الحرب التجارية في أقيانوسيا / الطاهر المعز 

الطاهر المعز  ( تونس ) – الأربعاء 29/5/2024 م …




اشتدت المنافسة الصينية الأمريكية على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية في منطقة المحيط الهادئ، بسبب موقعها الاستراتيجي وبسبب رغبة القوى العظمى في الاستيلاء على بعض الموارد الأساسية للصناعات الجديدة، مثل الحواسيب والهواتف والسيارات…

كانت منطقة المحيط الهادئ، لفترة طويلة، مجالًا أمريكيًا، ففي وقت مبكر من سنة 1898، هزمت الولايات المتحدة إسبانيا واحتلت مُستعمَرَتَها “الفلبين” وضمت جزيرة “هاواي”، وبعد الحرب العالمية الثانية وهزيمة اليابان، أصبح المحيط الهادئ تحت سيطرة الإمبريالية الأمريكية وحلفائها بالكامل، وأصبحت جزر المحيط الهادئ تُشكّل منطقة دفاع على جانبها الغربي للولايات المتحدة، وأصبحت هذه الجزر إما تحت السيطرة المباشرة للولايات المتحدة (غوام أو هاواي، الأرخبيل الذي أصبح دولة اتحادية سنة 1959) وجزء من الأرخبيل الميكرونيزي، أو تحت سيطرة حلفاء واشنطن، البريطانيين والفرنسيين والأستراليين ونيوزيلندا، وفي السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين، نالت العديد من هذه المناطق استقلالها الشّكلي، وأصبح لها صوت في الأمم المتحدة، لكنها ظلت تحت النفوذ الأمريكي المباشر أو غير المباشر، بالإضافة إلى القواعد العسكرية الأمريكية العملاقة في اليابان وكوريا الجنوبية والفلبين، وإلى الأساطيل وحاملات الطائرات التي تجوب البحار، وخصوصا منذ 2012، لما أعلن الرئيس الأمريكي باراك أوباما ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون مُحاصرة الصين والتهيُّء لإغلااق الممرات المائية التي تمر منها نحو 40% من تجاروة الصين، لكن منظومة الهيمنة الأميركية بدأت في التصدع منذ بداية القرن الحادي والعشرين، ولم تدعم الولايات المتحدة الدول الصغيرة في المنطقة التي كانت تعاني من صعوبات اقتصادية، فاستغلت الصين الفرصة – وهي دولة مجاورة نسبياً – وانتهجت تدريجياً سياسة النفوذ التّقليدية من خلال الاستثمارات والقروض، وخصوصًا منذ إطلاق مبادرة “الحزام والطريق” (أو طريق الحرير الجديدة) سنة 2013.

أطْلَقت الصين، سنة 2006، منتدى التنمية الاقتصادية والتعاون في جزر المحيط الهادئ، ووقَّعَت اتفاقية تعاون اقتصادي مع فانواتو، وهي منطقة هيمنة مشتركة فرنسية بريطانية سابقة حصلت على استقلالها سنة 1980، وتقع في شمال أرخبيل كاناكي ( مُستعمَرَة فرنسية تُسميها فرنسا “كاليدونيا الجديدة” ) ومنذ ذلك الحين، اقتربت هذه الدوَيْلَة بشكل كبير من الصين الشعبية، إلى حد دمج مبادرة “طريق الحرير الجديد” سنة 2019، وهي الشبكة الاقتصادية التي أسستها بكين سنة 2013، لكن مصلحة الصين هي قبل كل شيء استراتيجية وليست اقتصادية، لأن الربح الإقتصادي فالصيني ي فانواتو ضئيل.

توقفت الدول الأخرى تدريجيا عن الاعتراف بتايوان، وأقامت، بالمقابل، علاقات دبلوماسية مع جمهورية الصين الشعبية التي استثمرت مبالغ كبيرة مما سمح للصين بأن تصبح ركيزة ضرورية لاقتصادات المنطقة، ولم تبق سوى ثلاث دُوَيْلات في المحيط الهادي (بالاو وجزر مارشال وتوفالو) تعترف بتايوان، بنهاية سنة 2023، من إجمال 12 دولة في العالم تعترف بتايوان، وهذه الدُّوَيْلات الثلاث هي عبارة عن مستعمرات أمريكية ( مستعمرات غير مباشرة، ذات استقلال شكلي).

يترافق الإستثمار والجانب الإقتصادي الصّيني مع نفوذ سياسي، وأحياناً عسكري ( رغم ادّعاء الصّين عدم إملاء أي شروط)، وعلى سبيل المثل، وقَّعَتْ جزر سليمان، وهي أرخبيل شرق بابوا غينيا الجديدة، اتفاقية أمنية مع الصين في تموز/يوليو 2023، واتفاقيات مع “فانواتو” و “كيريباتي”، ولم تشترط الصين سوى الدّفاع عن الأمن المُشترك، لكن سلطات جزر سليمان رفضت وصول السفن العسكرية الأمريكية إلى موانئها للصيانة والتزود بالوقود ولوازم أخرى، خلال شهر آب/أغسطس 2022. وقامت جزر فانواتو بنفس الشيء خلال شهر كانون الثاني/يناير 2023، لكن لا يزال للولايات المتحدة حلفاء أقوياء ومخلصون ولها قواعد عسكرية ضخمة في  أستراليا و نيوزيلندا أو جزر بالاو، وهي ملاذ ضريبي قريب من ميكرونيزيا، معقل أمريكا مع جزر فيجي، فضلا عن القواعد الأخرى في اليابان وكوريا الجنوبية والفلبين وغيرها.

تقع منطقة المحيط الهادئ أيضاً في قلب التنافس الاقتصادي بين الصين والولايات المتحدة، وتعمل الصين على تعزيز نفوذها من خلال الاستثمارات، وهي أكبر دائن لجزر تونغا التي تمثل ديونها تجاه الصين نحو 25% من ناتجها الإجمالي المحلي، كما تستثمر الصين مبالغ كبيرة للسيطرة على إنتاج بعض المعادن مثل النيكل في إندونيسيا، أكبر منتج في العالم بنسبة 48,6% من إجمالي الإنتاج العالمي، والنيكل معدن ضروري للصناعات “الخضراء” التي تعتزم الصين السيطرة عليها، ولا سيما بطاريات السيارات الكهربائية، وتتمثل استراتيجية الصين في السيطرة على سلسلة إنتاج هذه المواد التي تقع في قلب الإستراتيجية الصينية للهيمنة على قطاع التقنيات الجديدةفي مجال الإتصالات والطاقات المتجدّدة والسيارات الكهربائية…

تهيمن الولايات المتحدة وحلفاؤها على منطقة أوقيانوسيا منذ فترة طويلة بلا منازع، ولكن النفوذ الصيني ينمو بسرعة، منذ بداية القرن الحادي والعشرين، وبدأ يقترب من المعاقل الأمريكية في أستراليا ونيوزيلدة والفلبين وغيرها، وعلى سبيل المثال، تقع جزيرة بوغانفيل غرب جزر سليمان، وهي جزء من بابوا غينيا الجديدة ( غير بعيد من استراليا) فهي موطن لمنجم “بانغوما” العملاق الغني بالذهب والنحاس والفضة، ونشأت وتطورت حركة استقلال مسلحة لسنوات عديدة، لكي يعود استخراج هذا المنجم بالنفع على سكان الجزيرة، وبعد استفتاء عام 2019، قبلت بابوا غينيا الجديدة الاستقلال، ومن المفترض أن يصبح الإستقلال ساري المفعول سنة 2027، لكن الولايات المتحدة والصين تتنافسان للسيطرة على موارد منجم بانغوما التي كانت تحت السيطرة “الغربية” (ألمانيا، بريطانيا العظمى أو أستراليا، وما إلى ذلك) منذ القرن التاسع عشر، ولئن بدأت “الكتلة الغربية”، بقيادة الولايات المتحدة، تفقد نفوذها تدريجياً لصالح الصين، فإن الصين ليست صديقاً يتمنى الخير لشعوب بلدان “الأطراف” أو “المُحيط”، بل إن السلطة الصينية تُمثل نظامًا رأسماليا يدافع عن مصالحه ومصالح شركاته ولا يهدف النظام السياسي الصيني سوى الحصول على مكاسب اقتصادية وسياسية واستراتيجية

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.