفلسطينى نضال الأخيرين بنضال شعوب الجنوب ضد الاستعمار وحركات التحرير الوطنية فى القارات الثلاث، ومثلما كانت هذه الحركات ترى فى العنف الثورى ضد محتل أجنبى عملا يستعيد الكرامة لمن فرضت عليه مهانة الاحتلال بكل أبعادها من عنف بدنى وتمييز عنصري، فلم تجد هذه التيارات فيما تقوم به المقاومة الفلسطينية سوى عمل مشروع يعيد للشعب الفلسطينى إحساسه بإنسانيته على النحو الذى أسهب فى شرحه فرانز فانون أبرز مفكرى حركات التحرير الوطنية.
صراع الأطر والسرديات هكذا يتواكب الصراع المسلح على أرض فلسطين مع صراع مواكب على كيفية تأطير هذا الصراع، وتعارض فى السرديات التى ينبع منها هذا التأطير بين طرف عنصرى يغطى على عنصريته باستجداء العطف وإثارة الإحساس بالذنب لدى أجيال لم تشارك فى اضطهاده، وبين طرف محتل يناضل لاستعادة كرامته ويستلهم القيم الإنسانية المشتركة
التعليقات مغلقة.