حلب والسلطان.. سقط القناع / محمد نور الدين

 

محمد نور الدين ( السبت ) 3/12/2016 م …

تقصد الرئيس التركي رجب طيب اردوغان أن يكون موعد دخول قواته إلى سوريا قبل ثلاثة أشهر في اليوم نفسه الذي حصلت فيه معركة مرج دابق في 24 آب من العام 1516.

كانت كل محمولات التاريخ تسكن قراره ذاك. لكن بعد ثلاثة أشهر على هذا التدخل، كان اردوغان يفجّر المفاجأة التي كانت مرئية عشية 24 آب، وهي الهدف الأساسي من دخوله إلى جرابلس وسوريا عموماً.

لقد أراد اردوغان بقرار التدخّل وبتوقيته ان يكون سلطاناً سليماً ثانياً يُكرّر التاريخ ويحيي ما فقده أجداده قبل مئة عام، عندما خرج جمال باشا السفاح ذليلاً على يد قوات الحلفاء المنتصرة في العام 1918.

لكن المفارقة أن المسكون بالتاريخ لم يقرأ عِبَرَهُ ودروسَهُ، وهو أن الحادثة تقع مرة واحدة ولا تتكرّر.

لم يستطع اردوغان تكرار دور السلطان سليم الأول، ولم يأخذ بشار الأسد دور السلطان قانصوه الغوري. انهزم السلطان المملوكي أمام جحافل العثمانيين. لكن سوريا وحلفاءها أمسكوا عصا التاريخ وقلبوها، لتكون النتيجة نصراً على إحدى أعتى الهجمات عبر التاريخ التي تعرّضت لها حلب، وأحالتها إلى دمار بفضل المغول والتتار والأويغور والشيشان الجدد الآتين من بلاد الأناضول التي تحوّلت إلى قاعدة للإرهاب والعدوان والفتنة ضدّ أبناء حلب وسوريا وبلاد الشام الأصليين والأصيلين.

لقد فعلت تركيا كل ما بوسعها منذ بدء الأزمة لكي تسقط حلب أولاً ومن ثم دمشق. كان كل هدف اردوغان إسقاط حلب أولاً لتكون بنغازي سوريا. ومنها ينطلق إلى دمشق ليصلي في الجامع الأموي. كان يُكرّر القول ويشدد: «أبقوا العين على حلب». استخدم اردوغان ووظّف كل طاقته ومخزونه الميداني والفكري والتاريخي لكي يصوب على حلب ويحشد لها. كان يعرف أن حلب هي التي تُقرّر وتحسم الحرب السورية. كان يعرف أنها كانت، بعد اسطنبول العاصمة، الولاية الأهم في الدولة العثمانية. كانت حلب مخزن ضرائب وثروات السلطنة التي كانوا ينفقونها على مجونهم، وكانت عقدة المواصلات جنوباً شمالاً وشرقاً غرباً. كانت عاصمة طريق الحرير ومنطلقها.

تكسّرت أوهام اردوغان، فكان اللجوء إلى المخزون التاريخي الذي أفرغه دفعة واحدة عندما أراد أن يُبرّر غزوة جرابلس بالقول إن حدود تركيا هي حدود الميثاق الملّلي. أي تلك الحدود التي تُشكّل كل شمال سوريا وكل شمال العراق وصولاً إلى كركوك وبما فيها الموصل.

أفرغ اردوغان آخر مخزونه التاريخي بموازاة إفراغ آخر مخزونه العسكري. لم يعد وكلاؤه قادرين على تنفيذ أجندته المُكْلِفَةِ عليهم وعلى تركيا. دفع اردوغان بآلاف المُقاتلين إلى التهلكة موجة وراء موجة، لكي يُحْدِثوا تغييراً في الخريطة الميدانية فلم ينجحوا.

فكان القرار بنزول الأصيل إلى الأرض، والتدخّل العسكري المُباشر في سوريا في 24 آب الماضي. كان قراراً بقدر ما يحمل من الجرأة بقدر ما يحمل من المغامرة.

حاول اردوغان حينها أن يُغطّي على أهدافه من التدخل العسكري. تذرّع بـ «داعش» وببضعة صواريخ أطلقت من مناطقها على مدينة كيليس. قال إنه ذاهب ليُنظّف المنطقة من «داعش»، فيما الكل يعرف أن علاقة تركيا بـ «داعش» هي مثل تداخل الظفر باللحم.

ومن ثم قال إنه سينزل جنوباً لقطع أي إمكانية لوصل الأكراد لممرهم بين عين العرب (كوباني) وبين عفرين.

وقبل أيام كان يُريد أن يصل بقواته إلى مدينة الباب. كان يُريد التغطية على تقدّمه وتوفير النجاح له، بحشد الآلاف من المُقاتلين للهجوم على حلب موجة بعد موجة، ليشغل الجيش السوري وحلفاءه هناك، فتسقط الباب لقمة سائغة بيده، وليكون على تماس مباشر مع الجيش السوري ويُهدّد، إذا تمكّن من ذلك، حلب نفسها ويفرض طوقاً على طوق.

لكن الظروف الميدانية فاجأت اردوغان. دفعت روسيا حلفاءها أولاً إلى تأمين خاصرة حلب الغربية في ضاحية الأسد وغربها بحيث لا تعود المدينة مهددة باختراق من الغرب. ومن ثم تفرّغ الجيش السوري لاسترجاع الأحياء الشرقية من حلب التي نجح في استرداد نصفها حتى الآن ولا يزال يُواصل عمله. حلب الآن بحكم الساقطة عسكريا ولا تنتظر سوى بعض الوقت.

لكن الأهم أن من أكبر نتائج معركة استعادة حلب كاملة أنها وجّهت ضربة قاصمة إلى الأجندة التركية في سوريا.

منذ اللحظة الأولى، قلنا إن تركيا لم تدخل جرابلس وسوريا لكي تُحارب «داعش» ولا حتى لكي تقطع الممر الكردي. كانت تُريد رأس النظام وتطوير عملية متدحرجة لتكون سكيناً ضاغطاً على عنق حلب.

لذلك، فإنه عند سؤال المسؤولين الأتراك عن المدى الذي سيذهبون إليه في عمليتهم العسكرية كان الجواب مفتوحاً: إلى الباب وإلى منبج وإلى شرق الفرات وإلى الرقة وإلى عفرين. لم يكن هناك حدود للتوسّع التركي. كان اردوغان يقول إنه سيصل إلى آخر نقطة وصل إليها، على ظهر الحصان، السلطان سليمان القانوني.

اتبع اردوغان سياسة المواربة والنكث بالوعود. كان يتقدّم خطوة خطوة نحو حلب. لكن عندما لامس الخطوط الحمر في الإعلان أنه سيحتلّ الباب، كان يتجاوز كل الخطوط الحمر، وكان بذلك يُوقظ سوريا وحلفاءها على الخطر التركي المتمادي.

من هنا، كانت الغارة السورية على الجنود الأتراك في قرية الكفيرة شمال غرب الباب وقتل ثلاثة جنود أتراك، نقطة التحوّل في مسار المُواجهة بين دمشق وحلفائها من جهة وبين تركيا من جهة أخرى.

استنفرت تركيا واتصل اردوغان بنظيره الروسي فلاديمير بوتين وتحادث معه حتى الآن مرتين، وهرع وزير الخارجية التركي مولود جاويش اوغلو ورئيس الاستخبارات حقان فيدان إلى طهران.

لم تتوقّع تركيا ردّة الفعل السورية. لكنها أدركت أن المغامرة في سوريا قد انتهت، لذا التزمت بعدم التقدم نحو الباب. وبعد ذلك، جاء انهيار المسلحين المدعومين من تركيا ودول إقليمية أخرى في حلب الشرقية. ومع كل حيّ كان يسقط في حلب الشرقية، كانت تسقط ورقة من شجرة الأطماع التركية.

لا يُحسد اردوغان على وضعه الميداني، فهو لا يستطيع التقدّم وتحوّل إلى عدو ومحتلّ يتوجّب، بتعبير نائب وزير الخارجية السوري فيصل المقداد، طرده. لن يُحاول اردوغان الانسحاب الفوري لأن الانسحاب سيعكس هزيمة صريحة، لكن بقاءه من دون تحقيق تقدّم سيعكس مأزقاً يُعرّض جنوده للاستنزاف. ويزداد مأزق اردوغان عندما ينظر إلى التطوّرات في العراق أيضا حيث نجح العراقيون في تكبيل الحركة التركية ومنع تدخّلها في حرب تحرير الموصل كما في منع عرقلة التقدّم نحو تلعفر.

في ظلّ هذا المناخ المأساوي للسياسة التركية، كان اردوغان يخرج ويُعلن للمرة الأولى بهذا الوضوح والانفعال: «لقد صبرنا وصبرنا وصبرنا ولم نعد نتحمّل. أردنا أن تعود الأرض لأصحابها الحقيقيين. وأردنا أن نُرسي العدل. لقد دخلنا إلى سوريا مع الجيش الحر، لكي نسقط نظام حكم الأسد الظالم الذي يُمارس سياسة إرهاب الدولة. وليس لأي هدف آخر».

لا يكفي أن نكتفي بقراءة كلام اردوغان مترجماً أو بلغته الأصلية. يتوجّب أن نسمعه وهو يُشدّد على الجملة الأخيرة «ليس لأي هدف آخر».

سقط القناع نهائياً هذه المرة الذي كان سقط سابقاً ولو بطريقة موارِبة. لم يدخل إذا اردوغان إلى سوريا لقتال «داعش». هو يريد قتال الأكراد بل اقتلاعهم واستئصالهم من سوريا ومن تركيا ومن كل مكان. وهو يفعل ذلك عملياً في تركيا وفي سوريا. لكن مع ذلك، فإن هدفه الأبعد والأكبر والأهم هو إسقاط النظام وإسقاط الأسد. وهي عادة سُنَّت في عهد حزب «العدالة والتنمية» أي التدخّل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى لتغيير الأنظمة فيها، وما يحمل ذلك من انتهاك للقوانين الدولية التي تُوجب مُحاكمة مُنتهكيها وعلى رأسهم تركيا.

لم يكن اردوغان بحاجة في اليوم التالي أن «يُصَحِّح» اعترافه بالقول إن هدف عملية «درع الفرات» ليس دولة أو فرداً بل الإرهاب. لم نكن نحن في الأساس بحاجة ليقول اردوغان إنه يُريد إسقاط نظام الأسد لكي نقف عند حقيقة مشروعه، ولم نكن بحاجة لتصحيحه اللاحق لكي نُدرك مدى التحايل والتلاعب والخديعة التي يُمارسها. لن يتخلّى اردوغان عن هدفه الكامن الذي أصبح مُعلناً ما دام هناك إرهابي واحد ليس في حلب فقط بل في الأراضي السورية. هستيريا الهزيمة في حلب التي انعكست نحيباً وصراخاً ودعوة للانتقام في وسائل إعلام اردوغان لن تنطفئ ولن تخبو ما دامت الأزمة لم تنتهِ كلياً. ليكن ذلك واضحاً مرة أخرى وأخيرة.

ما يؤسف له أنه قال كلامه عن إسقاط الأسد في ملتقى خاصّ بفلسطين في اسطنبول، وأن تشديده على أن لا هدف آخر سوى إسقاط الأسد قُوبل بعاصفة من تصفيق الحاضرين ومن بينهم فلسطينيون وعرب. هؤلاء أنفسهم الذين صفّقوا لاتفاق التطبيع بين تركيا وإسرائيل، واعتبروا التنسيق الأمني والعسكري بين تركيا وإسرائيل مكسباً للشعب الفلسطيني! لقد صفّق هؤلاء أيضاً عندما تحدّث اردوغان عن العدل في سوريا ويا ليتهم سألوه عما يفعل تجاه اسرائيل ليضعها عند حدها وترفع الظلم عن الشعب الفلسطيني، ويا ليتهم طالبوه ببذل جهد لا يتعدى الواحد في المئة ممّا يبذله من أجل اسقاط الأسد لكي يُسقط الظلم عن شعب فلسطين ويدفع في اتجاه العدالة لقضيتها. لكن ما يجب أن يعرفه الجميع أن الحاكم الذي لا يكون عادلاً مع شعبه بأكراده وعلوييه وعلمانييه وصحافته ويفتك بهم يومياً ويُمعن في تدمير قراهم وأحيائهم في المدن ويزجّ بقادتهم وكتّابهم في السجن لا يُمكن أن يكون عادلاً لا في سوريا ولا في فلسطين ولا في أي مكان آخر من العالم.

يُدرك اردوغان انه فشل في هذا الهدف. فبسقوط حلب بيد الجيش السوري سقط الهدف الاستراتيجي لاردوغان. حلب التي أرادها اردوغان بوابته إلى سوريا والمنطقة ها هي تُغلَق أبوابُها وأسوارُها أمام الغازي الجديد وتسقط مقولة إن التاريخ، بعد خمسمئة عام، يكرر نفسه. حلب هذه قامت بأجلّ وأقدس أدوارها: فقأت أخيراً عين السلطان الذي لم تحد عينه عنها لحظة واحدة.

لا يعكس «إخراج البقلاوة من الفم» على ما يقول المثل التركي، أي «الفضفضة» و «بقّ البحصة» وكشف المستور بعد نفاد الصبر، سوى عجز وعزلة لاردوغان حيث لا يجد أحداً إلى جانبه. حتى اوروبا تُعلّق المفاوضات معه وتفرض بعض دولها وشركاتها حظراً لبيع السلاح إليها. أما دونالد ترامب، المُتفائلة تركيا به، فربما لن يكون سوى حليف بشكل أو بآخر لروسيا في ترتيب الوضع في سوريا، هو الذي قال إنه يُريد محاربة «داعش»، والأسد جزء من المعركة ضدّ «داعش».

كلام اردوغان المباشر هذه المرة، رسالة إلى المحور الروسي – الإيراني – السوري أن ساعة الحقيقة حانت وأن حربه هي ضدّ النظام وضدّ هذا المحور، وهو بالتالي يُريد التفاوض ونيل حصة من ترتيبات بعد الحرب ولا علاقة لكل ذلك لا بـ «داعش» ولا حتى بالأكراد، بل بمشروعه الذي يُريد أن يخرج منه بما يحفظ ماء وجهه، وإلا فإنه يُهدّد بالذهاب إلى سياسة الهروب إلى الأمام، والمُواجهة لتكون الحلّ الأخير حيث لن يَدَعَهُ، باعتقاده، الغربُ يُواجِهَ الموقفَ وحيداً.

هو أقرب الى تهديد العاجز، لكن تهديد العاجز يُمكن أن يتحوّل إلى مُغامرة اليائس؛ من هنا التحسّب لما يُمكن أن يُقدِم عليه من مُغامرات في الربع ساعة الأخير مع استبعاد ذلك لأنه سيعني تفجير الصراع العسكري مع روسيا ومع إيران ومخاطر ذلك على وحدة تركيا نفسها. ومع أن هذا المحور قد سقط أكثر من مرة في حبائل وخدائع اردوغان، ومن أبرزها السماح له بدخول جرابلس والأراضي السورية، فإن الحكمة تقتضي تعميق مأزق السلطان لا تقديم هدايا درءا لمغامرات مجنونة قد يلجأ إليها. فإذا كان اردوغان يُريد تغيير مواثيق دولية عمرها مئة عام مثل لوزان، ويرتكز على ما كان قبلها من وضع لكي يقتطع أجزاء من سوريا والعراق، فإن أي تنازل، مهما كان صغيراً في سوريا والعراق في هذه المرحلة أو لاحقاً، سيُؤسّس عليه النظام التركي من أجل تثبيت واقع يرتكز عليه في المستقبل لاعتبار هذا الواقع «حقاً تاريخياً» له. المطلوب شيء واحد خارج أي تنازل: انسحاب الجيش التركي، سلماً أو حرباً، من الأراضي التي احتلّها في سوريا وفي العراق ومن دون قيد أو شرط خارج أي اتفاق غير واضح أو قابل للتأويل والتفسير كما يفعل اردوغان الآن مع اتفاقية لوزان في العام 1923 ومع اتفاق أنقرة حول الموصل في العام 1926 أو ما يُحكى عن ملاحق سريّة لاتفاق أضنة عام 1998. فالذي لم يُعْطَ إياه في ذروة إشهار سيفه على رأس هذا المحور، لا يجوز أن يُعطى له في وقت فُقِئَت فيه عين الغازي عند أسوار حلب وعلى مقربة من مرج دابق.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.