ماذا يعني البحر لأهل غزّة؟ / حسام معروف
إنّه صورة غزّة الساحرة التي يتمنّى الجميع أن يطلّ عليها من منزله. ولأهل المدينة مع البحر طقوس لا يمكن إغفالها، وضحكات رشيقة كانت تعلو على الدوام أمام ذلك المتنفس للمدينة الجريحة. فمن في غزّة لم يدفن ثمرة البطّيخ في رمل البحر، لتخرج باردة ثمّ تؤكل بعد السباحة مع الزعتر البلديّ والخبز؟ ومن في غزّة لم يشعر يوماً بجمال الجلسات الصباحيّة الممتلئة بالضحك واللعب وصوت الأطفال المتعالي، أو بجلسات الغروب والليل وهو يعيد الإنسان إلى مراقبة الحياة في داخله.
صحيح أنّ البحر هو الشيء الوحيد الذي لم يستطع الاحتلال إبادته. فظلّ الشاهد على سلامة المكان وماضيه، وظلّ مكانه محفوظاً عند كثيرين من أهل غزّة. لكن على الرّغم من ثباته، قد يفقد معاني كثيرة خلال الحرب عند غزيّين آخرين، بعد أن صار مكان غرق اللاهثين وراء المساعدات ومكان الشرب بعد قطع المياه، وبعد أن شوهد شارع الرّشيد المطلّ على البحر وهو يُمسح على بكرة أبيه.
هل غيّرت الحرب معنى البحر؟
يجلس نادر الخولي (33 عاماً)، النازح من غزّة إلى رفح، على هيكل ثلاجة قديمة أمام البحر. يدخّن لفافات من التبغ الشاميّ الرديء الذي لجأ إليه حاله كحال مدخّني غزة، بسبب الغلاء الجنوني للسجائر في القطاع خلال الحرب. يقول لرصيف22: “في غزة لديّ شرفة تطل على البحر. تمّ تفجيرها من قبل الجنود الإسرائيليين أعداء الحياة”. ويردف: “لا أستطيع إلى الآن أن أصدّق ما حدث من زلزلة لحياتنا. أفكر كثيراً في حذف بعض التفاصيل من المشهد، بحيث أستطيع استيعاب ما يحدث. لكنّي أفشل في كلّ مرة، وأعود خائباً إلى خيمتي المقرفة. لقد هدم الاحتلال حياة كاملة كنت أعيشها أمام البحر”.
أمّا بالنسبة لأمّ محمّد المدهون (47 عاماً)، فالبحر أصبح مصدر خوف وحيرة. “حين آتي إليه أتذكّر الكثير من الأشياء السيئة في حياتي. أشعر بأنه يكاد يبتلعني. فيما كنت أشعر قبل الحرب بالفرح كلّما ذهبت إليه وجلست أمامه. فهو ذاكرة طفولتي التي ما زلت أتشبّث بها”، تقول أمّ محمّد لرصيف22.
وتتابع: “أسوأ لحظة بالنسبة لي مع البحر، حينما أتيت مع زوجي عند بداية النزوح، لتعبئة الماء في ظل انقطاع المياه المستمر. شعرت يومها بالقهر. فكل شيء في حياتنا صار مالحاً بسبب الحرب”.
أسوأ لحظة بالنسبة لي مع البحر، حينما أتيت مع زوجي عند بداية النزوح، لتعبئة الماء في ظل انقطاع المياه المستمر. شعرت يومها بالقهر. فكل شيء في حياتنا صار مالحاً بسبب الحرب
حين شاهدت أمّ محمّد الرّجال يلاحقون المساعدات المتساقطة من المظلّات ويغرقون في بحر غزّة، شعرت بأنّ العالم لا يريد لغزّة الحياة، وأنّ الجميع تواطأ في إذلال الإنسان في غزّة. “في لحظة واحدة، صار البحر الذي أحبّ عبئاً آخر يمنع عن الناس أبسط الحقوق”.
لا تختلف حسرة أمّ محمّد عن حسرة خلود السيد أحمد (40 عاماً) النازحة من شرق غزة إلى رفح. “أعلم أنّي لو مشيت نحو بحر غزة، على طول الشريط الساحليّ، فسأجد جنوداً جهلاء يمنعونني، وربّما يقتلونني لأنّني أريد أن أشق طريقي نحو بحر غزة الذي أحبّ”، تقول. مضيفةً: “يكره الاحتلال الحياة كما يكره الحقّ. ويدفن صاحب الأرض كي يخفي شيئاً داخله، ألا وهو فعل السّرقة لهذه الأرض”.
ويرى خليل المدهون (56 عاماً) أنّ العلاقة مع البحر متجدّدة، فهو جزء من الطبيعة. ولا فارق لديه بين بحر رفح وبحر غزة، فالإنسان هو من يصنع القيمة للأماكن. يقول خليل: “كنت أسافر كلّ يوم على طول الشريط الساحلي، وأرى كيف أنّ الناس متعلّقة بالبحر. وحزنت حين جرف الاحتلال شارع الرشيد وهدم مبانيه. لكن بالنسبة لي شخصيّاً، يلفتني البحر وليس محيطه المدنيّ”.
كان البحر رئتهم الثالثة
كان بحر غزّة يصنع للمارّين من أمامه وللقاطنين على امتداده مخيّلةً تجعل من المدينة، البقعة الضيّقة والمحاصرة، المكان الأكثر رحابة في العالم. “كان بحر غزّة قبل الحرب رئتي الثالثة. أذهب إلى هناك لأستعيد توازني مع الحياة حين أفقده وسط ضجيجها”، تقول النازحة أروى العسلي (28 عاماً) لرصيف22.
تركت أروى الأصوات الضاجّة بالقرب من دوار العلم غرب مدينة رفح، ومنطقة الطيارة التي تحيطها، والتي تعتبر الآن المنطقة الأكثر كثافة في العالم. وذهبت إلى بحر رفح العامر بالزوارق الحربية الإسرائيليّة. فالقليل من السكان يرتادونه، خوفا من نيران تلك الزوارق.
كان بحر غزّة يصنع للمارّين من أمامه وللقاطنين على امتداده مخيّلةً تجعل من المدينة، البقعة الضيّقة والمحاصرة، المكان الأكثر رحابة في العالم
“جئت هنا هرباً من أصوات السّوق والنازحين المتراصّين مشياً على الأقدام في محيط خيمتي. هربت إلى هنا، المكان الوحيد الذي يشبه غزة، بحر رفح. جئت هنا لأستعيد بحر غزّة داخلي”، تقول أروى.
كذلك الأمر بالنسبة لنادر، الذي كانت شرفته المطلة على بحر غزة بمثابة جلسة أنس مع العالم. “أقضي معظم وقتي مع صديقيّ. ثم جاءت الحرب لتقتصّ الجزء الأجمل في حياتي، فقدت أحدهما في الحرب. والمكان الذي لطالما جمعنا بالبحر لم يعد موجوداً ولا يمكنني الوصول إليه”، يؤكّد نادر ويردف: “حين آتي إلى بحر رفح، آتي للبكاء وحيداً، وأتذكر صديقيّ. أحدهما غادر غزة، والآخر غادر الحياة، ولم يبق لي إلا هذا البحر. شيئ ما يشبه بحر البلاد التي هجّرت منها قسرا”.
يضيف نادر: “ما يؤلمني أنني لم أرد من الحياة سوى شكلها التقليديّ الهادئ. ولم أكن يوماً طامعاً بالكثير، بل بمجرّد جلسة هادئة بعد يوم عمل متعب أمام البحر. لكن يبدو أن هذا الحلم كثير على الغزيين في نظر الاحتلال”.
هو ذاكرة الغزيّين
لقد حمل بحر غزة، وعلى امتداده، ذاكرة سياحيّة للسكان والوافدين إليها، وشخصيّة وحميمة لأهل غزّة أنفسهم. وكأن الحياة بأسرها كانت تقيم على ساحل المدينة العريقة، التي تتعرض الآن لأقسى أنماط المسح والإبادة.
ولأن المواقف قبالة البحر تبدو أكثر عمقاً وتقرباً للذات، فكان الناس في غزة يعرفون كلّ الناس، لأن لجميعهم مواقف متشابكة أمام البحر. لا تشتبك هذه الذاكرة مع الأحياء وحسب، بل مع الأموات أيضاً. فحتّى من أراد أن يستعيد ذاكرة شخصيّةً مع شخص غادر الحياة، يذهب إلى البحر. فالبحر في غزة أولى في استعادة الأموات من المقبرة.
تقول خلود: “كان لي ابن كفيف آتي به إلى البحر. كان يحب صوته ويعشق ملامسة الرذاذ لوجهه. كان البحر صديقه المفضّل. لكنّه غادر الحياة لعدم توفر الرعاية الصحية منذ بداية الحرب. أبعدني الاحتلال عن المكان الذي خلقت فيه مع ابني معنى الألفة، وأبعدني عن كلّ ما أحبّه في حياتي. بقيت وحيدة رغم كثرة النّاس من حولي”.
حين آتي إلى بحر رفح، آتي للبكاء وحيداً، وأتذكر صديقيّ. أحدهما غادر غزة، والآخر غادر الحياة، ولم يبق لي إلا هذا البحر
لكن بالرّغم من تجربتها القاسية، تشعر خلود أنّ البحر هو البلاد كلها، كما تقول. “غزة التي أحبّ، هي كلّها فيه. تظهر طبيعتي الهادئة المتأملة وأنا أقف أمامه. حتّى صوت ابني الراحل يحمله البحر ويقدمه لي هدية كلّما جئت له”.
كذلك الأمر بالنسبة لأروى، التي تُعجن الذاكرة الجميلة بالحزينة عند التفكّر بمعنى البحر، تقول: “أتذكر يوم نجحت في التوجيهي وحصلت على معدل امتياز، فاجأني أبي في أحد الفنادق على بحر غزة باحتفال لا يمكن أن أنساه. كان الحضن الذي نلته من أبي آنذاك، أمام بحر غزّة، يحمل نكهة ومشاعر مختلفة”.
وتضيف: “أشعر بدفء ذلك الحضن حتّى اليوم، بعد أن غادر أبي العالم. أذهب إلى البحر كي أستعيده. والآن، حرمني الاحتلال البغيض من تلك القصة الجميلة مع مكاني المفضّل، بحر غزّة وحضن أبي”.
انزعج الإسرائيليّون قبل أيّام من مشهد توافد الغزيين إلى شواطئ بحرهم. منهم وزير الأمن القوميّ إيتمار بن غفير الذي فسّر الصّورة على أنّها نتيجة للّطف العسكريّ الإسرائيليّ. هؤلاء، الذين يريدون أن ينزعوا من الفلسطينيّ سيادته على مكانه، لا يعرفون أنّ البحر لا يعني بالنسبة للغزيّين مكاناً للاستجمام وحسب، إنّه رئتهم الثالثة التي تتنفّس فرحاً وحزناً في آن واحد.
كانت الرّحلة الأجمل في غزّة، قبل الحرب، هي إلى البحر. والسفر الأجمل نحو الجنوب أو نحو مصر هو السّفر قرب البحر على الشريط الساحليّ. وربّما لم تكن غزّة بهذا الجمال لولا البحر. كان المشهد الأوّل الذي اهتزّ أمامه بدني في الطفولة. كان الدهشة الأولى التي لا يزال أثرها حيّاً كلّما رأيته.