سويسرا – الإستعمار “النّاعم” والعُنْصُرِية “المُقَنَّعَة” / الطاهر المعز

الطاهر المعز ( تونس ) – الإثنين 8/7/2024 م …

لم تمتلك سويسرا طيلة تاريخها أي مستعمرات، ولم تقم بحملات استعمارية، ولم تهيمن على مستعمرات بشكل مُباشر، لكن الإيديولوجيا السّائدَة استعمارية وتنشر صورةً سلبية عن شُعُوب المُسْتَعْمَرات، وتعتبرهم أُناسًا وضيعِين، في مرتبة أدنى من الأوروبيين البيض، وساهم السويسريون في ازدهار الإقتصاد الإستعماري من خلال ممارسة العبودية (تجارة الرّقيق) والإستغلال الفاحش للسّكّان الأصليين للمستعمرات في مجالات مختلفة، أهمها الفلاحة والنّسيج، أو من خلال مجموعة من النشاطات الإقتصادية التي تخدم مصالح القوى الاستعمارية، واستفادت سويسرا، بشكل عام، من موارد وقُوّة عمل البلدان التي عانت من الإحتلال العسكري، ولم يُعْرف عن سويسرا دَعْمها للشعوب المُسْتَعْمَرَة والمُضْطَهَدَة، بل كانت السّلُطات السويسرية دائمًا في صف القوى الاستعمارية، ورَوّج الإعلام والأدب السويسري موروثًا ثقافيًّا إستعماريًّا لا يزال سائدًا، من ذلك أسطورة “الزنجي الصغير الغبي… ( أو ) الساذج والبسيط ” في مقابل صورة المُسْتَعْمِر الأوروبي الذّكي والذي يُشغّل عقله ( وليس جسمه) لاستغلال ثروات المُستعمرات، وإرسال الإنتاج إلى “المركز” الإستعماري…   




ساهم جنود ومرتزقة سويسريون في احتلال المستعمرات وفي قَمْع الثورات والإحتجاجات، مثل مُساهمة حوالي 600 جندي سويسري – من خلال عقد بين نابليون وحكومة سويسرا –  في قَمْع ثورة العبيد السود في جزيرة سان دومينغ ـ هايتي حاليا ـ في مطلع القرن التاسع عشر ضد الاستعمار الفرنسي، وبعد تأسيس الدولة الإتحادية (الكنفدرالية ) سنة 1848، ساهم الجنود السويسريون كمرتزقة في قَمْع الشُّعُوب المُسْتَعْمَرَة، وتكريس السيادة الاستعمارية الأوروبية ( فرنسا وهولندا وبريطانيا…)، ومعظمهم من الفُقراء المُتأثرين بالعقيدة العنصرية، لكنهم يغامرون بحياتهم من أجل الحصول على راتب وتقاعد مُجْزِي. أما الأثرياء السويسريون فكانوا يَجْنُونَ الأموالَ الطّائِلَةَ  من تجارة السلع القادمة من المستعمرات ومن عمليات الإتجار بالبشر القادمين من تلك المستعمرات، فقد استفاد التجار والمستثمرون السويسريون والشركات السويسرية من تجارة العبيد، ومن استغلال المزارع، بواسطة العبيد، في المناطق الواقعة تحت الاستعمار، وفي التجارة الثُّلاثِيّة، إٍرسال السفن إلى السواحل الأفريقية محملةً بالسلع التي تتم مقايضتها بالعبيد الذين يتم نقلهم عبر المحيط الأطلسي لبيعهم في أمريكا وتعود السّفن إلى أوروبا محملةً بإنتاج العبيد من القُطن والسّكّر والقهوة، وكانت سويسرا من المُشاركين والمُسْتفيدين من هذه التجارة الثلاثية، وفق المؤرخ هانز فيسلر، الذي تابعَ ازدهار قطاع المنسوجات في سويسرا، بفضل تجارة القُطن الذي ينتجه العبيد، وبفضل تجارة الأقمشة التي تتم مقايضتها بالعبيد، منذ بداية القرن التاسع عشر، وساهمت شركات سويسرية ( مثل شركة “فُولْكارت” ) في دعم الإستعمار البريطاني على إجبار فلاحي الهند على إنتاج القطن بدلاً من المواد الغذائية، ومن خلال تعاونها الوثيق مع البريطانيين، تمكنت شركة فولكارت من الاستحواذ على نحو 10% من جميع الصادرات الهندية من القطن إلى مصانع النسيج في كافة أرجاء أوروبا، وبذلك استفادت سويسرا من النظام الإستعماري ومن تجارة الرقيق، ثم تحولت هجرة المرتزقة والجنود إلى هجرة الأثرياء الذين استخدموا المُستعمرات لتأسيس شبكات تجارة عالمية، بفضل تَمَتُّعِهِم بمزايا الرعايا الأوروبيين، وفق ما أورَدَهُ الاقتصادي الألماني “أرفد إمنغهاوس”، سنة 1861…  

لما حصلت البلدان الإفريقية على الإستقلال الشّكْلِي، في بداية ستينيات القرن العشرين، ربطت سويسرا علاقات دبلوماسية مع البلدان المستقلة حديثا، ونشَّطَت التعاون معها، غير إن الإيديولوجية الإستعمارية والعُنصرية لم تختفِ بين عشية وضحاها، بل كانت علاقات سويسرا وطيدة بنظام الميز العنصري في بريتوريا…

دَعْم نظام الميز العنصري في جنوب إفريقيا

كان التمييز العنصري متفشّيا في دول الكومنولث البريطانية، حتى قبل إعلان سلطة نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، وسنَّ الإستعمار البريطاني قوانين تحظر العلاقات الجنسية، والزواج المختلط، بين العنصر الأبيض وغيره، ولمّا فاز “الحزب الوطني” الذي يهيمن عليه الهولنديون (البُوِير) بانتخابات سنة 1948، أَقَرّ الفصل العنصري من خلال القوانين التي أُجبرت المجموعات غير البيضاء على العيش في معازل ( مَناطق مُغلقة)، ويعيش سكان هذه المعازل من الخدمة  لدى البيض كعمالة رخيصة، دون أي حقوق نقابية أو سياسية، ولم تُعلن الأمم المتحدة “إن الفصل العنصري، يمثل جريمة ضد الإنسانية” سوى سنة 1973، رغم نضالات سكان جنوب إفريقيا ورغم عنف الشّرطة التي تجابه المتظاهرين بالرصاص (69 قتيل خلال مظاهرة واحدة سنة 1960)

أوردنا هذه المُقدّمة عن الفصل العنصري لإظهار الدّور السويسري الرّسمي في تعزيز نظام الميز العنصري، من خلال العلاقات الإقتصادية، ولا تزال الحكومة السويسرية تمنع على الباحثين الإطلاع على وثائق (أرشيف) فترة الميز العنصري في جنوب إفريقيا، التي استفادت منها الشركات السويسرية، وفي ذروة المقاطعة الإقتصادية والسياسية حافظت سويسرا على علاقات اقتصادية وثيقة معه إلى غاية انهياره، وساهمت سويسرا في اكتساب نظام الميز العنصري السلاح النّوَوِي وصُنْعِ ستّ قنابل نَوَوِيّة بدعم فنّي سويسري لتخصيب اليورانيوم، بحسب دراسة، نُشرت سنة 2005، تمكنت من إثبات تقديم شركات صناعية في شرق سويسرا لنظام الميز العنصري، مكونات لتخصيب اليورانيوم، وفق المؤرخ بيتر هوغ ( العلاقات بين سويسرا وجنوب إفريقيا – نُشِرَ سنة 2005)

حظرت سويسرا رسميا تصدير الأسلحة إلى جنوب أفريقيا، وفق قرار مجلس الأمن سنة 1963، لكن لم يتم تطبيق الحظر أبدًا، فقد تطورت علاقات الجيش السويسري مع جيش جنوب أفريقيا، خلال ستينات القرن العشرين، وتبادل الجيشان الزيارات والخبرات، واستفاد جيش جنوب إفريقيا من فدا عسكريا من تكتيكات الحرب النفسية التي يُطبّقُها الجيش السّويسري ضد الخصوم المحليين، وعلى الصعيد الرّسمي أدانت سويسرا نظام الفصل العنصري وفرضت تدابير قانونية، بداية من سنة 1968، في أعقاب عقد مؤتمر الأمم المتحدة لحقوق الإنسان ( في جنيف !!! ) عام 1968، وفرضت تحديد سقف الاستثمارات في جنوب أفريقيا سنة 1974، ومع ذلك دعمت سلطات سويسرا الشركات للإلتفاف على هذه القوانين المحلية والقرارات الدّولية، واستمرّت العلاقات التجارية قائمة بين الشركات السويسرية ونظام الفصل العنصري، حتى نهاية الثمانينات من القرن العشرين، أي حتى انهيار جدار برلين وانتهاء الدور التاريخي لنظام الفصل العنصري، وتجاوزت الاستثمارات السويسرية  10% من إجمالي الاستثمارات الأجنبية في جنوب أفريقيا، بين سنَتَيْ 1979  و 1990 ونقلت الشركات السويسرية الكبرى (نستله و روش و سولزر و براون بوفيري وغيرها)، بعض مصانعها ومختبراتها إلى جنوب إفريقيا، وعلى سبيل المثال سيطرت شركة عائلة شميد هايني، خلال ثمانينيات القرن العشرين على أكثر من ثُلُثِ سوق الأسمنت في جنوب إفريقيا، وبحلول العام 1988، كان أكثر من 17 ألف من سكان جنوب إفريقيا يعملون لدى الشركات السويسرية…

أشارت دراسة أجرتها الباحثة ساندرا بوت، التي تولّت تحليل العلاقات الاقتصادية بين سويسرا وجنوب أفريقيا، إلى أهمية دور تجارة الذهب التي جعلت سويسرا ومصارفها تتفوق على بريطانيا ( بداية من سنة 1968) كمركز دولي لتجارة الذّهب واستوردت المصارف السويسرية أكثر من نصف حجم الذهب المستخرج من جنوب إفريقيا، فضلا عن توريد الألماس الذي مكّن سويسرا من رفع إيراداتها منه إلى أكثر من 4,5 مليارات دولارا سنة 1984، كما كشفت نفس الباحثة تَوَرُّطَ السلطات السويسرية في إخفاء حجم تدفقات رؤوس الأموال، إلى نظام الفصل العنصري، وسجّلها المصرف المركزي لجنوب إفريقيا ( باتفاق مع المصرف المركزي السويسري ) كتدفقات أوروبية، بدون تفاصيل، ولا تزال الحكومة السويسرية تمنع الوصول إلى سجلات الأرشيف الرسمية، المُتضمنة لأسماء الشركات السويسرية التي مارست أعمالا تجارية، مع جنوب إفريقيا…  

من جهة أخرى، لا تزال الإيديولوجية العنصرية سائدة في الأوساط الرسمية السويسرية، وتجدر الإشارة إلى إدانة سويسرا من قِبَل المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان ( دامت القضية من 2016 إلى أواخر شهر شباط/فبراير 2024) في قضية مَيْز عنصري أثناء عملية تفتيش للشرطة التي دأبت على الإنكار التّام، وتتمثل الوقائع في إيقاف أمين المكتبة السويسري محمد وا بايلي، وهو سويسري من أصل كيني، تم استهدافه بالتفتيش، دون أي سبب، في محطة القطارات الرئيسية بمدينة زوريخ وسط حشد كبير من الناس الذين لم يتم تفتيش أي منهم، ولما احتج المعني بالأمر، تم حَبْسُهُ، واعتبرت المحكمة الأوروبية – في حُكْمٍ أوّلي – سنة 2022، أن هذه القضية تُشكّك في مدى تطبيق سويسرا اتفاقيات حقوق الإنسان، وفي استهتار القضاء السويسري بانتهاكات حقوق الإنسان، ومن الغريب كذلك إن ارتفاع نسبة الأصوات التي يحصل عليها اليمين المتطرف في بلدان أوروبية كألمانيا وإيطاليا وفرنسا والنمسا وهولندا يُثير تعليقات ومخاوف كثيرة، بينما يُشارك اليمين المتطرف – من موقع مُهَيْمن – في السلطة التشريعية والتنفيذية في سويسرا منذ سنوات عديدة، ويعود ذلك إلى الإرث الإيديولوجي الإستعماري وإلى العنصرية المتفشية “بهدوء” في سويسرا.  

اليمين المتطرف في سويسرا

يحتل زعماء اليمين المتطرف مناصب هامة في الدّولة منذ سنوات عديدة، وتصدّر “اليمين الشُّعْبَوِي” السويسري ( عبارة “مُهَذَّبَة” لوصف اليمين المتطرف ) بزعامة حزب “يو دي سي” (حزب “اتحاد الوسط الديموقراطي”) نتائج الانتخابات التشريعية التي جرت يوم 22 تشرين الأول/اكتوبر 2023، بحصوله على 29,2% من الأصوات بفعل تركيز دعايته على “ارتفاع الهجرة وتصاعد المخاوف في أوروبا” ولم يحصل الحزب الديمقراطي الإشتراكي سوى على 17% من الأصوات.

أصبح اتحاد الوسط الديموقراطي أكبر أحزاب البلاد منذ سنة 1999، ويركز دعايته على معاداة اللاجئين والمهاجرين في حين تشير الأوساط الاقتصادية إلى نقص في اليد العاملة وحاجة الإقتصاد إلى المهاجرين، ويهمل اليمين المتطرف ارتفاع تكاليف المعيشة وارتفاع إيجار المسكن وزيادة عدد المُشرّدين وارتفاع حصص التّأمين الصّحّي وانخفاض قيمة المعاشات مما يضطر المتقاعدين إلى العمل برواتب منخفضة جدًّا، وفق معهد الدراسات السياسية بجامعة لوزان.

خاتمة:

تُعتبر سويسرا مصرفًا كبيرًا ومكتبًا عملاقًا للإستشارات وللعلاقات العامة، ممّا جعلها تبدو واحةً للديمقراطية والأمن والهدوء والرّخاء، وهي في واقع الأمر وكْرٌ لكبار اللُّصُوص، مما جعل من البلاد مقرًّا للعديد من الشركات العابرة للقارات وسوقًا للمُضاربة بالمواد الغذائية والمواد الأولية ولمؤتمرات الأثرياء واللّصوص، ومكانًا مُغْلَقًا تكثر فيه مراقبة حركة الأشخاص ويَعْسُرُ التّنفّس داخله، وتمكّنت سويسرا من ترويج خُرافة “حيادها” بينما يُبيّن تاريخ سويسرا زَيْفَ هذا الإدّعاء، بفعل تصدير الأسلحة إلى “مناطق النزاع” وعدم الحياد عن الموقف الأمريكي والأطلسي، وهو بلد “مُحافظ”، مُغرق في الرجعية ومن آخر بلدان العالم التي سَمِحَ رجالها للنّساء بالحصول على حَقّ التّصويت…     

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.