العمل النقابي خطوة باتجاه بلورة الوعي الطّبقي أم مَطِيّة للإرتقاء في السّلّم الطّبقي؟ / الطاهر المعز
https://www.arabjo.net/wp-admin/post-new.php
الطاهر المعز ( تونس ) – الخميس 23/5/2024 م …
تندرج هذه الورقة ضمن محاولاتي المَزْج بين العمل النّظري (تبسيط مفاهيم الإقتصاد السياسي) والإدلاء برأيي في بعض مشاغل العصر، سواء في الوطن العربي أو خارجه، وهذه الورقة مُستوحاة من تجربة الإضرابات في الولايات المتحدة، منذ قرابة السَّنَتَيْن وتتضمن بعض الملاحظات بخصوص العمل النقابي في تونس الذي يُعْتَبَرُ رائدًا في إفريقيا والوطن العربي، ونواقص ممارسة العمل النقابي من قِبَل المنظمات والأحزاب الإشتراكية في تونس كنموذج لحُدُود العمل النقابي ولضرورة العمل السياسي الثوري ( إلى جانب العمل النقابي) من أجل حياة أفضل في مجتمع عادل…
تُشكل الرأسمالية في الولايات المتحدة ( زعيمة العالم الرأسمالي الإمبريالي) معيارًا لما يمكن للرأسمالية فِعْله من أجل المحافظة على المستوى المُرتَفِع للأرباح، فهي تُعرقل تأسيس النقابات ( والعمل النقابي هو إصلاحي بطبعه وليس ثوريا) في كافة قطاعات الإقتصاد، في الصناعة وفي تجارة التجزئة وفي خدمات البيع عن بعد وقطاع التكنولوجيا المتطورة وغيرها ويُعطّل القانون تنفيذ الإضرابات بواسطة الخطوات والإجراءات التي يجب القيام بها قبل إقرار الإضراب، وتعمد معظم الشركات الكُبرى في كافة القطاعات (وولمارت وماكدونالدز وستاربكس وأبل وأمازون وجنرال موتورز وغيرها) إلى التّجسّس على العمال الذين يَسْعون إلى تأسيس نقابة، وإلى خرق قوانين العمل وعدم احترام الحق النقابي – وهو حق قانوني – ومقاومة النقابة بأي ثمن لتَجنّب المفاوضة الجماعية من أجل تحسين الأُجُور وظروف العمل، وأصبحت عرقلة العمل النقابي وتَجْريم العمل الإجتماعي قاسمًا مُشتركًا للرأسمالية في كافة البلدان من كوريا واليابان إلى الولايات المتحدة وكندا، مرورا بأستراليا وأوروبا، وتنفق الشركات العابرة للقارات أكثر من 400 مليون دولارا سنويا لشركات المحاماة المناهضة للنقابات التي تُقدّم المشورة للشركات حول أفضل السبل لخرق القوانين، وتمكّنت 41,5% من الشركات وأرباب العمل من خَرْق القوانين دون عقوبة، وفق “معهد السياسات الإقتصادية” (تأسس في الولايات المتحدة سنة 2019) الذي لا يحصي سوى الإنتهاكات التي تم الإبلاغ عنها والفصل فيها، ومن المرجح أن يكون العدد أكثر من ذلك بكثير، ويتم اعتبار ملايين الدولارات التي يتم إنفاقها على المحامين استثمارًا مُربحًا، ففي نهاية المطاف، لا يكلف خرق القانون سوى مبالغ قليلة لأن الغرامات المفروضة على مخالفة قوانين العمل ضئيلة جدا، ولا تردع أرباب العمل عن استغلال الهشاشة وانعدام الأمن لدى العمال، والقدرة على التوظيف والفصل حسب الرغبة، وتقديم نوبات عمل غير متوقعة تخدم الشركة على أفضل وجه وما إلى ذلك من الوسائل التي تُمكّن الشركات من تسريع وتيرة العمل وزيادة الإنتاجية، وتضخيم الأرباح بدون حواجز ولا عقوبات رادعة…
تشير دراسات عديدة إلى العلاقة الواضحة بين تأسيس النقابات وحماية العُمّال والتأمين الصّحّي والتقاعد وارتفاع الأجور (رغم الحُدُود التي تفرضها القوانين الرديئة) والحَدّ من الوظائف الهشّة، كما تُشير الدّراسات إلى تصرف العديد من أصحاب العمل في الشركات كرجال عصابات متعطشين للربح بأي ثمن، غير إن العمل النقابي أتاح وحدة العُمّال وتمتين التّضامن فيما بينهم، وهي إحدى الدّروس الهامة التي يُتيحها العمل النقابي، غير إن العمل النقابي وسيلة وليس هدف بذاته، وفيما يلي نظرة سريعة على تجربة العمل النقابي لليسار الإشتراكي في تونس:
اندمج اليسار التونسي في العمل النقابي، وتحمّل العديد من مناضلي منظمات وأحزاب اليسار مسؤوليات بدرجات مختلفة، من النقابات الأساسية إلى المكتب التنفيذي الوطني، وأظهرت هذه التجربة المُمتدّة على فترة قاربت الخمسة عقود حُدُود العمل النقابي إذا لم يكن مدعومًا بالعمل السياسي خارج الإطار النقابي، وأظهرت إن اليسار التونسي كان (ولا يزال) فاقدًا لأي رُؤْية ثورية ولأي برنامج أو هدف من العمل النقابي الذي أصبح هدفًا بذاته، وليس أداة لرفع درجة الوعي الطبقي للطبقة العاملة، واقتصر هدف العمل النقابي على تحويل بعض المناضلين من أُجَراء إلى برجوازيين متوسّطي الدّخل، مكّنهم العمل النقابي من الإرتقاء بضع درجات في السُّلَّم الطبقي والإنتقال من السكن في الأحياء الشعبية إلى أحياء هادئة، لا يستخدم سُكّانها وسائل النّقل العمومي المُكتظّة والمُهترئة، ولم يُقدّم هؤلاء شيئًا يُخلّد ذكرهم في تاريخ نضال الطبقة العاملة التونسية، بل أصبحوا نموذجًا سلبيا يُعيق دعاية اليسار من أجل مجتمع عادل…
الضمان الإجتماعي والعلاقة بين نمو الإنتاجية وارتفاع نسبة المتقاعدين إلى العاملين النشطين
تكاثرت الدّراسات والمقالات الصّحفية التي تُحذّر من ارتفاع عدد المُسنّين في كافة المجتمعات ومن انخفاض نسبة العمال إلى المتقاعدين، وتُشير إلى “حَتْمِيّة إفلاس منظومة التأمين الإجتماعي، وتتطلب مناقشة هذا الرأي إبداء بعض الملاحظات:
تزامن انخفاض عدد المواليد الجدد مع ارتفاع حجم البطالة لدى الشباب وارتفاع حِصّة الإقتصاد الموازي من الناتج المحلي الإجمالي وارتفاع حجم ونسبة العُقود الهشّة والعمل بدوام جزئي وبرواتب متدنّية وقَضْم المُكتسبات التي حصل عليها العاملون (والمجتمع) بالنضالات والتّضحيات، في المقابل ارتفعت ثروة أثرى الأثرياء والشركات العابرة للقارات إلى مستويات قياسية، بفعل الإرتفاع القياسي للإنتاجية، وتم احتكار 90% من الثروة العالمية لدى أقل من 1% من أثرياء العالم، ويمكن لنمو الإنتاجية أن يسمح بارتفاع مستويات المعيشة للجميع لو تم توزيع ثمار ارتفاع الإنتاجية وعائدات المُضاربة بشيء من العدل، وبدل استخدام التكنولوجيا ( التي تُمكّن من إنتاج المزيد من السّلع والخدمات خلال وقت قصير) من قِبَل الرأسمالية لزيادة أرباحها، يمكن استخدامها لتحسين مستوى عيش كافة السكان والزيادة الفعلية لحصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي من خلال تحسين التغذية والسّكن والرعاية الصحية، لكي يعيش المواطنون فترة أطول، بأقل قَدْرٍ من الرعاية الطّبّيّة، مع التركيز على التّوعية والوقاية…
إن التيارات الإشتراكية مُقَصِّرة في دراسة مثل هذه المواضيع وفي التفكير لابتكار حُلُول لهذه المسائل التي يتم التّرويج لها وتهويلها بهدف إلهاءً المواطنين عن التغييرات السياسية التي قد تؤدي إلى تحسين ظروف حياة أغلبية الناس…
تجربة الجبهة الشعبية بتونس
بعد انتفاضة السابع عشر من كانون الأول/ديسمبر 2010 تشكّل ائتلاف يضم اليسار الإشتراكي وجزء من القوميين العرب ضمن “الجبهة الشعبية”، وشاركت الجبهة في الإنتخابات التي جرت بين 2011 و 2019، قبل أن تَنْحَلَّ، دون نَشْر تقيِيم لعمل الجبهة طيلة سنوات عمرها القصير، وبقيت العديد من الأسئلة مُعَلّقة، ومن بينها:
هل يحقُّ للإشتراكيين المشاركة في الإنتخابات والتصويت للمتنافسين ضمن قواعد حدّدتها الرأسمالية؟ هل يجب المُشاركة والتصويت في ديمقراطية برجوازية أم البقاء خارج مؤسسات النظام؟ هل يستطيع الفائزون بمقاعد برلمانية أن يظلوا صادقين وفعالين أم يجب اعتبارهم جزءا من النظام السياسي الرأسمالي؟ هل سيتم حل مشاكلنا المجتمعية ــ على حد تعبير روزا لوكسمبورج قبل نحو 125 عاماً ــ من خلال “الإصلاح أم الثورة”؟
إن بناء الإشتراكية في بلدان “الأطراف” (الواقعة تحت الهيمنة الإمبريالية) يختلف عن بناء الإشتراكية في دول “المركز” ( البلدان الإمبريالية) ويمكن اعتبار “اشتراكية العالم الثالث”، التي تم تصورها في “البلدان النامية” وناضل الناس من أجل إنجازها، نضال على جبْهَتَيْن: الرأسمالية المُعَوْلَمَة، رأسمالية الشركات العابرة للقارات، والجبهة الدّاخلية، ضد البرجوازية الكمبرادورية، وكيلة الرأسمال العالمي، مُرورًا بالنضال اليومي الطبقي والإجتماعي من أجل حقوق العمال، وحقوق السكن، وحقوق الناس الذين تم إقصاؤهم وتهميشهم وتجاهلهم تاريخيا، وتتعلق كذلك بالقدرة على الحصول على اقتصاد إنتاجي مستدام والإهتمام بالقضايا الحقيقية التي تحسّن مستوى عيش كل الناس، دون حاجة الأفراد والأُسَر إلى الإقتراض من المصارف أو البحث عن عمل إضافي، ودون حاجة الدّولة إلى الإقتراض من الكَواسِر، مثل صندوق النّقد الدّولي والبنك العالمي ونادي باريس أو غيرها…
التعليقات مغلقة.