غزة، مقبرة المنظمات “الإنسانية” / الطاهر المعز
الطاهر المعز ( تونس ) – الجمعة 26/4/2024 م …
لقد دعمت حكومات الدّول الإمبريالية الحركة الصهيونية ثم الدولة الصهيونية التي قتلت عشرات الآلاف من الفلسطينيين والتي تستخدم الجوع كسلاح حرب منذ عدوان السابع من تشرين الأول/اكتوبر 2023، كما قتل الجيش الصهيوني نحو 120 من عمال الإغاثة في غزة، وقصف المستشفيات والمدارس ومخيمات اللاجئين، بالتوازي مع قرار الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة تصفية منظمة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين ( أنروا)، وكالة الأمم المتحدة التي تقوم بتطعيم وتغذية وعلاج وتعليم ملايين الفلسطينيين، شكّكت الدّول الإمبريالية في شرعية محكمة العدل الدولية وعرقلت تنفيذ القرارات التي تدين الدولة الصهيونية.
تمثل منظمات المساعدات الإنسانية غير الحكومية الوجه “الإنساني” للعولمة الليبرالية، لكن قادة هذه المنظمات هم “غربيون”، في حين أن العمال المرؤوسين (القاعديين) هم من الأفارقة أو الآسيويين، كما تُرافق المنظمات الإنسانية جيوش حلف شمال الأطلسي (ناتو) أثناء الحروب العدوانية في يوغسلافيا أو الصّومال أو أفغانستان والعراق وغيرها، ويتم تمويل هذه المنظمات المُسمّاة “غير حكومية” من قبل الدول الإمبريالية لتوزيع الغذاء على السكان ضحايا القصف الأمريكي والأوروبي، لكن يبدو إن الأمر تَغَيَّر ويبدو هذا التحالف هشا بشكل متزايد في غزة حيث منعت الدولة الصهيونية دخول الأدوية والغذاء وجميع أشكال المساعدات للفلسطينيين، في مخالفة واضحة وصريحة لما سُمِّيَ “القانون الدولي الإنساني” الذي وُلِدَ في حالات الحرب، منذ النّصف الثاني من القرن التّاسع عشر في شكل اتفاقيات غير مكتوبة، اكتملت بإنشاء الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948)، واتفاقيات جنيف (1949)، ومرة أخرى سنة 1990 مع انهيار الإتحاد السوفييتي وانهيار ميزان القوى الذي ولّدته الحرب العالمية الثانية والذي استمر لأكثر من 45 سنة، وبذلك أصبحت المساعدات الإنسانية رأس الحربة للقيم الليبرالية، منذ ما يزيد عن ثلاثة عُقُود، واعتمدت الدّعاية الرأسمالية على الإدعاء بأن الرأسمالية غير مُنْفَصِلَة عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، على الأقل من حيث المبدأ، أما من الناحية العملية، فإن العمل الإنساني لم يمنع الحروب ولا المجازر، لكنه أعطى الليبرالية وجها إنسانيا، وشكلا من أشكال الشرعية.
ربما يكون هذا التحالف الذي دام ثلاثين عاماً بين المساعدات الإنسانية والليبرالية على وشك الانتهاء، وقد يمثل العدوان الصهيوني الذي انطلق يوم السابع من تشرين الأول/اكتوبر 2023 نهاية حقبة اعتمدت فيها دعاية العولمة الليبرالية على المساعدات الإنسانية والمنظمات غير الحكومية ومنظمات الأمم المتحدة للادعاء بأن للإمبريالية وجه إنساني، فكان الإغلاق المُحكم لقطاع غزة ومحاصرة الفلسطينيين وتقتيل وتشريد أكبر نسبة منهم، وتجويع من بقي على قيد الحياة، ومنع علاج المُصابين…
أصبحت “الديمقراطيات الغربية” تتبرّأ من المنظمات الإنسانية، وتَخَلّتْ بالتالي عن حلفائها القدامى وعن “الدعم الفني” الذي تقدّمه لها (التقارير والمعلومات والحالة النفسية للسكان المحليين…) وسوف يتعين على المنظمات غير الحكومية أن تعيد النّظر في طبيعة عملها خارج نطاق الليبرالية حتى تتمكن من إدامة عملها الإنساني ومواجهة التحديات الجديدة، سواء كانت سياسية أو بيئية أو ديموغرافية، ولكن من سيمول أعمالها ورواتب قادتها المرتفعة للغاية، لأنها، لحد الآن، تعتمد على الموارد التي تُقدّمها حكومات الدّول الإمبريالية…
كانت الدّول الإمبريالية تُدين أنظمة الحكم في الصين وروسيا وإيران وكوبا وفنزويلا وغيرها بذريعة قمع الحُرّيّات وعدم توفّر الديمقراطية وعدم احترام حقوق الأنسان، غير إن حكومات هذه الدّول الإمبريالية تَقْمَعُ كافة أشكال الإحتجاج على العدوان الصهيوني وكافة أشكال التّضامن مع الشعب الفلسطيني وأي صوت يُطالب حتى بوقف إطلاق النّار، ومنعت المظاهرات والإعتصامات وعلّقت حرية التعبير، كما يبدو إن الرأسمالية النيوليبرالية لم تعد بحاجة إلى المنظمات الإنسانية بالشكل الذي عرفناه منذ الحرب العالمية الثانية أو منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، ولم تعد هناك أي قوة مضادة للرأسمالية التي كشفت عن أَشَدِّ أشكالها عدوانية، فقد أثبت العدوان الصهيوني أن هذه القوة المضادة للرأسمالية ربما تكون في طور البناء، لكنها ليست فعالة أو جاهزة للعمل بعد، وعلينا بناؤها…
التعليقات مغلقة.