غزّة والجامعات.. عندما يكون الافشال غاية ومعيارا وحيدا للنجاح ! / كمال ميرزا
كمال ميرزا ( الأردن ) – السبت 27/4/2024 م …
خلال الأسبوعين الماضيين تداولتْ المواقع الإخبارية تغطيات ومقالات تتحدث عن التراجع الكبير للأردن ضمن التصنيفات العالمية لجودة التعليم.
ومع اندلاع مظاهرات الطلاب في الجامعات الأميركية ضد حرب الإبادة والتهجير التي يشنها الكيان الصهيوني الغاصب على أهالي غزّة بدعم أميركي مفتوح، سرتْ عبر الفضاء التواصلي إدراجات ومشاركات على غرار: أين هي جامعاتنا؟ أين هم طلابنا؟ أين هم أكاديميونا؟
الحدثان أعلاه كانا مناسبة مواتية لبعض الخبراء والمعنيين لفتح ملف التعليم بشقيه المدرسيّ والجامعيّ في الأردن، والدعوة إلى دقّ ناقوس الخطر، وإجراء مراجعات جذريّة، ومحاسبة المسؤولين عن الواقع المزري الذي وصلنا إليه.. بعد أن كان الأردن مضرب مثل إقليميّاً وعالميّاً في مجال التربية والتعليم والاستثمار في الإنسان باعتباره “أغلى ما نملك”!
المشكلة في هذه الدعوات أنّها تنظر إلى تراجع جودة التعليم، وإلى حالة الموات التي يعاني منها الجسدين الطلابي والأكاديمي تجاه القضايا الوطنية والقومية الكبرى.. باعتبارهما مؤشران على الإخفاق والفشل، في حين أنّ هذا التراجع وهذا الموات هما مؤشران على النجاح، بل هو نجاح منقطع النظير يستحق القائمون عليه الإشادة والحفاوة والتكريم!
أنت تفشل عندما تضع لنفسك غايات وأهدافاً مأمولة ثمّ تخفق في بلوغها، ولكن عندما يكون الفشل هو الغاية التي تسعى لتحقيقها فإنّ فشلك هو عين نجاحك!
وبالنسبة لأي شخص عايش الحالة من الداخل، ويمتلك الحدّ الأدنى المطلوب من المعرفة العلمية الموضوعية والصادقة و”النزيهة” في مجال التربية والتعليم، فإنّه لا يحتاج إلى مجهود خارق أو عبقرية فذّة كي يصل إلى خلاصة مفادها أنّ السياسات التربوية والتعليمية التي تمّ تطبيقها على مدار العشرين سنة الماضية قد كانت وصفة “مثالية” لتخريب وتقويض وتفكيك وتسييل واحتواء واخضاع وتحييد و”تبلييد” القطاع التعليمي تربويّاً ومعرفيّاً!
والذي يستثير السخرية والأسى في آن واحد، أنّ هذا التدمير الممنهج لقطاعي المدارس والجامعات قد جرى ويجري باسم التطوير والتحديث وتشجيع الريادة والابتكار والتفكير الناقد ومواكبة روح العصر!
وكما هو الحال في بقية القطاعات الوطنية التي شهدت تراجعاً وتقهقراً خلال العقدين الماضيين، فإنّ هناك توليفة مركبة ومتداخلة من العوامل التي تظافرت معاً من أجل خلق حالة الإفشال المُمنهج التي تعرض لها القطاع التعليمي..
فمن استحقاقات “خيار السلام”.. إلى استحقاقات الخصخصة وتحرير الأسواق.. إلى أجندات الدول المانحة ومنظمات المجتمع المدني المُموّلة خارجيّاً.. إلى ذلك التزاوج الحاصل بين السلطة ورأس المال.. إلى ظهور تلك الطبقة الطفيلية من أرباب المال والأعمال الذين يرون في كلّ شيء موضوعاً ومادةً للفرصة الاستثمارية و”البزنس” والتكييش.. إلى تلك السياسة المجرّبة والمضمونة النتائج: وضع الشخص “غير المناسب” في المكان المناسب!
إلا أنّ العامل الحاسم في ذلك كلّه كان “السطوة الأمنيّة”، والتي هي بدورها مظهر لهيمنة مفهوم الأمن بمعناه البوليسي المباشر على عقلية صانع القرار، وذلك عوضاً عن الأمن بمفهومه الشامل الذي تعتبر المعرفة والثقافة والوعي جزءاً لا يتجزّأ منه.
في حالة المدارس على سبيل المثال، فلقد رأينا كيف تبدّت العقليّة الأمنيّة جليّاً في أسلوب التعامل مع مسألة “نقابة المعلمين”، الأمر الذي وصل حدّ محاولة شيطنة المعلمين وتخوينهم، وتأليب أبناء المجتمع الواحد على بعضهم البعض عبر التجييش ضد إحدى الشرائح الاجتماعية القليلة التي ما تزال تحتفظ بالحدّ الأدنى من احترامها وقيمتها ورمزيّتها في المجتمع.
وطبعاً لا يخفى أنّ أسلوب الشيطنة والتخوين والتأليب والتجييش قد أصبح نمطاً متواتراً تلجأ إليه السلطات في مجالات أخرى وسياقات أخرى أينما شعرت باهتزاز موقفها وتهافت منطقها وضعف حجّتها.
وفي حالة الجامعات فتتجلّى السطوة الأمنيّة أكثر ما تتجلّى من خلال التعيينات الجامعية، خاصة في الجامعات الحكومية، مشفوعةً بشوفينيّة عشائريّة وجهويّة متطرّفة غير مسبوقة، الأمر الذي جعل الجامعات مرتعاً لـ “حملة كراتين” …. ويُغطّون ضعفهم الأكاديمي …بالإغداق على الطلاب بعلامات لا يستحقونها، وبمزيد من التسحيج والتزلّف والمزاودة والمكر والدسائس والشلليّة والاستقواء بعزوتهم وشبكة معارفهم وارتباطاتهم الأمنيّة.
وفي الجامعات الخاصة يُضاف إلى السطوة الأمنيّة والجهويّة عامل ثالث هو “الدكاكينيّة”، بمعنى أن تكون محسوباً على فلان أو علتان من كبار حملة الأسهم والحصص ….!
طبعاً تفكيك قطاع التعليم كما نعرفه هو جزء من سياق أكبر لتفكيك الدولة والعقد الاجتماعي الذي قامت عليه، وهذا التفكيك الممنهج للدولة هو بدوره جزء من سياق كوكبي عام وشامل لا يستثني دولةً من الدول، ويرتبط بالطور الحالي الذي يمرّ به النظام الرأسمالي العالمي، والإيغال في حقبة العولمة واقتصاد الخدمات والاقتصاد المالي، وإعادة تعريف الدولة وسيادتها وسلطتها والأدوار المتوقعة منها والوظائف المنوطة بها لصالح حُكْم الشركات والبنوك والصناديق السياديّة ضد الشرائح الاجتماعية القليلة التي ما تزال تحتفظ بالحدّ الأدنى من احترامها وقيمتها ورمزيّتها في المجتمع.
منذ القدم، وكـ “فطرة” إنسانية تشترك بها جميع الأمم والثقافات والحضارات، كان هناك رابط لا ينفصم بين العلم والحكمة والأخلاق، وكان المُعلِّم هو في نفس الوقت المؤدِّب، وكانت الغاية من التعلّم ليس فقط اكتساب المعرفة، بل قبل ذلك صياغة الوجدان والضمير والشخصية وإكساب الطالب الخلق القويم والسلوك السليم وصقل سجاياه وخصاله.
وكان يستوي في ذلك عِلية القوم وعوامهم، بل إنّ عملية التأديب التي يخضع لها أبناء عِلية القوم كانت أكثر تطلّباً وصرامةً من بقية أقرانهم.
وأيامها لم يكن هناك مجال لإطلاق وصف “عالم” على أي شخص يفتقر لمكارم الأخلاق أو متهتك أو وضيع أو خسيس أو “سقيطة”.. مهما بلغ هذا الشخص من العلم والمعرفة والحنكة!
ومع ظهور النظام التعليمي بشكله المؤسسي الحديث بالتزامن مع ظهور ما تسمّى “الحداثة الغربية”، بقيت المهمة الأساسية للنظام التعليمي هي “التربية”، ولكن ليس التربية بمفهومها “التقليدي”، ولكن التربية بمعنى إعداد المواطن الصالح.
فالفَرَض الأساسي الذي يقوم عليه مشروع الحداثة هو أنّ تحقيق الحرية والعدالة والمساواة يكون من خلال حكم الناس لأنفسهم عبر الديمقراطية، وحتى تؤتي الديمقراطية أُكلها ينبغي أن يكون المواطن متعلّماً واعياً منتمياً صاحب وازع بكونه هو من سيختار أولئك الذين سينوبون عنه في تولّي الحكم ويراقب أداءهم ويقيّمهم، أو في حال ترشّحه هو وتوليه مقاليد السلطة وزمام المسؤولية.
ولكن مع تغوّل ما هو اقتصادي على ما هو سياسي بحيث أصبح الثاني قُفّازاً للأول، وهيمنة مرجعية المصنع والسوق، وسيادة قيم التنافس حدّ التناحر والصراع والدارونيّة الاجتماعيّة بمعناها الماديّ الفَجّ.. أصبح المواطن المتعلّم الواعي المنتمي صاحب الوازع نموذجاً مذموماً، وعائقاّ أمام “التقدّم” و”النمو” ومراكمة الأرباح والفوائض بلا حدود، وتهديداً للسلطة النائمة في حضن رأس المال!
فالمواطن المتعلّم الواعي المنتمي صاحب الوازع لن يرضى بمظاهر الاغتراب والاستلاب والظلم وانعدام العدالة في الفرص والتوزيع..
ولن يرضى باستغلال العامل، واستعباده، والقضم المطّرد لدخله وحقوقه وأمنه الوظيفي والمعاشي واستقراره النفسيّ..
ولن يرضى بازدياد الفجوة بين القلّة التي تمتلك وتحتكر المصالح والامتيازات في أعلى الهرم، والأكثرية التي لا تملك وتكاد لا تجدّ ما يسدّ رمقها وحاجتها الأساسية في قاع الهرم..
ولن يرضى ببيع ثروات الأوطان ومقدّراتها والتفريط بالمُلكيّة العامّة بذريعة الخصخصة وتشجيع الاستثمار..
ولن يرضى بأن تتحوّل حقوق الرفاه المنصوص عليها في الدستور باعتباره العقد الاجتماعي الذي ينظّم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، كالحق بالتعليم والعمل والصحة والسكن والعلاج والنقل.. الخ، أن تتحول جميعها إلى سلع وخدمات تباع بيعاً، وتخضع لشروط السوق وقوانينه وعلاقاته غير المتكافئة، وتحويل النذر اليسير مما تبقّى منها بيد السلطة إلى هبات وعطايا توزّع لشراء الولاءات أو كمكافآت للمقرّبين والمحاسيب..
ولن يرضى بأن يتم تفكيك أجهزة الدولة البيروقراطية بذريعة التطوير والتحديث وإعادة الهيكلة والأتمتة والرقمنة والدفع الإلكتروني والتحوّل، ووضعها بيد مشغّلين ومزودي خدمات من القطاع الخاص لا تُعرف حقيقة انتماءاتهم وارتباطاتهم وامتداداتهم..
ولن يرضى بأن يتحوّل القطاع التعليمي إلى مجال آخر من مجالات إعادة إنتاج الفرز الطبقي والفوارق الطبقية، واحتكار الأقلية لـ “رأس المال الثقافي” بما يمكّنها من ممارسة “العنف الرمزي” على بقية فئات المجتمع..
ولن يرضى بالممارسات الاستعمارية الاستيطانية الإحلالية، سواء تلك التي تمارسها دولته، أو تلك التي تُمارَس على دولته وأمّته..
ولن يرضى بالغزو الثقافي، وسريان المعلومات باتجاه واحد، واختزال المجال العام في فضاء تواصلي يتحكّم به حراس البوابة والقابضين على “كبسة التشغيل”، وإعادة تعريف الذات الوطنية والقومية والدينية وفق شرط الآخر ومتطلبات هيمنته ونفوذه..
ولن يرضى بالتطبيع، سواء التطبيع بمعناه المباشر، أي تطبيع مختلف مظاهر الشذوذ الجنسي والأخلاقي في المجتمع، أو التطبيع بمفهومه الواسع، أي تطبيع العلاقات السياسية والاقتصادية مع أعداء الوطن والأمّة والدين وما ينبثق عن ذلك من مشاريع وترتيبات وتفاهمات..
وعليه، أصبح هذا المواطن المتعلّم الواعي المنتمي صاحب الوازع بين ليلة وضحاها بمثابة المارق الجاحد المندس صاحب الأجندة.. وحتى “الإرهابي”، وأصبح هناك حاجة مُلحّة إلى إعادة تعريف النظام التعليمي ووظيفته كجزء من الإجراءات الكثيرة والمتزامنة التي تمّ اتخاذها من أجل الحدّ من خطورة هذا المواطن “النمرود”!
وهكذا، أصبحت مهمة النظام التعليمي في عصر العولمة وتحرير التجارة والثورة الرقمية هي فقط إعداد مؤهّلين للانخراط في سوق العمل، وذلك تحت ذلك الشعار البرّاق الذي يردّده الجميع كالببغاوات وكأنّه تميمة أو تعويذة مقدّسة: “ربط مخرجات التعليم بمتطلبات سوق العمل”.. متغافلين ومتعامين عن حجم الخطورة والدمار التي تنضوي عليها هذه العبارة المسمومة!
وأصبح المطلوب هو تخريج “أسطوات” يمتلكون الحدّ الأدنى من المهارات التطبيقية بما يكفي لانخراطهم في سوق العمل على عواهله وبحالته القائمة.. وليس تخريج “علماء” حقيقيين يمتلكون علماً حقيقيّاً ووافيّاً يمكّنهم من كسر ذلك الاحتكار الحاصل للمعرفة من قبل الشركات ومالكي حقوق الملكية الفكرية (أو الـ know how)، واتخاذ موقف نقديّ تجاه السوق وقوانيه وأنظمته وعملياته وسلوكياته “الاحترافية” السائدة أو المفروضة، واتخاذ موقف أخلاقي تجاه الظلم والاستغلال الوظيفيين اللذين يتعرّض لهما العامل بسيف القوانين والتشريعات والأمر الواقع وضرورات العيش ومتطلبات الحياة وإعادة الموضعة العالمية لسوق العمل!
بكلمات أخرى، أصبح الإنسان أحادي البُعد المادي الاقتصادي الشهواني الجسماني البرجماتي الذرائعي الأداتي البيروقراطي، الذي ينفّذ ما يصدر إليه من أوامر وتعليمات بشكل ميكانيكيّ آليّ دون اعتراض ودون أن يستفهم أو يطرح أسئلة أخلاقية كبرى، والذي لا يتواني عن التغرير بزملائه وأقرانه والصعود على أكتافهم أملاً بالارتقاء الوظيفي والاقتصادي أو مجرد نيل “الرضا”.. أصبح هذا الإنسان هو بمثابة النموذج المطلوب للمواطن المثالي الذي يسعى النظام التعليمي وغير التعليمي إلى إنتاجه وتربيته وتكريسه!
عندما كنّا يافعين، كان هناك قوس حديديّ يعلو البوابة الكبيرة للمدرسة الإعداديّة التي كنّا ندرس فيها، وعلى هذا القوس كُتبتْ عبارة بتخطيط عربيّ جميل مقتبسة عن إحدى خطب الملك الراحل الحسين بن طلال:
“التربية هي الإعداد للحياة، بل هي الحياة نفسها”!
والعبارة بدورها مُستلهمة من إحدى مقولات “جون ديوي” أحد كبار فلاسفة التربية والتعليم خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين.
ما حدث ببساطة خلال السنوات الأخيرة أنّه قد تم تحوير العبارة أعلاه، وبدلاً من “التربية” أصبحت “الفهلوة” و”الشطارة” و”استغلال الفرص” والاستعداد للقيام بأي شيء بأي ثمن.. هي الإعداد للحياة، بل هي الحياة نفسها!
التعليقات مغلقة.