فرنسا غداة انتخابات البرلمان الأوروبي / الطاهر المعز

الطاهر المعز ( تونس ) – الجمعة 14/6/2024 م …

ارتفعت نسبة تأييد اليمين المتطرف في العالم ( الولايات المتحدة والبرازيل والأرجنتين) وأظهرت النتائج النهائية لانتخابات البرلمان الأوروبي ( من السادس إلى التاسع من حزيران/يونيو 2024)، صعود اليمين المتطرف في أوروبا، وحصول مجموعة حزب الشعب ( يمين) على 25,3% من المقاعد، تليها مجموعة الاشتراكيين ( الديمقراطية الإجتماعية) بنسبة 18,8% ثم الليبراليون بنسبة 11,5% وحصل المحافظون على 10% بينما حصل اليمين المتطرف على 8,1% وحلّت أحزاب البيئة في المركز قبل الأخير بنسبة 7,4%  وبذلك حصل اليمين التقليدي الأوروبي المُحافظ على أغلبية مقاعد البرلمان الأوروبي وفازت أحزاب اليمين المتطرف بحوالي رُبع المقاعد، وفي فرنسا، فاز حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف بزعامة مارين لوبان بقرابة 32% من الأصوات، وحصل حزب النهضة اليميني بزعامة الرئيس إيمانويل ماكرون على 14,6%، ما دفعه إلى الدعوة إلى انتخابات برلمانية وطنية سابقة لأوانها، وفي ألمانيا، احتل حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني المتطرف المركز الثاني بقرابة نسبة 16% من الأصوات متقدما على الحزب الديمقراطي الاشتراكي بزعامة المستشار شولتس، الذي حصل على أقل من 14% وهي أسوأ نتيجة له على الإطلاق، وفي إيطاليا احتل حزب اليمين المتطرف الذي تتزعّمه رئيسة الحكومة ميلوني المركز الأول بأكثر من 28,7% من الأصوات، وفي بولندا وإسبانيا فازت الأحزاب اليمينية ( التي تسمي نفسها “يمين الوَسَط”) بأغلبية المقاعد، لكن يُؤشّر ارتفاع عدد نواب اليمين المتطرف بالبرلمان الأوروبي إلى صعوبة تشكيل الأغلبية المطلوبة لإقرار بعض القوانين أو وفاق حول قضايا محورية ومن بينها السياسة الخارجية والقضايا الاجتماعية، وعموما يمكن تلخيص هذه الإنتخابات في تحقيق أحزاب اليمين المتطرف مكاسب كبيرة من خلال صعودها إلى المراكز الأولى أو تحسين نتائجها السابقة، خاصة في فرنسا وإيطاليا حيث حصلت على المركز الأول، وعلى المركز الثاني في هولندا وألمانيا وعلى موقع متقدم في النمسا…  




في فرنسا، أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مساء الأحد 09 حزيران/يونيو 2024 حل البرلمان والتوجه إلى انتخابات مبكرة، بعد الفوز الكاسح للتجمع الوطني اليميني المتطرف في الانتخابات البرلمانية الأوروبية، وذلك إثْرَ تَدَنِّي شعبية الرئيس قبل ثلاث سنوات من نهاية فترة ولايته الثانية وموعد الإنتخابات المُقبلة وإصابة برلمانه بالشلل، مما اضطر الحكومة لاتباع أدوات دستورية غير مرغوبة، تُسمّى إجراء 49 – 3، لتمرير تشريعات لا تحظى بشعبية، دون نقاش برلماني.


إطار الإنتخابات الأوروبية

دعمت فئات من الرأسمالية الأوروبية ومن وسائل الإعلام – التي تصنع الرأي العام – انتشار الفكر الفاشي الذي يتبناه اليمين المتطرف في أوروبا، منبع الرأسمالية والإستعمار والفاشية والعُنصرية، وترسيخ أحزاب اليمين المتطرف كمُكَوّن رئيسي للمشهد السياسي العام في أوروبا، بعد نبْذ الإيديولوجيات الفاشية بنهاية الحرب العالمية الثانية، بفعل تَصَدُّر الأحزاب الشيوعية مُقاومة الفاشية والنازية في بلدان عديدة، أهمها فرنسا وإيطاليا واليونان ويوغسلافيا…  

بعد استحواذ الليبرالية الجديدة (النيوليبرالية) على السلطة في الولايات المتحدة وبريطانيا، ثم في مجمل الدّول الأوروبية، خلال العقود الأربعة الماضية، وخصوصًا منذ بداية القرن الواحد والعشرين، أصبح الخطاب العُنصري والمُعادي للعمال والفئات الشعبية سائدًا، يدعو إلى “سلطة تنفيذية قوية، قادرة على فرض القرارات الحاسمة على المجتمع، داخل كل بلد، وكذلك في العالم…”، وهي السياسات التي كان يُطبقها الإتحاد الأوروبي (وحكومات كل الدّول الأوروبية) ضد المُهاجرين والعُمّال والفُقراء، وكذلك ضد الشعوب العربية (فلسطين وسوريا وليبيا والعراق واليمن…) والإفريقية، من خلال حلف شمال الأطلسي الذي تقوده الولايات المتحدة، زعيمة القوى الإمبريالية، والذي يُصعّد التّوتّرات مع روسيا والصين وإيران وكوريا الشمالية وغيرها…   

تندرج انتخابات أعضاء البرلمان الأوروبي ضمن هذا الإطار، مع الإشارة إلى الدّور المحدود للبرلمان الأوروبي الذي يشترك مع المجلس الأوروبي ( الذي يُمثل الحكومات) في اتخاذ القرار بشأن القوانين التي تحكم الكتلة المكونة من 27 دولة والتي يبلغ عدد سكانها 450 مليون نسمة، ولكن رئيسة وأعضاء المُفوّضية الأوروبية، غير المنتخبين، يمتلكون السلطة الفعلية وبإمكانهم اتخاذ العديد من القرارات دون استشارة البرلمان الأوروبي، أو الإقتصار على استشارة شكلية.  

ارتفعت شعبية اليمين المتطرف في فرنسا وألمانيا وإيطاليا والنمسا وبلجيكا، رغم التراجع الطّفيف في هولندا والمجر وبولندا، واستفادت بذلك أحزاب اليمين المتطرف من نتائج الانتخابات الأوروبيّة التي جرت  بين السادس والتاسع من حزيران/يونيو 2024، وبالخصوص في ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، وزعزعت التوازنات السائدة في سياسة الاتحاد الأوروبي، بينما حققت بعض أحزاب اليسار المائع ( أو الوَسَطي) بعض المكاسب، شمال أوروبا وفي بعض بلدان أوروبا الشرقية، ولكن لا تزال كتلة اليمين الأوروبي (كتلة حزب الشعب في البرلمان الأوروبي) تُشكّل الأغلبية المطلقة لتتمكّن مُرشّحته الرئيسة الحالية للمفوضية الأوروبيّة أورسولا فون دير لاين من جَمْعِ 361 صوت من مواصلة سياستها الموالية للإمبريالية الأمريكية وحلف شمال الأطلسي والدّاعمة للكيان الصّهيوني…

في فرنسا، أسفرت الانتخابات الأوروبية التي جرت يوم التاسع من حزيران/يونيو 2024 عن تحقيق اليمين المتطرف إنجازًا انتخابيًّا قياسيًّا جديدًا، وعن تراجع واضح للتحالف الذي يدعم الرئيس إيمانويل ماكرون. وأظهرت هذه الانتخابات الحدود الاجتماعية لقوى اليسار الراغبة في تشكيل اتحاد انتخابي لتجنب الفشل الذريع خلال الانتخابات التشريعية المبكرة في 30 يونيو 2024.

حقق الحزب الرئيسي والأقدم في أقصى اليمين (حزب التجمع الوطني) تقدمًا في جميع المناطق ولدى جميع الشرائح الاجتماعية تقريبًا (خاصة في دوائر الطبقة العاملة والعمال والأشخاص ذوي المستويات التعليمية المنخفضة)، وحقّق رقما قياسيا تاريخيا، بزيادة ثماني نقاط ( في نسبة الأصوات التي تم الإدلاء بها)، مقارنة بالانتخابات الأوروبية للعام 2019، وقد سمح له معدل الامتناع المرتفع للغاية بتجاوز ما حقّقه خلال الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية لعام 2002، ونجح اليمين المتطرف في استقطاب شرائح كانت تصوت لليمين التقليدي المُحافظ، ومن بينها فئة من البرجوازية التي تخلت عن اليمين الليبرالي وانضمت إلى اليمين المتطرف.

يعتقد الرئيس إيمانويل ماكرون أن الانتخابات التشريعية المبكرة ستسمح له بإعادة تعبئة من انتخبوه سنة 2022 ويُعول كذلك على اجتذاب فئات من الناخبين المترددين من القريبين من اليمين ومن اليسار، من خلال تهويل المواجهة مع اليمين المتطرف، وإظهار نفسه (أي ماكرون) باعتباره الخصم الوحيد الجدير بالثقة، ويأمل في توحيد أحزاب اليمين الليبرالي حول شخصه، بفعل المفاجأة وعدم ترك الوقت الكافي لخصومه ومنافسيه، من اليمين ومن اليسار، لتنظيم صفوفهم…

 

نبذة عن الوضع السياسي في فرنسا

حصل انقسام سياسي داخل المجموعات البرلمانية التي كانت تدعم الرئيس إيمانويل ماكرون، خلال شهر حزيران/يونيو 2022، وفقد الرئيس إيمانويل ماكرون الأغلبية التي تدعم مشاريعه وسياساته، واضطر رؤساء حكوماته إلى استخدام المادة 49 – 3 لِفَرْض القوانين دون نقاش ( مثل نظام التقاعد)، لأن الحكومة لم تعد تحصل على أغلبية ثابتة للتصويت على بعض القوانين، واستمر هذا الوضع وبقي قائمًا خلال الإنتخابات الأوروبية، حيث مُنِيَ حزب “النهضة” ومؤسسه وزعيمه الرئيس إيمانويل ماكرون – الذي كان يُطبّق سياسات اليمين المتطرف – بهزيمة ( حصل على 14%  من الأصوات مقابل 32% لحزب التجمع الوطني، اليميني المتطرف) أَفْضَتْ إلى قرار حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات تشريعية مبكرة يوم 30 حزيران/يونيو 2024، ليفاجئ جل الأحزاب الفرنسية التي اضطرت للتحضير لانتخابات مبكرة والبحث عن تحالفات تُمكّنها من البقاء في المشهد السياسي وتجنب فَوْز اليمين المتطرف. أما الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون فإنه يواجه المخاطر التي واجهها الرئيس جاك شيراك سنة 1997، عندما قرّر حل البرلمان وإجراء انتخابات مُبكّرة، بعد الخلافات التي دَبّت داخل  الأغلبية النيابية التي كانت تدعمه عندما فَرَضَ تخريب نظام التقاعد ( 1995) والتقشف لخفض عجز الميزانية (1997) وأسفرت الإنتخابات المبكرة آنذاك عن فوز ائتلاف الديمقراطية الإجتماعية، بزعامة الحزب “الإشتراكي” الذي شكل حكومة مع الحزب “الشيوعي” وحزب “الخُضْر” والدفاع عن سلامة البيئة…

توسعت رُقعة الإستياء من أسلوب ماكرون القمعي ومن تخريب قوانين العمل والتقاعد وارتفاع تكاليف المعيشة وزيادة حالات الهشاشة والعمل بدوام جزئي وبرواتب منخفضة وما إلى ذلك من تقويض المكتسبات العُمّالية والإجتماعية، ولذلك تحوّل الحزب الرئاسي، خلال سبع سنوات من الأغلبية المطلقة (بالتحالف مع ائتلاف يميني واسع) في مجلس النواب سنة 2017 إلى الأغلبية النسبة، مع حلفائه، سنة 2022، وحقق أسوأ نتيجة له في الانتخابات الأوروبية، مما أفقده شرعية قيادة التيارات اليمينية، وتضاءلت سلطة الرئيس ماكرون منذ أن فقد أغلبيته المطلقة في البرلمان، ويأمل استعادة الأغلبية من خلال مفاجأة الجميع، وإعلان انتخابات سابقة لأوانها، رغم انخفاض شعبيته، لكنه يُدرك إنه من الصعب مواصلة التشريع طوال فترة ولايته الثانية باستخدام آلية استثنائية تُسمّى 49 – 3 أي تمرير القوانين دون نقاشها من قِبَل النُّواب، ومباشرة بعد إعلان حل البرلمان، بدأ بعض أقطاب اليمين الفرنسي يدرسون التعايش مع حزب اليمين المتطرف “التجمع الوطني” وتطبيع العلاقات معه عَلَنًا لتشكيل ائتلاف يميني حاكم يحظى بأغلبية ثابتة في مجلس النواب…

وجب الإنتباه لردود فعل بعض فئات الرأسمالية الفرنسية والأوروبية، فقد تراجعت أسهم اليورو والأسهم الفرنسية والسندات الحكومية، وأسهم المصارف الكُبرى مثل “باريبا” و”سوسيتيه جنرال” “كريدي أغريكول”، مما أدّى إلى انخفاض الأسواق الأوروبية الأخرى، فتراجعت مؤشرات ألمانيا وبريطانيا وإسبانيا وإيطاليا، ودفعت حالة عدم اليقين السياسي المستثمرين إلى الخروج من بعض المؤسسات الكبرى الفرنسية، لأن رأس المال يُفضل الإستقرار لدعم مكاسبه، ويُشعل الحروب عندما يتم تهديد مصالحه بشكل جدِّي، وجاءت ردود الفعل السلبية بعد مكاسب اليمين المتطرف على مستوى الإنتخابات الأوروبية، وفق وكالة رويترز يوم العاشر من حزيران/يونيو 2024، أي غداة إعلان نتيجة الإنتخابات، بالتزامن مع تسابق الأحزاب السياسية الفرنسية لتقديم مرشحين ومناقشة التحالفات المحتملة بعد القرار المفاجئ للرئيس إيمانويل ماكرون بالدعوة إلى انتخابات مبكرة، ولم يترك القرار الوقت الكافي للأحزاب للتشاور ولتحضير الحملة الإنتخابية، خلال أقل من ثلاثة أسابيع حيث تجري الجولة الأولى يوم الثلاثين من حزيران/يونيو وجولة الإعادة يوم السابع من تموز/يوليو 2024، أي قبل وقت قصير من انطلاق دورة باريس للألعاب الأولمبية يوم 26 تموز/يوليو 2024، ومن تحول أنظار مليارات مُشاهدي التلفزيون نحو فرنسا…

يُوفّر قرار الرئيس ماكرون فرصة ذهبية لليمين المتطرف الذي زادت شعبيته وحصل على نتائج قياسية، ويعمل على تشكيل ائتلاف مع أحزاب يمينية متطرفة صغيرة شاركت في الإنتخابات الأوروبية، ولذلك لا يشكل حل المجلس النيابي استجابة حقيقية لأزمة سياسية كبرى، ولا حلا تكتيكيا لأزمة أحزاب اليمين التقليدي، بل يفتح مجالا سياسيا غير مسبوق لليمين المتطرف، لأنه الطرف الأقوى والأكثر استعدادًا لخوض الإنتخابات، مُستغلا نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي، ويُراهِنُ الرئيس ماكرون على تشتّت قُوى اليسار وانقساماتها الداخلية العميقة، فيما تحول القوى المحسوبة على اليسار تشكيل ائتلاف بزعامة “فرنسا الأبية” وأشلاء الحزب الشيوعي والخُضْر والحزب الإشتراكي الذي زاد اقترابه من أُطروحات اليمين التقليدي، ونظرًا لارتفاع نسبة المُمْتَنِعِين عن التّصويت، تحاول كل الأطّراف السياسية الرئيسية حشد هؤلاء الناخبين، وإثنائهم عن العزوف عن التصويت، فقد تميزت انتخابات أعضاء البرلمان الأوروبي بارتفاع نسبة الامتناع عن المشاركة في عملية التّصويت (50%) وبالنتيجة الضعيفة لقائمة النهضة وبالرفض العميق لسياسات ماكرون الذي قدم نفسه على أنه البديل الوحيد لليمين المتطرف، وهو الذي نَفّذ برنامجًا مُوَاتيًا للمؤسسات المالية وللشركات متعددة الجنسيات، ثم أراد من خلال حل الجمعية الوطنية وإجراء انتخابات جديدة في 30 حز/يرانيونيو و7 تموز/يوليو 2024، حَصْر النّاخبين في اختيار زائف بين اليمين واليمين المتطرف، وكلاهما يحرس مصالح الشركات متعددة الجنسيات والمصارف الكبرى، ويختلفان في التكتيك والأساليب ونَسَق التنفيذ، ولا يقتصر الحال على فرنسا وإيطاليا وألمانيا، بل تمكنت أحزاب اليمين المتطرف في 27 دولة أوروبية من الإستفادة من المعدل المرتفع للامتناع عن التصويت لتَمْتَصَّ السخط الشعبي والغضب من سياسات الحكومات الأوروبية، سواء كانت تُمثل الديمقراطية الإجتماعية أو التيارات “المحافظة”، ولكن أحزاب اليمين المتطرف لا تقترح ولا تَعِدُ أبدًابزيادة الرواتب وتحسين ظروف العمل وتحسين الخدمات وظروف النقل العمومي والسكن وما إلى ذلك، ونجحت في إقناع الفُقراء بأن فُقراء آخرين (من المهاجرين وأبنائهم) متسببون في فقرهم وبطالتهم، وليس رأس المال أو الأثرياء وأرباب العمل…

 

خاتمة

كانت أحزاب اليمين المتطرف تدعو قبل عِقْدَيْن إلى تفكيك الإتحاد الأوروبي لأنه جهاز “فَوق الأمم” ( أو عابر للأمم) لا يُراعي المصالح القومية، ثم تلاشت هذه الدّعوات بمرور الزّمن وبارتفاع عدد نُوّاب اليمين المتطرف في المجالس النيابية الوطنية وفي البرلمان الأوروبي، وشكّلت الإنتخابات الأوروبية 2024 التي أضافت نحو ثلاثين نائبًا لكتلة اليمين المتطرف في البرلمان الأوروبي، تحوُّلاً كبيرًا نحو اليمين وتتويجًا لليمين المتطرف الذي تخلّى منذ سنوات عن الدّعوة لمغادرة الإتحاد الأوروبي، بل أصبح راسخ القدم في البرلمان الأوروبي ومُؤَثِّرًا على التوجهات السياسية الإتحاد أو عرقلة بعض القرارات، وتُمثل فرنسا وألمانيا وإيطاليا نماذج لهذا التحول نحو اليمين الذي لم يبدأ سنة 2024 بل منذ بداية القرن الواحد والعشرين، وفي فرنسا كان نيكولا ساركوزي رمزًا لهذا التحول الذي لم يتوقّف، غير إن حكومة إيمانويل ماكرون تفتقد إلى الأغلبية المطلقة في البرلمان منذ حزيران/يونيو 2022، واعتمدت على أحكام دستورية استثنائية تسمح لحكومة الأقلية بتجنب تصويت النواب لتمرير بعض التشريعات دون أغلبية، كرفع سن التقاعد وتخريب قوانين العمل والتأمين الإجتماعي وقوانين الهجرة المُستوحاة من أُطروحات اليمين المتطرف الذي تَحَوّلَ بفعل السياسات القائمة منذ رئاسة نيكولا ساركوزي، إلى مركز ثقل السياسات الرسمية الفرنسية (بما فيها فترة رئاسة فرنسوا هولاند من الحزب “الإشتراكي” الذي نصب مانويل فالس رئيسا للحكومة وإيمانويل ماكرون وزيرًا للمالية)، وجسّدت الإنتخابات الأوروبية انحدارها إلى الحضيض، ما يُمثل رفضًا للسياسات النيوليبرالية التي فرضها الرئيس ماكرون وفريقه بفظاظة وبصَلَفٍ، متجاوزًا بذاءة نيكولا ساركوزي، وأَقَرّت هذه الحكومة (والحكومات التي سبقتها) العديد من فُصول برنامج اليمين المتطرف الذي استفاد من تشتت اليسار ومن غياب بديل اقتصادي واجتماعي تقدّمي، من يأس الفُقراء ومن الغضب الشعبي الذي جابهته السُّلْطة بالقمع السّافر…

يعتمد اليمين المتطرف، تاريخيا، على أصوات اليمين التقليدي، لكن توسُّعَه كان بفضل بعض الفئات المتوسطة ذات الحسابات الإنتهازية، والفئات الفقيرة التي تفتقد إلى الثقافة السياسية وتُشكّل وسائل الإعلام المملوكة لأثرياء من اليمين التقليدي أو المتطرف، المَصْدَرَ السياسي والإعلامي الوحيد للعديد من الفقراء وسكّان البلدات الصغيرة في فرنسا، التي أطلق سُكانها حركة “السّترات الصّفراء”…

إن ارتفاع نسبة الامتناع عن التصويت – كدليل على الإنفصام بين الأحزاب القائمة وأغلبية المواطنين – وتقدم اليمين المتطرف هي السمات الرئيسية لهذه الانتخابات، في دول الاتحاد الأوروبي الـ 27 ويشير ارتفاع نسبة الإمتناع والنتيجة المنخفضة لقائمة حزب ماكرون إلى الرفض العميق لسياسات الرئيس وحلفائه، ليَخْلُف اليمينُ المتطرفُ اليمينَ الكلاسيكيَّ، ونجح اليمين المتطرف، وهو القوة الإحتياطية لرأس المال، في استغلال السخط الشعبي.

لن يقوم أعضاء البرلمان الأوروبي بتحسين حياة العمال، فهم ينتمون إلى أحزاب وائتلافات تُحسِن التفاوض من أجل تقاسم المناصب والمواقع، وتُحسن تبادل المنافع من مجموعات الضغط (اللُّوبيات)، لكي يستمر رأس المال الاحتكاري في استغلال العمال وقمع الناس…

ابتكرت البرجوازية هذا الشّكل من الدّيمقراطية التمثيلية التي لا يستطيع التّرشُّحَ لانتخاباتها سوى من له علاقات بوسائل الإعلام وأدوات الإتصال بجمهور الناخبين ( محلات للإجتماعات وملصقات ومناشير ودعاية وما إلى ذلك) و لن يغير البرلمان الأوروبي أو البرلمان الوطني الواقع، ولا يمكن محاربة رأس المال سوى بتغيير موازين القوى وإسناد إدارة المجتمع إلى الشعب من أجل التقدم الاجتماعي ودعم الشُّعوب المُضطهَدة بدل محاربتها بواسطة حلف شمال الأطلسي، وهو الذّراع المُسلحة للرأسمالية الإحتكارية التي لا تُلبي مطالب العمال (زيادة الرواتب ومعاشات التقاعد والخدمات…) سوى مُرْغَمَة، بفضل المقاومة والنضالات الجماعية المُنَظَّمَة.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.