الجزائر، بين ماضي مجيد ومستقبل ضبابي / الطاهر المعز




الطاهر المعز ( تونس ) – الثلاثاء 7/5/2024 م …  

تقديم

تبلغ مساحة الجزائر 2,8 كيلومترا مربّعًا، يسكنها حوالي 45 مليون نسمة ولديها حدود مشتركة مع المغرب ومالي والنيجر وليبيا وتونس ويعتمد اقتصادها على استخراج وتصدير الغاز والنفط الخام.

عانت البلاد من حرب أهلية ومن إرهاب المجموعات التي تتبنى أطروحات الإسلام السياسي، خلال العقد الأخير من القرن العشرين، بالتزامن مع انهيار الإتحاد السوفييتي ومع هيمنة القُطب الرأسمالي الإمبريالي الواحد بزعامة الإمبريالية الأمريكية التي أطلقت العدوان على العراق ويوغسلافيا والصومال وأفغانستان، ثم عادت لتحتل العراق ولتفتيت سوريا واليمن وليبيا، وهدّدت الولايات المتحدة والممالك العربية (الخليج والمغرب) الجزائر بمصير سوريا وليبيا، ما جعل صوت الجزائر يخفت بشأن قضايا التحرر في العالم، بما في ذلك القضية الفلسطينية، خوفًا من الإحتلال والتقسيم، وبالخصوص بعد إعلان التّطبيع الرّسمي بين المغرب والكيان الصّهيوني في كانون الأول/ديسمبر 2020، واستقواء المغرب عَلَنًا بالإمبريالية الأمريكية بشأن الصحراء الغربية، وبالمقابل زاد دور اقتصاد الرّيع والإقتصاد الموازي في الجزائر، وأمعنت الدّولة في نهج الخصخصة وتقليص دور الدّولة والقطاع العام في الفلاحة والصناعة والتجارة الخارجية والإستثمارات…  

ثروة مهدورة

تُعْتَبَرُ الجزائر أكبر منتج للغاز الطبيعي في إفريقيا وثالث أكبر منتج للنفط، واستخرجت 101  مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي سنة 2021 وحوالي 900 ألف برميل من النفط يوميا سنة 2021، لكن لم يتجاوز نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي الجزائري 3691 دولارا، خلال نفس السنة، وهو مُستوى منخفض مقارنة بنصيب الفرد في تونس والمغرب، خلال نفس السنة 2021 وفق بيانات صندوق النقد الدّولي الذي صنّف اقتصاد الجزائر في المرتبة الثالثة في أفريقيا، وتتوفر الجزائر على مقومات النمو فهي دولة مُصدّرة للمحروقات، غير إن عائدات النفط والغاز لا تُستخدم في الإستثمارات المنتجة، رغم البيانات الرسمية التي تشير إلى ارتفاع نسبة الإنفاق العمومي من 31% سنة 2022 إلى 41,9% سنة 2024 و 43% سنة 2025  من الناتج المحلي الخام، ويتوقع أن ترتفع مساهمة الصناعة من 7,5% سنة 2024 إلى 9,3% سنة 2026، والفلاحة إلى 5% كما تُشير الدّعاية الحكومية إلى “الاهتمام باقتصاد المعرفة والمؤسسات الناشئة، والتكوين في مجالات الذكاء الاصطناعي والانخراط في مسار الرقمنة في جميع المجالات غير إن هذا “الإهتمام باقتصاد المعرفة” لا يستند إلى أسُس مادية وبُنية تحتية ومن زيادة ميزانيات البحث العلمي والتقني وتهيئة البيئة المواتية للإبتكار وتطوير التكنولوجيا...

يعتبر خبراء الإقتصاد المُقرَّبُون من الحكومة إن مؤشر صندوق النقد الدولي يثبت مرحلة الانتعاش الهامة بين 2022 و2024، ليس فقط من خلال انتعاش سوق المحروقات، ولكن بصفة أهمّ بتصاعد الإنتاج الفلاحي والبناء والخدمات، والصناعة الموجهة للسوق الداخلية وللتصدير، مثل الحديد والصلب والإسمنت مِمّا أدّى إلى نمو الناتج الداخلي الإجمالي والفردي، وفق البيانات المتوفرة منذ سنة 2022، حيث بلغ حجم الناتج الداخلي الإجمالي 195 مليار دولار، وارتفع الناتج الداخلي الإجمالي سنة 2023 إلى أكثر من 224 مليار دولار، وتُقَدِّرُ توقعات صندوق النقد الدّولي أن يبلغ حوالي 267 مليار دولارا سنة 2024، بزيادة نحو 42 مليار دولار عن سنة 2023، وتُخطط الدّولة لبلوغ الناتج المحلي الإجمالي 400 مليار دولارا سنة 2026، من خلال رَفْع حصة مساهمة قطاع الصناعة إلى إلى 9,3% من الناتج المحلي الإجمالي وتعتمد هذه التوقعات على ارتفاع مخزونات الجزائر من خام الفوسفات بحوالي 22 مليار طن، لتحتل المرتبة الثالثة عالميّا، وعلى استغلال المنجم الجديد شرق البلاد ابتداء من 2026، لترتفع صادرات الفوسفات والمُخصّبات الأخرى، واستغلال منجم الزنك والرصاص بمحافظة بجاية (مليونيْ طنّ من الزنك الخام سنويّا)، واستغلال منجم الحديد في منطقة جبيلات ومضاعفة طاقات مركب الحديد القطري/الجزائري في محافظة جيجل، فضلا عن ارتفاع إنتاج الإسمنت، كما أعلنت الحكومة تدشين مُركّب كُتامة للزيت، ومصنع السكر بمحافظة بومرداس واستصلاح الأراضي في الجنوب لتكثيف زراعة الحبوب (القمح والذرة)، ومشروع إنتاج الحليب المجفف بالشراكة مع دُوَيْلة قَطَر.

صنّف صندوق النّقد الدّولي اقتصاد الجزائر ( أي حجم الناتج المحلي الإجمالي) في المرتبة الثالثة إفريقيًّا، بعد جنوب إفريقيا ومصر، وتقهْقَرَ اقتصاد نيجيريا (أكبر منتج إفريقي للنفط) إلى المرتبة الرابعة، لا تَصْمُدُ هذه البيانات المتفائلة، بل تفقد مصداقيتها أمام ارتفاع حجم الإقتصاد الموازي الذي تشير التقديرات الرسمية إلى بلوغه نحو عشرة آلاف مليار دينار جزائري، أو ما يُعادل تسعين مليار دولارا، كما تُثير هذه البيانات العديد من التساؤلات والملاحظات، منها ارتفاع نسبة البطالة والفقر والأمية، وارتفاع عدد من يُغادرون البلاد من المُعطّلين عن العمل ومن ذوي الكفاءات والخبرات    

نقاط الضّعف

تراجع النّظام الجزائري عن السياسة الحِمائية وفَتَحَ الباب واسعًا أمام الشركات الإحتكارية العابرة للقارات من خلال قانون الإستثمار، وأكدت منظمات أرباب العمل للصحافة المحلية وجود أكثر من 100 طلب استثمار أجنبي، فيما تتوقع 1200 شركة أجنبية دخول السوق الجزائرية، خلال السنوات 2024 – 2026، غير إن الحجم الضّئيل للإستثمار لا يعكس هذه البيانات المتفائلة، حيث لم تتجاوز قيمة مشاريع الإستثمار 845 مليار دينار جزائري أو ما يُعادل 6,3 مليارات دولار، من أول تشرين الثاني/نوفمبر 2023 إلى 31 آذار/مارس 2024 معظمها في قطاعات الصناعات التحويلية والبناء والأشغال العمومية (الإنشاء والبنية التحتية) والنقل والخدمات، وتأتي الفلاحة والصيد البحري والسياحية والرعاية الصّحّيّة في ذيل الترتيب، وأعلن الرئيس عبد المجيد تَبُّون يوم السادس من نيسان/أبريل 2024 إن القطاع الخاص يستحوذ على 85% من رأس المال الجزائري، ومن المعلوم إن رأس المال الخاص، خصوصًا في البلدان المتخلفة، لا يستثمر سوى في القطاعات الطُّفَيْلِيّة التي تَدُرُّ رِبْحًا سريعًا، رغم التشريع الجديد للاستثمار الذي يُقدّم تنازلات كثيرة للقطاع الخاص، ويتضمّن مساعدات حكومية للمستثمرين وتغييرات جوهرية في قوانين العمل والنقد والصرف والمحاسبة والعقارات وأملاك الدّولة، وتغييرات جوهرية في القانون التجاري وقوانين البلدية والولاية والصفقات العمومية والشراكة بين القطاعين العام والخاص، وما إلى ذلك من إجراءات تتماشى مع توصيات صندوق النّقد الدّولي والبنك العالمي والمُؤسسات المالية الدّولية…

من جهة أخرى، لا يزال الإقتصاد الجزائري – رغم الدّعاية والبيانات الحكومية – يعتمد على ريع النفط والغاز، وبلغ الفائض التجاري 18 مليار دولارا سنة 2022، غير إن هيكل الصادرات يُبيّن إن مداخيل المحروقات فاقت خمسين مليار دولارا سنة 2022 ولم تتجاوز قيمة صادرات السلع والخدمات الأخرى (خارج قطاع المحروقات) سبعة مليارات دولارا خلال نفس السنة، وتبقى طموحات الدّولة متواضعة حيث تستهدف رفع حجم الصادرات – خارج قطاع المحروقات – إلى عشرة مليارات دولارا، ولا يمكن للهيكلة الحالية للإقتصاد خَفْضَ حجم البطالة وحجم الفقر الذي تتضارب الأرقام الرسمية بشأنه، وقَدّرته الرّابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان بنحو 14 مليون فقير، يعيشون تحت خط الفقر، أو ما يعادل 35% من العدد الإجمالي للسكان (حوالي أربعين مليون نسمة سنة 2018)، وتتمثل مظاهر الفقر في “تدهور مستوى المعيشة، وسوء خدمات الرعاية الصحية وارتفاع نسبة البطالة وتزايد الراغبين في الهجرة، وانتشار ظاهرة التسول” وفق نفس المصْدَر…

 بقي اقتصاد الجزائر مُرتهنًا لأسعار النفط الخام والغاز، ولم يتم استثمار الفائض المُحَقَّق من فترات ارتفاع الأسعار العالمية في قطاعات مُنْتِجَة مثل الفلاحة والصناعات التحويلية فالجزائر بلد شاسع وتضم أرضه موارد طبيعية هائلة، لا يزال بعضها غير مُستَغَلٍّ بسبب ارتفاع الإستثمارات الأولية لاستغلال هذه الموارد والثروات الطبيعية، وكُلَّما انخفضت أسعار النفط  انخفض الناتج المحلي للبلاد ونصيب الفرد، سنة 2021 على سبيل المثال، قبل ارتفاع أسعار المحروقات سنة 2022 بسبب الحرب في أوكرانيا، وليس بسبب جًهًود نظام الحُكْم في الجزائري أو بفعل ارتفاع حجم إنتاج المواد المُصنّعة وإضافة قيمة زائدة للمواد الخام، ولذلك لا يختلف الإقتصاد الجزائري عن اقتصاد البلدان الفقيرة المجاورة، بل أظهرت بيانات البنك العالمي انخفاض نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي الجزائري، سنة 2021، حيث كان أَقَلّ من نصيب الفرد في تونس والمغرب.

خلل هيكلي

أعلنت الحكومة، منذ 2019، سنة الحراك الشعبي الذي أسقط الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة وحاشيته، “انفتاح” الإقتصاد وفتح الباب أمام الإستثمارات الخاصّة المحلية والأجنبية، من خلال تغيير القوانين وإقرار قوانين استثمار جديدة (تمت الإشارة لها في فقرة سابقة) وأعلنت الحكومة “تخصيص نحو مائة مليار دولار لاستثمارات ومشاريع تسييرية سنة 2023″، غير إن التّدقيق في أبواب الميزانية وباب الإنفاق لا يُظْهر هذه الأرقام، ويُظْهِر ارتفاع حجم الميزانية إلى 98 مليار دولار  سنة 2023، وتم تخصيص نحو 30% منها  للإنفاق الاجتماعي.

تتميز الجزائر بعدم ارتهانها للدّيُون الخارجية، وتتمتع بفائض تجاري هام بلغ 18 مليار  دولار سنة 2022، وبمخزون  هام من احتياطي  الصرف الأجنبي، رغم انخفاضه من 194 مليار دولارا سنة 2014 إلى 55 مليار  دولار بنهاية سنة 2022، بفضل ارتفاع قيمة صادرات  المحروقات، غير إن اقتصاد الجزائر بقي هشًّا يفتقر إلى التّنوّع وتابعا لعائدات المحروقات التي تمثل نحو 90% من صادرات البلاد، في حين تُمثل عائدات النفط 30% فقط من الناتج المحلي في كندا و11% في بريطانيا، وهما من كبار منتجي المحروقات في الدّول “الغربية” التي تُوجّه العائدات نحو الصناعة والتكنولوجيا والبحث العلمي، ورغم تخصيص 30% من الميزانية للإنفاق الإجتماعي، لم يتم “تأمين الغذاء لكل فئات المجتمع والقضاء على الفقر والبطالة ” مثلما أعلن المدافعون عن النّظام الذين يشيدون ببرنامج  الإصلاح   الإقتصادي الهيكلي الذي أعلنته الحكومة، من خلال ما أسْمَتْهُ “إصلاح  المنظومة  التشريعية  الخاصة  بالاستثمار”، وتُعلّل الحكومة هذا “الإصلاح” بضرورة “جعل  بيئة  الاستثمار  أكثر  جاذبية  وشفافية  وضمانات  خاصة  للاستثمارات  الأجنبية”…

خصخصت الحكومات المتعاقبة الشركات الوطنية التي تم تأسيسها خلال عِقْدَيْ الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين (الصّلب بالحَجّار وتركيب قطع الغيار مثل سوناكوم…) ولم تعد الدّولة تُهيمن على التجارة الخارجية وقطاع التصدير والتوريد، وانخفض مستوى عيش المواطنين ما أدى إلى هجرة آلاف الشباب المُعطلين عن العمل، وهجرة الخبرات من أطباء ومُهندسين واختصاصيين في مجالات الإعلامية والإتصالات، وهي نفس الأسباب التي أدّت إلى انتفاضة 2019 أو ما يُسمّيه الجزائريون “الحراك” وما أدّى إلى ارتفاع عدد الفُقراء، في ظل ارتفاع الأسعار وانخفاض قيمة الرواتب…   

تأثرت العلاقات الخارجية بضعف الإقتصاد وعدم الإستقرار السياسي،  وتعززت علاقات الجزائر، في مجال السياسة الخارجية، مع الإمبريالية الأمريكية، ويُمارس النظام الجزائري تطبيعًا غير ظاهر، مثل المُشاركة في مناورات عديدة في البحر الأبيض المتوسط، مع قوات حلف شمال الأطلسي ومع الكيان الصهيوني، لكنها مُهدّدة من قِبَل الكيان الصهيوني ومن الرجعيات العربية الأخرى، وخصوصًا من الغرب بتحالف النظام المغربي مع الكيان الصهيوني، لتفتيت الجزائر ضمن مخطط يستهدف الجمهوريات العربية، وبالأخص السودان ومصر والجزائر والعراق وسوريا واليمن…    

السياسة الخارجية

كانت الجزائر، خلال العِقْدَيْن الأولَيْن التّالِيَيْن للإستقلال، ملاذ ثَوْرِيِّي العالم، ورائدة مجموعة السبع والسّبعين ومُطْلِقة “النظام الإقتصادي العالمي الجديد” من خلال خطاب الرئيس هواري بومدين، وهو أو خطاب باللغة العربية في الأمم المتحدة (نيسان/ابريل 1974)، وأّمَّمت الدّولة المحروقات والقطاعات الأساسية وأشرفت على التجارة الخارجية (التّوريد والتّصدير) وعلى صرف العملات الأجنبية، غير إن الظروف تغيرت بفعل التغييرات الحاصلة في العالم، وأصبحت الجزائر دولة عربية إفريقية قليلة الحضور والتّأثير في السّياسة الدّولية، في ظل فشل مشروع اتحاد المغرب العربي، وفي ظل التهديدات من الحدود الغربية والجنوبية، ونكتفي في الفقرة المُوالِيَة بتشريح بعض جوانب العلاقات الجزائرية الأمريكية للوقوف على وضع السياسة الخارجية والدّبلوماسية الجزائرية.

طالب بعض أعضاء الكونغرس الأمريكي – منتصف آب/أغسطس 2023 – بفرض عقوبات على الجزائر لاستمرارها بتعزيز العلاقات مع روسيا، لاسيما في مجال الدفاع، غير إن زيارة وزير الخارجية الجزائري إلى واشنطن أظهرت “توافقا بين الدولَتَيْن تجاه أبرز الملفات”، رغم الاختلافات بينهما بشأن بعض المواضيع، وفق بيان وزارة الخارجية الجزائرية، وسارع بعض المسؤولين الجزائريين إلى التصريح بأن الجزائر حليف طبيعي للولايات المتحدة، بديل تعزيز التعاون بين البلدين الذي “لا يتوقف على الأمن ومكافحة الإرهاب”، بل يتعدّاه إلى مجال الإقتصاد، وبعد العملية الفدائية الفلسطينية يوم السابع من تشرين الأول/اكتوبر 2023 وخلال شهرين ونصف زار الجزائر نائب كاتب الدولة للشؤون الخارجية، جوشيا هاريس، وزميله تود روبنسن، وتحدث قائد الأركان الجزائري السعيد شنقريحة هاتفيا مع مدير وكالة الاستخبارات الأمريكية وليم بيرنس، وتحادث وزير الخارجية أحمد عطاف في واشنطن مع كاتب الدولة للخارجية أنتوني بلنكن، وعقدت اجتماعات بين الطرفين الأمريكي والجزائري حول الصناعة الحربية…

نشر الموقع الإلكتروني لسفارة الولايات المتحدة بالجزائر تعليقا بشأن المقابلة الصحفية التي أجراها “جوشيا هاريس” الذي تجنَّب الإجابة على الأسئلة المتعلقة بمشاركة الإمبريالية الأمريكية في الإبادة الجماعية ضد فلسطينيي غزة، وتناول قضايا هامة أخرى، منها اهتمام حكومة الجزائر باقتناء السلاح الأمريكي، بدل السّلاح الروسي، وهو أمْرٌ ذو مخاطر كبيرة، بالقياس مع التّجربة المصرية، فضلا عن مخاطر زيادة التغلغل الأمريكي في الجزائر والمغرب العربي والبلدان المُحيطة بالصّحراء الكُبرى، ومخاطر تعزيز العلاقات مع الولايات المتحدة، زعيمة الإمبريالية العالمية ومُدِيرة حلف شمال الأطلسي ورائدة الإقتصاد النيوليبرالي…

أصدرت وزارة الخارجية الأمريكية، يوم 12 تشرين الأول/اكتوبر 2023 بيانا صحفِيًّا بشأن اللقاء السادس للحوار الاستراتيجي بين الولايات المتحدة والجزائر والذي دار في واشنطن يوم 11/10/2023، في ذروة العدوان الصهيوني الواسع – المدعوم أمريكيا وأطلسيا – على الشعب الفلسطيني ، بحضور مسؤولين رفيعي المستوى من البلدين، من وزارات التجارة والدفاع والعمل والخزانة والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية ومكتب الممثل التجاري للولايات المتحدة، وأشار البيان إلى “الشراكة الوثيقة والمثمرة بين البلَدَيْن والمستقبل الواعد للتعاون الأمريكي-الجزائري… والالتزام بتعزيز الشراكة القوية والتاريخية بين البلدين…”، وتكرّر هذا الكلام المَعْسُول أثناء وبعد زيارة وزير خارجية الجزائر أحمد عطاف ( 08 آب/أغسطس 2023) إلى واشنطن، والتي دامت يومَيْن، بهدف “توسيع مجالات الشراكة الاقتصادية إلى قطاعات جديدة”، وأشادت وسائل الإعلام الأمريكية “بنجاح الجزائر في إدارة علاقات استراتيجية دولية بتوازن وبراغماتية”، وأشار الطّرفان إلى “التوافق حول أبرز الملفات ومن بينها التسوية السلمية لأزمة الانقلاب العسكري في النيجر، وتوسيع التعاون الاقتصادي خارج قطاع الطاقة…”

في المجال الإقتصادي، لم يتجاوز حجم المبادلات التجارية بين البلدَيْن أربعة مليارات دولارا، سنة 2022، وأعلنت سفيرة الولايات المتحدة بالجزائر عن وجود 100 شركة أمريكية في الجزائر، وعن مُفاوضات بشأن إقامة خط جوي مباشر بين البلدين وفق موقع صحيفة الخَبَر اليومية الجزائرية بتاريخ الثامن شباط/فبراير 2024 وأشارت الصحيفة إلى تَعَدُّد زيارات الوُفُود الأمريكية المُمثّلة لكل القطاعات الإقتصادية، ووقّع بعضها اتفاقيات في مجال الصناعة الغذائية والزراعة، فضلا عن اهتمام الشركات النفطية مثل “إكسون موبيل” و “شفرون” بقطاع المحروقات الجزائرية، وأعلنت السفيرة الأمريكية مُساعدة الشركات الصغيرة والمتوسطة والشركات الكبرى على إيجاد الفرص، ومَكّنت وفدًا من الشركات الأمريكية من الإجتماع مع وزيرَيْنِ ومُدِيرِي العديد من الشركات الوطنية الجزائرية في القطاعات الزراعية والصناعية والطيران وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات… 

التعاون الأمني والعسكري

تتم هذه الشراكة بذريعة “محاربة الإرهاب”، وحَلَّتْ بالجزائر وفودٌ أمريكيةٌ رسمية تمثل وزارات الخزينة والحرب يومي 5 و6 حزيران/يونيو 2023، لإجراء محادثات حول التنسيق والتعاون بشأن الاستقرار الإقليمي”، وتلا هذه المناقشات “حوار استراتيجي” في واشنطن خلال شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2023، و “حوار عسكري” في واشنطن في كانون الأول/ديسمبر 2023 ( أي بعد بدء العدوان الصهيوني يوم السابع من تشرين الأول/اكتوبر 2023)، “لبحث سُبُل  أهَمّ التحديات في العالم”، وتضع واشنطن العلاقات بين روسيا ومالي وبوركينا فاسو والنيجر، ضمن هذه “التّحدّيات”، فكيف يمكن للنظام الجزائري التّوفيق بين مجمل هذه التناقضات؟

أجرت الجزائر والولايات المتحدة حوارًا عسكريًا مشتركًا في واشنطن من الرابع إلى السّادس من كانون الأول/ديسمبر 2023، في إطار “التعاون الدفاعي الثنائي المستمر”، بمشاركة السفيرة الأمريكية بالجزائر، وقد يُفضي هذا التعاون العسكري إلى توقيع مذكرة تفاهم سنة 2024، واقترحت الولايات المتحدة على الجزائر “تنويع مصادر السلاح” وشراء الأنظمة التكنولوجية الأمريكية، وتستقبل الموانئ الجزائرية منذ أكثر من عقدَيْن السفن العسكرية الأمريكية واستقبل الرئيس عبد المجيد تَبُّون (شباط/فبراير 2023) قائد القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا (أفريكوم) الجنرال مايكل لانغلي، وكانت الجزائر قد اعترضت سنة 2007، إلى جانب جنوب إفريقيا ونيجيريا على إقامة قواعد أمريكية لبرنامج “أفريكوم” في أي دولة إفريقية، وسبق أن استضافت حكومة الجزائر الحوار العسكري المشترك ( الأمريكي/الجزائري) بالعاصمة الجزائرية خلال شهر آذار/مارس 2022.

التعاون الثقافي

تعدّدت الخلافات بين الحكومات الجزائرية والفرنسية المتعاقبة، وقررت حكومة الجزائر تعزيز الشراكة مع الحكومة الأمريكية لتنفيذ برنامج تعميم تعليم اللغة الإنغليزية وتجديد مناهج تعليم اللغة الإنغليزية، خصوصًا في مؤسسات التعليم العالي، وبدأ الغزو الثقافي الأمريكي بفتح المركز الثقافي الأمريكي الخامس في الجزائر، في ولاية بشار في الجنوب، إضافة إلى المراكز الثقافية الأمريكية بالجزائر ووهران وقسنطينة وورقلة، حيث يتم تعلم اللغة الإنغليزية ثلاث مرات أسبوعيا، “والتحدث باللغة الإنغليزية مع الأمريكيين”، وهذا مدخل لإعداد التقارير حول الوضع في الجزائر ولاستقطاب الجواسيس، كما حصل في العديد من البلدان التي لعبت فيها المراكز الثقافية الأمريكية دور وَكْرٍ للجواسيس، وأعدّت الولايات المتحدة (ربيع 2024) برنامجًا خاصًّا بأعضاء الحكومة ومسؤولي الوزارات والإدارات العمومية “ليتمكنوا من التحدث باللغة الإنغليزية، وحضور المؤتمرات الدولية والتحدث إلى نظرائهم في البلدان الأخرى”، كما تُشرف أجهزة الدّولة الأمريكية على “الحفاظ على التراث الثقافي الجزائري” ضمن عملية “رَقْمَنَة الأعمال الفنية والمخطوطات القديمة، وتنفيذ برنامج تدريب وتأهيل العاملين بوزارة الثقافة الجزائرية”… 

تَخَبّط سياسي

هناك أمثلة كثيرة أخرى عن تطور العلاقات الأمريكية – الجزائرية في حين تدعم الولايات المتحدة النظام المغربي والكيان الصهيوني وتُوَسّع نفوذها العسكري والثقافي (الإيديولوجي) في ليبيا والمغرب وفي جنوب الصحراء الكبرى، ضمن برنامج “أفريكوم” العسكري وضمن العديد من المُخطّطات المشبوهة الأخرى، ولمّا امتنعت الجزائر عن التصويت على مشاريع القرارات الأمريكية في الجمعية العامة للأمم المتحدة لإدانة روسيا بخصوص الحرب في أوكرانيا، ثارت ثائرة الولايات المتحدة التي تُقسّم العالم إلى قسمين واحد معها والآخر ضدّها، وبعد الزيارَتَيْن اللَّتَيْن قام بهما الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون في حزيران/يونيو وتموز/يوليو 2023 إلى موسكو وبيكين، لفترة خمسة أيام، وتوقيع “إعلان الشراكة العميقة بين الجزائر وروسيا، وتأجيل زيارته إلى فرنسا، اعتبرت الولايات المتحدة الجزائر “خَصْمًا محتملا” وطالب 27 عضوا من الكونغرس الأمريكي، يوم 30 أيلول/سبتمبر 2023، بفرض عقوبات على الجزائر باعتبارها “خَصْمًا للولايات المتحدة” بسبب “استمرار العلاقات وتوريد الجزائر أسلحة روسية بقيمة سبع مليارات دولارا”، ولم تَرُد حكومة الجزائر على هذه الإستفزازات، بل والتّهديدات، بينما أعلن وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف في شباط/فبراير 2024 إن “الولايات المتحدة تحاول إملاء سياستها على الجزائر” التي أعلنت رغبتها في الانضمام إلى مجموعة “بريكس” وفشلت بعد اعتراض الهند، حليف الولايات المتحدة والكيان الصهيوني…

ينتهج النظام الجزائري الطريق الرأسمالية في المجال الإقتصادي، دون امتلاك اقتصاد منتج، وينتهج الإستبداد في المجال السياسي، والضبابية على المستوى الدّبلوماسي، ويتجسّد ذلك في تكرار الرئيس الحالي عبارة “إن أمريكا بلد صديق مثلما روسيا والصين “، لكن الوقائع عنيدة، فقد اختارت الجزائر الولايات المتحدة ضيف شرف بالمعرض الدولي الاقتصادي بالجزائر سنة 2022، ودعا الرئيس عبد المجيد تبون إلى تعزيز الشراكة الإقتصادية مع الولايات المتحدة، خاصة في مجالات الزراعة والصناعة، فضلا عن العلاقات الأمنية الإستراتيجية، وبالفعل تطور التعاون الثنائي من “الأمن ومكافحة الإرهاب”، إلى الاستثمار ( الأمريكي) في قطاعات الطاقة والفلاحة والصيدلة والاتصالات بالجزائر، ودعا وزير الإقتصاد الجزائري يوم العاشر من آب/أغسطس 2023 الرأسماليين الأمريكيين إلى اللإستثمار في قطاعات الفلاحة والرعاية الصحية وتكنولوجيات المعلومات… 

استخلاصات

عرفت الجزائر تحولات كبيرة في مجال الإقتصاد ( الإنتقال من رأسمالية الدّولة إلى الليبرالية الإقتصادية الهجينة) وفي مجال الدّفاع حيث تعززت العلاقات الأمنية والعسكرية مع الإمبريالية الأمريكية، بينما لا يزال السلاح الذي يمتلكه الجيش رُوسيا، وتعدّدت زيارات المسؤولين الجزائريين إلى أمريكا والمسؤولين الأمريكيين إلى الجزائر.

إن الدعم العسكري الأمريكي للكيان الصهيوني والمبالغة في استخدام حق النّقض ( الفيتو ) في مجلس الأمن لم يمنع النظام الجزائري، تمامًا مثل الأنظمة العربية الأخرى، من تطوير العلاقات مع الولايات المتحدة، بل وتعزيزها، مع الإشارة إن الولايات المتحدة لا تُحاور بل تُحاول فَرْض تصوراتها ورُؤْيَتِها للعالم،  ولا يمكن للولايات الأمريكية المتحدة أن تكون صديقة لأي شعب عربي، فهي تدعم الكيان الصهيوني بشكل مُطلق، لأنه يقوم بدور وظيفي لصالح الإمبريالية، ولما تلكّأت حكومة الجزائر في الإصطفاف وراء الموقف الأمريكي بشأن فلسطين، وجهت وزارة الخارجية الأمريكية (06 كانون الثاني/يناير 2024) انتقادا شديد اللهجة للجزائر بشأن “انتهاكات جسيمة” للحريات الدينية، وأبقتها ضمن قائمة “البلدان التي يتعين مراقبتها بسبب ارتكابها أو تسامحها مع هذا النوع من الانتهاكات”.

احتدّت الخلافات الدبلوماسية بين الولايات المتحدة (التي تقود الحرب في غزة بواسطة الكيان الصهيوني، تلك القاعدة المتقدمة للإمبريالية ) والجزائر، منتصف شهر شباط/فبراير 2024، وبرزت للعيان خلافات دبلوماسية بمجلس الأمن الدولي ( حيث الجزائر عضو غير دائم) بين الجزائر والولايات المتحدة الأمريكية، بسبب “الوضع الإنساني في منطقة الشرق الأوسط وغزة”، وبسبب سَعْيِ الجزائر طَرْح قرار مستعجل داخل المجلس من أجل وقف العدوان، وتمكنت الولايات المتحدة من تعطيل المشروع لأنها تعترض على أي وقف للعدوان…

إن القضية الفلسطينية حدّ فاصل بين خطوط جبهة الأعداء (الإمبريالية والكيان الصهيوني والأنظمة الرجعية العربية) وجبهة الأصدقاء الذي يدعمون نضال الشعب الفلسطيني والشعوب الواقعة تحت نير الإستعمار والإضطهاد، ولم يختر النظام الجزائري صف الفُقراء والعاملين في الدّاخل ولا صف الشُّعُوب المُضْطَهَدَة في الخارج، ولذلك وجب التّخلّص من الأوهام ومن تصنيف النظام الجزائري ضمن الأنظمة التقدّمية، تقديرًا للتاريخ المجيد للشعب الجزائري ولثورته التي هزمت الإستعمار الفرنسي، ويتمثل الموقف السليم في دعم نضالات التّقدّميين والمُعطّلين عن العمل والكادحين والفُقراء الجزائريين، بدل مُساندة النّظام…

 

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.