صناعة التفاهة وثقافة السَفْه! … وانّى رَكَزَ الدَّعيُّ ابنَ الدَّعيْ في غزة، فقد فعلها وفَعَّلها أهل الميدان: هَيْهاتَ مِنّا التفاهةُ والسفهُ والذِلَّةُ! / الياس فاخوري




الياس فاخوري ( الأردن ) – الثلاثاء 28/5/2024 م …
صناعة التفاهة وثقافة السَفْه!
زراعة “المولات” واقتلاع الأشجار: ازرع “مولاً” واقتلع آلاف الأشجار تحصد “أموالاً” وسفاهةً!
وانّى رَكَزَ الدَّعيُّ ابنَ الدَّعيْ في غزة، فقد فعلها وفَعَّلها (بالعمل والبندقية – القول وحده لا يُجدي) أهل الميدان: هَيْهاتَ مِنّا التفاهةُ والسفهُ والذِلَّةُ!
بغنى اللغة العربية وسحرها الذي يخطف الالباب، تكون “مولات” جمع مؤنث (غير) سالم، ويتم جمع التكسير “اموال” بتغييرٍ في بناءِ المفردهِ بالزيادة شكلاً! 
 
 فكما علّمنا امير الشعراء، احمد شوقي:
“إِنَّ الَّذي مَلَأَ اللُغاتِ مَحاسِناً//
جَعَلَ الجَمالَ وَسَرَّهُ في الضادِ//”
 
وكذلك فعل شاعر النيل، حافظ ابراهيم:
“أنا البحرُ فى أحشائِهِ الدرُّ كَامِنٌ//
فَهَلْ سَأَلُـوا الغَـوَّاصَ عَـنْ صَدَفَاتـى؟//”
 
وبالغوص بحثاً عن صدفات لغة الضاد وأسرارها، هذه بعض مرادفات “السفه” و”التفاهة” وكلمات ذات صلة:
هراء، سخافة، زهو، غرو، إسفاف، سخف، جَهْل , حَماقَة , حُمْق , طَيْش , غَبَاوَة , نَزَق، هَرَب، تَتبّع الأُمُور الدَنيئَة، سفاهة، احتقار، سخرية، استهزاء، بله، رعونة، انحلال، وضاعة، قبح، فساد، بذاءة، دناءة، سقوط، هبوط، رداءة، حقارة، خطل، خسة، هزالة، ركاكة، ضعف، غثاثة، رقاعة، خَرْق، بلاهة، نذالة، بواخة، خيبة، خواء، فراغ، وهن، خمول، دثور، ذبول، بطلان، خبث، خسة، تسطيح ..
اما التعريفات، والأمثلة فلا تنضب وهي تطال مختلف الميادين من اقتصاد وسياسة ودين وفكر وتكنولوجيا، وفن (السينما، والمسلسلات التلفزيونية – التركية والرياضية مثلاً) وغناء وأدب وإعلام وتربية وتعليم!.. والقائمة تطول والمظلات كٌثر وعلى كافة الاصعدة الأكاديمية والثّقافيّة والاجتماعية والحضارية من برامج تلفزيونية وتصريحات صحفية وندوات عامة، ومجالس شعبية، ومواقع إليكترونية ..
أمّا عن زراعة “المولات”، فهذه تغريدة سابقة لديانا فاخوري:
 
[Some of our countries are really jammed with huge and tremendous collections of malls that are (over)jammed with shopping centres, emporiums, plazas, bodegas, chain stores, booths, outlets, bazaars, dimestores, arcades, marketplaces, fairs, galerias, agoras, piazzas, shopping malls, mini-malls, shopping complexs, flea marketd, strip malls, shopping plazas, shopping precincts, souks, mini-marts, commercial centers, parades, shopping parades, shopping arcades .. and the list is too long!
 
Indoor malls are commonly several stories high, the different levels connected with escalators. There can be dozens or even hundreds of stores inside a mall, along with places to eat, drink, and rest, and often to watch movies, play video games, or even ride on a carousel. Outdoor malls are either organized like old-fashioned downtown areas, with sidewalks, or just a row of shops with a large parking lot — also called a “strip mall.”]
تتحدث التغريدة أعلاه وغيرها عن تزاحم “المولات” وازدحامها بزخم مراكز التسوق والترفيه بحيوية ديناميتها داخل “المولات” الى جانب التسوق عن بعد (عبر شبكة الإنترنيت) والتوصيل “المجاني” تارةً و”السريع” تارةً اخرى الامر الذي خلق مرضاً عضالاً هو التهاب (بل سرطان) الزائدة الاستهلاكية “Consumeritism” حيث ينصرف الواحد منا عن العمل والفعالية والإنتاج الى مجرد الاستهلاك طعاماً ولباساً وترفيهاً وينغمس بالمظاهر الصورية المصطنعة والملفقة والخادعة (اِخْتَلَاق، اِدّعَاء، بَهْرَجة، تَصَنّع، تَظَاهَر، تَكَلّف، تزَوير، زَيّف، كذب، تقليد، محاكاة) ليخلق انطباعاً زائفاً عند الغير ..
 
ويخبرك رؤساء ومسؤولو إدارات الموارد البشرية في الشركات الكبرى (Heads of HR at S&P 500 firms) كم وكيف تغص ملفات السِّيَر الذاتية التي تصلهم او تلك المنشورة على مواقع التواصل الاجتماعي بمحاولات الخداع والتعمية بحرف الحقيقة وليّها خاصةً فيما يتعلق بالقدرات والمنجزات!
 
أين هؤلاء من قوله تعالى: “وَقُلِ ٱعْمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُۥ وَٱلْمُؤْمِنُونَ ۖوَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ” (التوبة – 105) .. 
اين هم من معلقة زهير بن أبي سلمى:
وَمَهْمَا تَكُنْ عِنْدَ امْرِئٍ مَنْ خَلِيقَـةٍ// وَإِنْ خَالَهَا تَخْفَى عَلَى النَّاسِ تُعْلَـمِ//
 
أصبحت التفاهة حرفةً وصناعةً تسير وفق تخطيط ممنهج ومدروس (الترفيه الأسود) قوامه نزع السياسة عن الشأن العام، وصرف المواطن عن المواطنة والالتزام بالقيم والمبادئ ليهبط سلم التفاهة، ويقوم بأعمال عبثية تافهة لا جدوى لها او منها ولا فائدة، ويندفع لترويج واستدرار ومراكمة المزيد من العبث والتفاهات والسخف ويختزنها، ويتأقلم معها، ويتكئ عليها! انها صناعة الترفيه تضخًُّ ثقافة الرياضة والرقص والغناء وحفلات “ملكات الجمال” من ناحية، وتقوم بالترويج المريع لثقافة الانغلاق و”الغيتو” لتتعطل “ديناميكية الأزمنة” في الدول والمجتمعات فنبلغ قمة التفكير العدمي، من ناحية اخرى!
 
ولعل هذا ان يعيدنا لمقالي بتاريخ June 19, 2023: [الغزو من الداخل واستراتيجية “الإلهاء”.. مَن الـمـسـتعمر الــسـرّي؟ من عبدالله البردوني الى نعوم تشومسكي!] .. تطرق المقال لإستراتجية الإلهاء أو التسلية ضمن ”استراتجيات التحكم والتوجيه والتضليل العشر“:
”حافظوا على اهتمام الرأي العام بعيدا عن المشاكل الاجتماعية الحقيقية ، اجعلوه مفتونا بمسائل لا أهمية حقيقية لها“.
هذه المقتطفات من كتيب أو دليل ” الأسلحة الصامتة لخوض حرب باردة ” هي التي جعلت تشومسكي يرى بأن وظيفة وسائل الإعلام هي الهاء الجماهير عن الوصول إلى معلومات حول القضايا الهامة و التغيرات التي تقررها النخب السياسية و الاقتصادية عن طريق وسائل الترفيه المختلفة و التي تروج لمصالح الفئات المسيطرة في المجتمع كما تقول النظرية النقدية قي دراسة الاتصال .. ومنه، أن ما تقدمه وسائل الإعلام حسب هذا المقتطف هو عبارة عن ”الهاء الناس عن البحث عن الحقيقة” فمن خلال الثقافة الجماهيرية التي تقوم وسائل الترفيه بنشرها، ينجح أصحاب النفوذ السياسي والاقتصادي في تحقيق أهدافهم”.
 
وهكذا يستحسن الناس التفاهة والرداءة فيسيروا رعاعًا كالقطيع نحو كل ما هو سخيف ومبتذل ودنيء لتأتينا أجيالٌ تائهةٌ عائمةٌ ومعلَّبة .. “وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ۖ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ۖ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ ۖ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ۚ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۖ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ” (المنافقون: 4).
 
نعم، بحجة الترفيه والمتعة والتسلية وتضييع الوقت بتنا ندور في حلقةٍ مفرغةٍ الا من الفراغ، فمن “مول” لآخر ومن تسوقٍ لمطعمٍ فدورة المياه (هنا لا بد من الإشارة الى الاهتمام بالنظافة تيسيراً للهدف الأساسي) .. وهكذا يتم إستغفالنا بعلمنا ومعرفتنا، فنصنع التفاهة والتافهين بمصادرنا وأموالنا ووقتنا، ثم نشارك في احتفالات ومهرجانات رسمية فاخرة للاحتفاء بهم حيث تُوزع الألقاب والجوائز والمكافآت! ..كما يصل العمل البرلماني الى تيه لا أفق له، وهذه وسائل التواصل تمنح الناس شعوراً مزيّفاً بالقيام بالواجب. .. ولكم نُهينا عن تصدر السفهاء أمور الأمة كما في الحديث الشريف: “إِنَّهَا سَتَأْتِي عَلَى النَّاسِ سِنُونَ خَدَّاعَةٌ، يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ. قِيلَ: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟ قَالَ: السَّفِيهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ. وفي رواية اخرى: قِيلَ: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟ قَالَ: الْفُوَيْسِقُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ.” .. وعليه، هل هناك ثمة مكان لقول الصوفي شمس الدين التبريزي “الذين يعبر نور الله من خلالهم”!؟
 
وهذا المفكر الروسي ألكسندر دوغين (Aleksandr Dugin) يلاحظ أن دول محور الشر “الاوروامريكى” يعملون على تدمير البنية الفلسفية والبنية التاريخية للدولة، من خلال الايغال في “السياسات الاقتصادية العائمة”. ويرى ان الاستهلاك الهيستيري (جنة الحمقى) يؤدي الى تقهقر الانتاج الصناعي والزراعي، ليصل التخلخل الى اللاوعي القومي الروسي وينخر الصدأ خوذات العسكريين!
 
وبعد، افلا تذكرون هيلين كارير ـ دانكوس (Hélène Carrère d’Encausse) المتخصصة في الشؤون السوفياتية والروسية؟ هي التي كانت قد لاحظت أن الاتحاد السوفياتي لم يتفكك بقرع الطبول، بل بتغلغل ثقافة ساقي “مارلين مونرو” – وهما يختزلان ثقافة الحياة في الولايات المتحدة – برؤوس القادة السوفيات عندما أطلق ميخائيل غورباتشوف البريسترويكا (اعادة الهيكلة) والغلاسنوست (الانفتاح)، لتتساقط مفاصل الدولة السوفيتية الواحد تلو الآخر!
 
وها هو الباحث الاقتصادي الأميركي جيمس غالبريث (James Kenneth Galbraith) يصف جو بايدن بالغباء الاستراتيجي “حين أيقظ الدب القطبي من البيات الشتوي” .. لان “المسألة لم تكن تستدعي أكثر من زيارة الليدي غاغا لموسكو والتجول في شوارعها، لكي تسقط أسوار الكرملين”.!
 
هذا غيض من فيض لِيُلهِنا اعلامهم ووسائل الترفيه عن المسائل الحقيقية والقضايا الهامة غزواً داخلياً ومستعمِرّاً سرّياً كما أسهب البردوني، ومن بعده تشومسكي ..
 
وأختم بما كنت قد بدأت بِه مقالي المشار اليه أعلاه – اعني الآية الكريمة 9 – سورة المنافقون: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ” .. لقد نهى الله في هذه الآية الكريمة عن الانشغال بأمر الأموال والتصرف فيها والسعي في تدبير أمرها، والانشغال بأمر الأولاد إلى حد الغفلة عن ذكر الله، وإيثار ذلك عليه ومن يفعل ذلك كان خاسراً خسارة عظيمة. هذا معنى الآية على وجه الإجمال، إلا أن هناك أسراراً تعبيرية تدعو إلى التأمل منها: 1ـ إنه قال: (لا تلهكم أموالكم) ومعنى (لا تلهكم): لا تشغلكم وقد تقول: لماذا لم يقل: (لا تشغلكم)؟ والجواب: أن من الشغل ما هو محمود فقد يكون شغلاً في حق كما جاء في الحديث: “إن الصلاة لشغلاً” وكما قال تعالى: “إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ” [يس – 55] أما الإلهاء فمما لا خير فيه وهو مذموم على وجه العموم، فاختار ما هو أحق بالنهي.
 
اما ايمان “ديانا” المطلق: ” اسرائيل الى زوال” فيبقى منقوشاً على ظهر الدهر لتهزم الموت روحا نقيّا كالسَّنا .. نعم، “ديانا”، ما زلنا نصغي لصدى خطواتِكِ فى أرض فلسطين ونردد معك:
فلندعم المحتوى الهادف، ونستجب لقوله تعالى:”خُذِ ٱلْعَفْوَ وَأْمُرْ بِٱلْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْجَٰهِلِينَ” (الأعراف – 199) .. فَأَمّا الزّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمّا مَا يَنفَعُ النّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأمْثَالَ (الرعد – 17) .. ويلاقيها بنو المقاومة فانّى رَكَزَ الدَّعيُّ ابنَ الدَّعيْ في غزة، فقد فعلها وفَعَّلها (بالعمل والبندقية) أهل الميدان: هَيْهاتَ مِنّا التفاهةُ والسَفْهُ والذِلَّةُ!
 
واذ يطالعنا وجه “ديانا” والسماء ببسمة لكأنها بسمة انبياء، يقول سميح القاسم:
“هنا سِفرُ تكوينهم ينتهي
هنا .. سفر تكويننا .. في ابتداء!”
 
الدائم هو الله، ودائم هو الأردن العربي، ودائمة هي فلسطين ..
نصركم دائم .. الا أنكم أنتم المفلحون الغالبون ..
 
الياس فاخوري
كاتب عربي أردني

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.