محاولة تبسيط مفاهيم الإقتصاد السياسي / الطاهر المعز


الطاهر المعز ( تونس ) – الخميس 16/5/2024 م …




 دم المساواة بالأرقام

هيمنت الرأسمالية النيوليبرالية على الاقتصاد العالمي منذ العقد الأخير من القرن العشرين، أي منذ انهيار الإتحاد السوفييتي، وتوسّعت معها ظاهرة عدم المساواة بين أقلية صغيرة من الناس الذين ارتفعت ثرواتهم إلى مستويات قياسية وأغلبية السكان الذين أصبحوا أكثر فقرا، ويُعَدّ انخفاض حجم الإنفاق الحكومي وخصخصة القطاع العام والخدمات (الصحة والتعليم والنقل والكهرباء والمياه وغيرها) من العوامل التي تزيد من عدم المساواة ومن انتشار الفقر المدقع والجوع، وعلى سبيل الذّكر، كان أغنى 1% من سكان العالم يملكون 38% من ثروة العالم سنة 2021، أي فاقت ثروتهم 90% من سكان العالم الأقل ثراءً، وبعبارة أخرى، فإن 80 مليون شخص يمتلكون ثروات أكبر بكثير مما يملكه 7,2 مليار شخص، وتتركز ثلاثة أرباع الثروة العالمية لدى 10% من سُكّان العالم، ويُتوقّع أن تستمر هذه الفجوة في الإتّساع لأن الإيديولوجية النيوليبرالية السائدة تحُثُّ على انسحاب الدولة التي غالبًا ما تكون خط الدفاع الأخير ضد الفجوة الآخذة في الاتساع بين أغنى 1% وبقية السكان، وهناك اتجاه واضح نحو تفكيك الدور الوقائي للدولة منذ حوالي أربعة عقود، ما يزيد ويعزز عدم المساواة في الثروة والدخل ومن التمييز الطّبقي والعُنصري، كما تؤدي السياسة النيوليبرالية إلى إفقار الدولة وإثراء القطاع الخاص، أي تحويل الثروة العمومية إلى القطاع الخاص، ولاحظنا على مدى أكثر من خمسين عاماً، تراجعاً في الثروة العامة (أُصُول وإيرادات الدّولة) مقابل زيادة الثروات الخاصة في كافة الدّول الرأسمالية المتطورة مثل بريطانيا واليابان وفرنسا وألمانيا والولايات المتحدة وغيرها، وزادت سياسات التقشف من تسريع هذا الاتجاه، خصوصًا منذ  العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، بعد أزمة 2007/2008، حيث زاد حجم وقيمة الخصخصة وبيع الأصول العامة، بالتوازي مع منح المصارف والشركات الكبرى مبالغ هامة من المال العام (أي من عَرَق الكادحين والأُجَراء) وتخفيض الضرائب على أغنى الأثرياء والمصارف والشركات الكبرى، مما يقلل موارد الدولة ويزيد من قيمة الثروات الخاصة.

أمّا في البلدان الفقيرة، فإن المؤسسات الدّولية، مثل صندوق النقد الدولي والبنك العالمي ومنظمة التجارة العالمية، تتكفّل بإجبار الحكومات على خفض الضرائب المفروضة على الشركات الكبيرة، وفي الوقت نفسه زيادة ضريبة القيمة المضافة (الضريبة غير المباشرة) وهي غير عادلة إلى حد كبير لأنها لا تتناسب مع الدخل، وتُؤثّر كثيرًا في ميزانيات الأُسَر الفقيرة…

تُشكل الولايات المتحدة، زعيمة الدّول الرأسمالية الإحتكارية (الإمبريالية) نموذجا: في ثلاثينيات القرن العشرين، تم فرض ضريبة على أغنى 0,01% من الأثرياء بنسبة 80% تقريبا من دخلهم، وانخفضت النسبة إلى 30% فقط سنة 2020، وكانت نسبة الضريبة تُعادل 50% على دخل أغنى 1% من ساكني الولايات المتحدة، في أوائل الخمسينيات من القرن العشرين، وانخفضت النسبة سنة 2020 إلى 30%، وانخفض معدل ضريبة الدخل لأغنى 10% بين سنتَيْ 1942 و2021 بنحو 5%، وعلى العكس من ذلك، ارتفع معدل ضريبة الدخل على أفقر 50% من 8% إلى حوالي 25%، وهو نفس الاتجاه إذا تم تطبيقه على 90% من المواطنين الأشدّ فقرًا، وتدل هذه الأرقام إن ضريبة الدخل لم تعد تَصاعُدِية ( أي تتماشى نسبتها مع ارتفاع الدّخل) بل تخضع جميع فئات الدخل للضريبة بمعدلات متشابهة للغاية، ولا يتعلق الأمر بالولايات المتحدة فحسب، بل بجميع دول العالم.

انخفضت الضرائب المفروضة على أصحاب الدخول الأعلى بشكل كبير منذ منتصف سبعينيات القرن العشرين، في البلدان الغنية، في اليابان وفرنسا وبريطانيا وألمانيا والولايات المتحدة، ولكن في الهند أيضاً، ويؤدي هذا التراجع لإيرادات الدولة إلى زيادة الدَّيْن الخاص، لأن الأشخاص الذين كانت الدولة تدعمهم سابقًا اضطرّوا إلى تعويض انسحاب الدّولة من المجال الإجتماعي والرعاية الصحية من خلال التّوَرُّط في الحلقة المُفْرَغَة للديون بمعدلات مرتفعة تتراوح بين 20% ( قروض الإستهلاك) و 200% (القروض العقارية حيث يُسدّد المُقترضون ضِعْف قيمة القروض)، وتُعْتَبَرُ المزايا الاجتماعية وسيلةً لإعادة توزيع جزء من إيرادات الدولة التي تُمثّل ضرائبُ الأثرياءِ جزءًا منها، تستخدمها الدّولة لمساعدة الفقراء من خلال المزايا الاجتماعية وتمويل الخدمات العامة، وأدّى تراجع إيرادات الدّولة وتراجع دورها إلى إرساء نظام تتزايد فيه الفوارق لأنه يثري الأغنياء ويحكم على الطبقات الكادحة باقتراض الأموال منهم ودفع الفوائد لهم وبذلك يؤدي تراجع الدولة إلى تفاقم أوجه عدم المساواة الهائلة.

دَوْر صندوق النّقد الدّولي والبنك العالمي كأدوات عدم المساواة

ولد البنك العالمي وصندوق النقد الدولي في تموز/يوليو 1944، في “بريتن وودز، قرب واشنطن، ولذلك سُمِّيت “مُؤسّسات بريتن وودز”، وهما رمزان للاستعمار المالي الجديد وفرض سياسة التقشف باسم متابعة عملية سداد الديون، وقد تسبب هذا الاستعمار المالي الجديد في الكثير من الضرر، وهي مؤسسات صممتها وتُديرها الدّول الإمبريالية التي تتقاسم السيطرة عليها، فالولايات المتحدة تعين رئيس البنك العالمي، وتُعيّن أوروبا المُدير التنفيذي لصندوق النقد الدولي، ويختص البنك العالمي في القروض طويلة المدى، فيما يختص صندوق النقد الدّولي في القروض قصيرة ومتوسطة الأجل، ويعترض الدّيون خطر العجز عن السّداد، لذلك تراقب مؤسسات “بريتن وودز” وضع الدّول بشكل دقيق ومُستمر، وما ينطبق على الدّول ينطبق على الشركات والمصارف، وعلى مدى أربعة عقود، تعرضت المصارف الأمريكية الكبرى لمخاطر عدم سداد ديون الدول النامية، لكن البنك العالمي قرر ضمان سداد القروض (رأس المال والفائدة) التي حصلت عليها الدّول الفقيرة من المصارف الخاصّة، وعتَزّز هذا الإلتزام منذ أصبح الرئيس السابق لبنك أوف أمريكا، ألدن دبليو كلاوسن، الذي فرضه رونالد ريغان رئيسًا للبنك العالمي، سنة 1981، وكانت المصارف الأمريكية أكثر عرضة من المصارف الأوروبية أو اليابانية لأزمة سنة 1982 التي أثَّرت بشكل خاص على أمريكا الجنوبية التي تعتبرها المصارف الأمريكية بقرتها الحلوب، وخصوصًا البرازيل والأرجنتين والمكسيك، أكبر اقتصادات أمريكا الجنوبية، وكانت مبالغ القروض مقارنة برؤوس أموال المصارف هائلة ومتهورة، وكانت أكبر تسعة مصارف أميركية، بما في ذلك بنك أوف أميركا، قد أقْرَضَتْ ما يعادل 229% من رأسمالها، وعندما أعلنت المكسيك، في آب/أغسطس 1982 أنها لم تعد قادرة على السداد، اجتمعت المصارف المركزية والحكومية الكبرى وصندوق النقد الدولي والبنك العالمي لإنقاذ المصارف الخاصة، وقرر المدير الإداري لصندوق النقد الدولي ورئيس الاحتياطي الفيدرالي للولايات المتحدة ورئيس بنك إنجلترا ورئيس بنك التسويات الدولية (أحد الشركات التابعة لمجموعة البنك الدولي) تحويل ديون القطاع الخاص إلى الدين العام للدول المَدِينَة، خاصة البرازيل والمكسيك والأرجنتين، ووضع المجتمعون خطة للتعامل مع الدّول المَدِينَة بشكل منفصل، ورفض أي جبهة مُشتركة للدّول الفقيرة المُقْتَرِضة من المصارف الخاصة أو من مؤسسات بريتن وودز، بناء على مبدأ “فَرِّقْ تَسُدْ”، كما يجب على البلدان المدينة أن تستمر بأي ثمن في دفع الفائدة على الدين ويجب على الدائنين ألا يمنحوا أي إلغاء أو تخفيض لسعر فائدة، أو إعادة جدولة الدّيُون وحصص التّسديد، ولن يتم منح القروض الجديدة من قبل المصارف الخاصة إلا بشرط أن تلتزم البلدان المَدِينَة المعنية بتنفيذ سياسات التقشف في إطار اتفاق مع صندوق النقد الدولي، وإثر هذا اللقاء، أوقفت المصارف الخاصة جميع القُروض واكتفت بتحصيل أقساط القُروض السابقة، ما أدّى إلى مضاعفة أرباحها في غضون سنوات قليلة.

يتبنى صندوق النقد الدولي وغيره من الممولين الدّوليين استراتيجية صارمة في التعامل مع البلدان المُقْتَرِضَة من أجل حماية المصارف الخاصة، وأصبح الصندوق والبنك العالمي يتصرّفان كممثلين للتمويل الخاص الدولي الضخم، أو خَفَر أو مأمورين (Bailiff ) في خدمة المصارف الخاصة ورأس المال الخاص، ضدّ الدّول المُسْتَدِينة، لتجنب التخلف عن السداد.

تتحمل سلطات الدول المُقْتَرِضَة مسؤولية الخزانة العامة والمال العام ( أموال المواطنين) ولكن صندوق النقد الدّولي والبنك العالمي يُجبران سُلطات الدّول على ضَمان تسديد الديون الخارجية للشركات الخاصة في بلادهم، بما فيها فُروع الشركات العابرة للقارات التي تطلب قرضًا من الشركة الأم، وتفتعل العجز عن السّداد، لتتحمل حكومة الدّولة المُضَيّفة لها سداد ديونها من الخزانة العامة، وهي عملية تحويل أموال من “الأطراف” إلى “المَرْكز”، كما حَلَّ صندوق النقد الدولي والبنك العالمي تدريجياً محل المصارف الخاصة باعتبارهما دائِنَيْن للبلدان الأكثر معاناة من الصعوبات، وبالتالي يتم نقل المخاطر والتكاليف من القطاع الخاص إلى القطاع العام، وأدّى انسحاب المصارف الخاصة إلى ارتفاع دُيُون صندوق النقد الدولي والبنك العالمي من 115 مليار دولار سنة 1982 إلى 252 مليار دولار سنة 1992، أي بزيادة قدرها 120%.

“خلال عقد الثمانينيات من القرن العشرين، بينما كان سعر الفائدة 4% في البلدان الصناعية، كانت البلدان النامية تتحمل سعر فائدة فعلي يبلغ 17%، على دَيْنٍ قائم يزيد على ألف مليار دولار، يمثل ذلك زيادة في التكلفة قدرها 120 مليار دولار تضاف إلى صافي التحويلات للديون والتي بلغت 50 مليار دولار سنة 1989” وفقا لتقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي عن التنمية البشرية – 1992

يتضمن سداد الديون سداد الفائدة على الدَّيْن التي تضاف إلى سداد رأس المال، وفي نهاية أجل استحقاق الدين، تسدد البلدان المدينة مبالغ أكبر من مبالغ القروض، تصل إلى الضّعف، وهذا ما نسميه “صافي التحويل السلبي” الذي تزايدت أهميته منذ ثمانينات القرن العشرين، وكانت التحويلات من أمريكا الجنوبية إلى الدائنين، بين سَنَتَيْ 1982 و1985، تمثل 5,3% من الناتج المحلي الإجمالي للجزء الجنوبي من القارة الأمريكية، وفق بيانات البنك العالمي الذي تعكس تحليلاته المنشورة ( يمارس البنك والصندوق رقابة صارمة ويرفضان نشر العديد من الوثائق التي يُعِدُّها خبراؤهما) المصالح السياسية والإقتصادية لمساهميهما الرئيسيين، وخاصة الولايات المتحدة، وتعكس مصالح المصارف الخاصة، بتواطؤ زعماء الدول المُقْتَرِضَة الذين يسهلون عملية الفساد وهروب رؤوس الأموال نحو الملاذات الضريبية، في نفس المصارف التي لديها مطالبات على هذه البلدان.

نشرت الخبيرة الاقتصادية الأمريكية شيريل باير في كانون الثاني/يناير 1974 كتابها الذي ينتقد صندوق النقد الدولي والبنك العالمي تحت عنوان “فخ الديون: صندوق النقد الدولي والعالم الثالث – مجلة المراجعة الشهرية” ( انظر قائمة المراجع أسفل المقال)، وقد قامت بتحليل سياسة صندوق النقد الدولي المطبقة في ستينيات القرن العشرين في الفلبين وإندونيسيا والبرازيل وتشيلي والهند ويوغوسلافيا وغانا، ويُلخّص الكتاب وهو التدابير التي يفرضها صندوق النقد الدولي على “الدول النامية” التي تطلب دُيُونًا، ومن بين الشروط: إلغاء أو تحرير الضوابط على التبادل التجاري والواردات، تخفيض قيمة العملة، تقييد السياسات النقدية للسيطرة على التضخم مما يؤدي إلى زيادة أسعار الفائدة، وفي بعض الحالات، زيادة في احتياطيات النقد الأجنبي، والسيطرة على العجز العام (خفض الإنفاق؛ زيادة الضرائب وأسعار الخدمات العامة والمؤسسات؛ وإلغاء دعم المنتجات الاستهلاكية)، والحد من زيادات الرواتب في القطاع العام، وتفكيك الضوابط على الأسعار، وفتح السّوق والمشاريع الإقتصادية أمام الإستثمارات الأجنبية…

حدّد إجماع واشنطن، أو “وِفاق واشنطن” (منتصف سنة 1989، ( قبل خمسة أشهر من سقوط جدار برلين ومن ثم الاتحاد السوفييتي)، في خطوة استباقية لانهيار المنافس السوفييتي، السياسات التي يجب اتباعها في إطار التكيف الهيكلي من خلال إضافة بُعد الخصخصة الضخمة إلى التدابير السابقة، وخفض الإنفاق في قطاعات مثل التعليم والصحة وتوزيع الطاقة والمياه وتحويل المبالغ المَخْصُومة لدعم القطاع الخاص بهدف هزيمة القطاع العام، فضلا عن تقويض مشاريع السيادة الغذائية وتدمير مشاريع الإنتاج الزراعي الذي يهدف إلى تلبية احتياجات السوق الداخلية، بدل إنتاج وتصدير منتجات غذائية تُلبي حاجة أسواق الدّول الغنية…  

يشعر جميعنا بتدهور الوضع، وأصبح دَور صندوق النقد الدّولي والبنك العالمي واضحًا لنسبة كبيرة من المواطنين، غير إن القليل يُدْرِك آلية عمل هاتين المُؤسّسَتَيْن، وتنقص العديد منا الحُجَج لإبراز هذا الدّور التخريبي الذي يندرج ضمن آليات الهيمنة الإمبريالية، فالصندوق والبنك يُمثّلان مصالح النّافذين من ممثلي الدّول الأعضاء في مجالس إدارَتَيْهما…   

  • مراجع في نقد سياسة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي

وليامسون، جون. “ما تعنيه واشنطن بإصلاح السياسات.” 1989. في التكيف في أمريكا اللاتينية: كم حدث؟، واشنطن، معهد الاقتصاد الدولي.)

Williamson, John. « What Washington means by policy reform ». 1989. in Latin American Ajustment : How much has happened ?, Washington, Institute of International Economics.)

شيريل باير «فخ الديون: صندوق النقد الدولي والعالم الثالث – المراجعة الشهرية للصحافة – يناير 1974

Cheryl Payer « The Debt Trap: International Monetary Fund And The Third World – Monthly Review Press  – January 1974

جون بيركنز – اعترافات قاتل اقتصادي – 2004

John Perkins – Confessions of an economic hit man – Berett-Koehler Publishers – 2004

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.