الكيان الصهيوني المهزوم يتصرف كمنتصر / إيهاب زكي
يتصرف العدوّ على مستوى التصريحات الرسمية، باعتباره المنتصر الأوحد، يتحدث عن اليوم التالي للحرب، وكأنّ الميدان طوع بنانه، وأنّه صاحب اليد الطولى ومن يمسك زمام المبادرة، ويشنّف آذان الكوكب بالحديث عن انتصارات وإنجازات ومراحل، ويُكثر من الكلام والتصريحات، فمنذ اليوم الأول للعدوان، يكذب العدوّ بكلّ صدق، ويتشدّق بكلّ نطاعة.
وهذا على عكس الانطباع السائد لدّى العقل الجمعي العربي، بأنّ الكيان لا يجيد الكلام بل الأفعال، وأنّ الجانب العربي هو ما يمتاز بطول اللسان وسعة الفم، وأنّه ماكينة تصريحاتٍ لا تتوقف عن تفريخ الكلام،، فيما العدوّ يده أطول من لسانه، والعربي لا حوْل له ولا طوْل إلّا في لسانه.
بينما نلاحظ اليوم أنّ نتنياهو مثلًا لم يعد تلحظ الفروق السبعة بين سحنته وبين أيّ فقاسة، في أيّ مزرعة دواجن، ولا تستطيع قنوات الأخبار ملاحقة الكتاكيت التي ينتجها كأكبر الفقاسات سعةً، ولم تعد هناك فروقٌ كبيرة، بين نتنياهو وأيّ مستوطنٍ بائسٍ يعيش في عالمٍ موازٍ، ويعتقد أنّه يعيش في عالم اليوم التالي للخامس من حزيران/يونيو 1967، وأنّ عجلة التاريخ توقفت هناك.
والسؤال هو لماذا يتصرف العدوّ بناءً على أنّه منتصر فيما الفشل يلاحقه أيّما حطّ وأينما انحطّ أو ارتحل، ويصرّ على أنّه مقتدرٌ على فرض شروطه وإملاءاته، ويريد من الآخرين معاملته كمنتصر، وأن يجلبوا له كلّ أعدائه مخفورين إلى دكة الاستسلام؟
على مدار تاريخ الصراع، لم يعتد العدوّ إلّا على مخاطبة المهزومين المستسلمين، ابتداءً من “كامب ديفيد” مرورًا بـ”أوسلو” وصولًا لـ”وادي عربة”، والطامّة الكبرى ما عُرف بـ”الاتفاقات الإبراهيمية”، حيث لم يضطر العدوّ حتّى للتفاوض مع نفسه، كما قال شيمون بيريز “كنا نفاوض أنفسنا في أوسلو”، بل أملى شروطًا لم يضطر ليطلِع عليها الآخرين من منبطحين ومغفلين مستَعبدين.
وقد تكون تجربته الوحيدة والقاسية، هي حين اضطرّ للتفاوض إبّان عدوان تموز 2006 على لبنان، ورضخ للمرة الأولى لفكرة تقديم تنازلاتٍ أمام طرفٍ عربي، وقد عمل منذ ذلك الحين على ألّا يسمح للوقائع والميادين بتكرار ذلك الرضوخ، فقام بعشرات المناورات، واستحضر واستلهم مئات الخطط، التي أثبتت حتّى اللحظة، فشلها التام في سدّ الثغرات المهولة التي أحدثتها هزيمة تموز في بنية “الجيش” والمجتمع.
وبناءً على ذلك لا يريد العدوّ تكرار فكرة الرضوخ لشروط طرفٍ عربي، خصوصًا أنّه حسب تصنيف العدو، أضعف أعدائه وأقلهم عددًا وعدة، أيّ أضعف أطراف محور المقاومة، والرضوخ لشروط هذا الطرف الأضعف، سيجعل من مصير الكيان في أيّ مواجهةٍ مقبلة، مهما كانت محدودة، مصيرًا قاتمًا لا تتعدى احتمالاته الزوال أو الزوال، خصوصًا إذا كانت مع طرفٍ أقوى وأكثر عددًا وعدة.
وفي سبيل ذلك يحاول تسخير كلّ أوراق القوّة والضغط لديه، القتل لمجرد القتل، والتدمير لمجرد التدمير، والتجويع والحصار والتهجير القسري وتكدير حياة الناس يوميًا، واستغلال النفوذ الأميركي والهيبة العسكرية الأميركية، كذلك استغلال المنبطحين المطبّعين العرب للضغط على فصائل المقاومة خصوصًا حركة حماس، وهم أعداء بثوب وسطاء.
وأيضًا محاولات محلية من طابورٍ خامس، يضغط على البيئة الحاضنة بفحش الغلاء واحتكار السلع على شُحها، وهذا الطابور كذلك يمارس عمليات النهب المنظم، تحت عين قوات العدوّ وآلياته، فمن نجا بيته من القصف والتدمير، لن ينجو من النّهب وسرقة كلّ محتوياته ثمينها وثقيلها.
وهذا السلوك من العدوّ هو خيار الضرورة، فلا ترف في الخيارات لديه، بين الهزيمة والانتصار، فالرضوخ لشروط حماس كلّها أو جلّها أو حتّى بعضها، هو هزيمة بكلّ المقاييس، والأخطر أنّها ستكون تأسيسًا للهزيمة الكبرى والزوال، بمعنى أنّ هزيمة الكيان غير قابلةٍ للاستدراك، فهو ليس كيانًا طبيعيًا يمتلك الجغرافيا والتاريخ وبذور البقاء، بل وُلد وفي نخاعه جذور فنائه، والرضوخ لشروط حماس، بمثابة تفعيل النموّ لتلك الجذور.
لذلك سيظل الكيان حتّى الرمق الأخير والطلقة الأخيرة في هذه الحرب، يتشدق بالانتصارات كأيّ عربيٍ مهزوم، في الوقت الذي يبحث فيه عن أقصر الطرق وأكثرها أمنًا للإقرار بالهزيمة والفشل، وبما أنّ هذا الطوْر من طوفان الأقصى استنفد كلّ أهدافه، وأنّ العنف وصل إلى ذروته، التي يبدأ بعدها كلّ منجزٍ تكتيكيٍ بالتآكل، قد لا تتأخر الهدنة عن نهاية شهر تموز/يوليو، لأنّ هذه الهدنة هي الشيء الوحيد القادر على تأجيل الحرب الإقليمية وما يليها.
التعليقات مغلقة.