سلسلة: محاولة تبسيط مفاهيم الإقتصاد السّياسي / الطاهر المعز

الطاهر المعز ( تونس ) – الإثنين 15/7/2024 م …

صندوق النقد الدّولي رمز العلاقات غير المتكافئة بين “المركز” و”المُحيط”




تخلّفت 18 دولة عن سداد أقساط الدّيون بين سنَتَيْ 2021 و2023، لكنّ وسائل الإعلام المُهَيْمِنَة لا تكترث للأمر سوى بعد انطلاق المظاهرات والإحتجاجات الشّعبية التي تُجابهها الحكومات بالقمع الدَّمَوِي

وقعت نحو 60% من الدول منخفضة الدخل أو قد تقع في أزمة سداد الدّيُون ويُقدّر صندوق النقد الدّولي إن 21 دولة إفريقية قدّ تجد صعوبات أو قد تتخلف عن سداد الدّيون بسبب قرارات المصارف المركزية للدول الإمبريالية برَفْعِ أسعار الفائدة وبسبب العلاقات غير المتكافئة بين الدّائنين (الدّول الإمبريالية) والمُستَدِينِين من الدّول الفقيرة وما ينتج عنها من شُرُوط مُجْحِفَة تجعل الثروات تتدَفّق من “الجنوب” ( آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية) إلى “الشمال” ( أمريكا الشمالية وأوروبا واليابان…) إي من الدول الفقيرة إلى الدول الغنية.

كيف يجني صندوق النقد الدولي المال

يتكون رأس مال صندوق النقد الدّولي من مُساهمات الدّول ( أو الحصص)، وتم تحديد هذه المُساهمات بشكل يُؤَبِّدُ سيطرة الولايات المتحدة التي تتحكّم – مع حلفائها أوروبا واليابان – بقرارات وآلية عمل الصندوق، ومن فائدة القُروض ومن تَسْعِير “الخَدمات” ومن الرسوم الإضافية التي فرضها صندوق النقد الدولي منذ “الأزمة الآسيوية” سنة 1997، والتي تزيد أعباء دُيُون الدّول الفقيرة، وقدّرت الشبكة الأوروبية “أوروداد” إن صندوق النقد الدّولي يَجْنِي حوالي ثلاثة مليارَات دولارا سنويا من الرسوم الإضافية التي تُفْرضُ على 16 دولة من الدّول التي تمر بأزمات ( من بينها تونس ومصر والأردن)، وقدّرت نفس الشبكة أن تُمثل الرسوم الإضافية التي يفرضها صندوق النقد الدولي بين سَنَتَيْ 2021 و2028، نحو 61% في المتوسط من تكاليف الإقتراض، مما يُغرق البلدان في دوامة الدّيون التي يصعب الخلاص منها سوى بالقطيعة مع مؤسسات بريتن وودز، وهو أمر عسير في ظل العَوْلَمة، وله نتائج قد لا تستطيع الدّول تحمّلها، إلا إذا كانت تحظى بمساندة شعبية قوية…

وجب الحصول على نسبة 85% من أصوات الدّول الأعضاء لكي تتم المُصادقة على القرارات، وبما إن الولايات المتحدة تمتلك 16,6% والصين 6,06% ولا تمتلك 23 دولة فقيرة مجتمعة سوى 1,62% من الأصوات، فإن الولايات المتحدة قادرة لوحدها على الإعتراض على أي قرار لا يخدم مصالحها، وتعترض الولايات المتّحدة وحلفاؤها الأوروبيون واليابان على زيادة حصّة الصين، ثاني أكبر اقتصاد عالمي…

لجأت العديد من الدّول إلى الإقتراض بسبب عوامل مناخية، مثل الجفاف أو الفيضانات، أو بسبب ارتفاع أسعار الحبوب والمُضاربات بأسعار النفط، أو بسبب رفع أسعار الفائدة من قِبَل الإحتياطي الفيدرالي الأمريكي والمصرف المركزي الأوروبي (ما يرفع سعر فائدة القُروض المُقومة بالعملات الأجنبية) وتخضع الدّوَل المُقْتَرِضة لشروط، منها خفض النفقات الحكومية وعدد الموظفين في القطاع العام ونفقات التعليم والصحة والنقل العمومي وخصخصة هذه القطاعات – وهي مِلْكٌ للشّعوب – لكي تستحوذ عليها الشركات العابرة للقارات بأسعار منخفضة،

صندوق النقد الدّولي في خدمة الأثرياء

تتضمّن شروط صندوق النّقد الدّولي حوافز جمركية على الواردات والصادرات وخفض أو إلغاء الضريبية على المضاربة في البورصة وعلى أرباح الشركات، مُقابل زيادة الضريبة على الأجْر والضرائب غير المباشرة التي تَضُرّ بميزانية الفقراء، بذريعة تحفيز الإقتصاد وتحقيق النموّ، وهو ما لم يحصل أبدًا، بينما ثَبَتَ إن إعادة توزيع الثروة من خلال زيادة الإنفاق الإجتماعي والإنفاق على خدمات الرعاية الاجتماعية والصّحّيّة والتعليم، هي استثمارات إيجابية تُحقّق النّمو كما حصل في الأرجنتين، في بداية القرن الحادي والعشرين، بعد أزمة 2001/2002، وفي ماليزيا وكوريا الجنوبية، حيث حفزت الإستثمارات الإجتماعية إنتاجية الطبقة العاملة وأكّدت تقارير منظّمة «أوكسفام» ومن بينها تقرير بعنوان «الفجوة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا: الرخاء للأغنياء والتقشّف للآخرين» إن إعادة توزيع الثروة وإعادة النّظر في الإجراءات الضريبية تُساعد على الحدّ من عدم المساواة في الوطن العربي، وهو ما ينطبق على العديد من مناطق العالم، في حين يُؤَدِّي إعفاء الأثرياء من الضرائب ومن المساهمة في الحماية الإجتماعية إلى خفض إيرادات الدّولة وإلى إلحاق الضّرَر المالي والصّحّي بالطبقة العاملة وبالفُقراء، وتُظهر تجارب الدّول مثل لبنان أو تونس ارتفاع أرباح القطاع المصرفي خلال الأزمات، بفعل اقتراض الدّولة – التي فقدت مواردها بأمْر من الدّائنين – من هذه المصارف بفائدة مرتفعة، وبضمان من الدّولة… ومع ذلك، يستمر صندوق النقد في فَرْض رفع ضريبة القيمة المضافة وفرض ضرائب على الوقود والخدمات والرعاية الصحية والتعليم في المغرب وتونس ومصر ولبنان والأردن، وغيرها وهي إجراءات ترفع أسعار السلع والخدمات الأساسية وتزيد من أعباء الطبقة العاملة والفئات المتوسطة والضعيفة…  

تغيير الشكل والحفاظ على الجوهر

تأسّسَ صندوق النقد الدولي سنة 1944، بهدف “تأمين الاستقرار النقدي” لتستفيد منه الدّول التي أصابها الخراب (أوروبا واليابان)، خلال الحرب العالمية الثانية، ولم يهتم مؤسسو الصندوق بالدّمار الذي خلفته الحرب في الإتحاد السوفييتي وبلدان أوروبا الشرقية، أو المستعمرات التي لا ناقة لها ولا جمل في الحرب، ومع ذلك نالها الخراب، ومنها دول المغرب العربي من المغرب إلى مصر، والشام، وكان تدخّل صندوق النقد الدّولي سريعًا وظَرْفِيًّا، بهدف الوقاية من الأزمات، إلى أن بدأت النيوليبرالية تُهَيْمن على اقتصاد الدّول “الغربية” خلال عقد الثمانينيات من القرن العشرين ( وكان من رموزها: رونالد ريغن في الولايات المتحدة ومارغريت تاتشر في بريطانيا) بالتزامن مع أزمة الدّيُون التي أضَرّت باقتصاد أشباه المُستعمَرات، فأصبح صندوق النقد الدّولي أداة لنشر وفَرْض النيوليبرالية في جميع أنحاء العالم في شكل برامج الإصلاح الهيكلي التي تهدف وَضْعَ حدٍّ لتدخّل الدّولة في الشأن الإقتصادي، وترك الأمر للسوق، وعدم الإنفاق على منظمة التعليم والرعاية الإجتماعية والصّحّية، وإلغاء دعم الوقود والنقل والغذاء والدّواء، وأدّى تطبيق هذه الشروط إلى انطلاق انتفاضة 18 و 19 كانون الثاني/يناير 1977 في مصر والإضراب العام في تونس ( 26 كانون الثاني/يناير 1978) ثم تتالت “انتفاضات الخُبز” خلال عقد الثمانينيات من القرن العشرين، من المغرب إلى الأردن، مرورًا بتونس ومصر…

ادّعى صندوق النقد الدّولي والبنك العالمي دَعْم “الإنتقال الديمقراطي” في تونس ومصر، وتَمَظْهَرَ هذا “الدّعم” في مُضاعفة حجم الدّيُون الخارجية خلال عِقد واحد، وأدّت سياسات التقشف والخصخصة، في كل الدّول المُقترِضَة، إلى ارتفاع نسبة الفقر والبطالة وإلى ارتفاع الأسعار وإلى العديد من التّداعيات السّلبية، وتغير شكل الخطاب، دون تغيير في الجوهر، بعد أزمة 2008 وأزمة الدّيون في بلدان أوروبية مثل اليونان والبرتغال وإيرلندا، ومن أبرز مظاهر التغيير تعزيز الرقابة وإصدار تقارير فَصْلِية فضلا عن التقرير السّنوي، مع تشديد شروط القُروض، وتغير شكل التعامل مع الأزمات الطارئة وطريقة الإستجابة لها، بعد أزمة “كوفيد -19” سنة 2020، وكان دور صندوق النقد الدّولي مُكَمِّلاً لدور المصارف المركزية التي ضخّت الأموال، وضخّ الصندوق سيولة في الاقتصاد العالمي حفاظًا على ثروات الشركات الكبرى والدّول الرأسمالية، وطَوَّرَ الصندوق مُهِمّة الإعلام (البروباغندا) دون حُصُول أي تغيير في مهمته الأساسية وهي تحويل الثروات من “الجنوب” إلى “الشّمال”

أدّى تدخل الصندوق في المغرب وتونس ومصر والأردن إلى تعميق الأزمة الاجتماعية واللامساواة بفعل إلغاء الدّعم على الغذاء والكهرباء وتعويم العملات المحلية لتنخفض قيمتها مقابل العملات الأجنبية، في حين بقيت الدّيون والواردات مُقوّمة بالعملات الأجنبية، وأدى ذلك إلى ارتفاع كبير في أسعار الحبوب ومشتقاتها والألبان واللحوم والخضار والفواكه وأسعار الوقود والنقل، وارتفعت نسبة الفقر والأُمِّيّة والبطالة، وعلى سبيل المثال ارتفعت نسبة الفقر في مصر  من 27,8% سنة 2015 إلى 32,5% عام 2018، وفق البيانات الرسمية، وانخفضت مساهمة الشركات في العوائد الضريبية للدولة التونسية بنسبة 37% بين سنتَيْ 2010 و2018 فيما ارتفعت مساهة الأسر في الفترة نفسها بنسبة 10%، وانخفض عدد العاملين في القطاع العام وتدهورت ظروف العمل بانتشار الوظائف الهشة والرواتب المنخفضة والقطاع الموازي الذي يُعادل حجمه نصف الناتج المحلي الإجمالي في مجمل الدّول التي طبقت تعليمات صندوق النقد الدولي والبنك العالمي…

باختصار، يتمثل دَوْر صندوق النّقد الدّولي في سرعة التّكَيُّف مع الوضع، وإدارة المُتغَيِّرات والأزمات التي تمر بها الرأسمالية العالمية ( 1997 و 2008 و 2020…)، وأدّى لجوء الدّول إلى الإقتراض من الخارج إلى تدهور الوضع الإقتصادي والوضع الإجتماعي لحوالي تسعة أعْشار المواطنين، ولم تتمكن هذه الدّول من تحقيق التنمية ومن تحسين ظروف عيش المواطنين، فيما تم تخريب منظومات الإنفاق الإجتماعي والصحة والتعليم والحماية الاجتماعية…

يتمثل “أضْعَف الإيمان” في إرساء ضريبة على الثروة وإقرار النظام التصاعدي للضريبة على الدّخل، بدل إرهاق المواطنين بالضرائب غير المباشرة، وتطوير القطاع العام وإرساء أنظمة حماية اجتماعية للجميع، وهذه إجراءات تم تطبيقها ضمن النظام الرأسمالي الليبرالي، ولا علاقة لها بالإشتراكية التي يعتبرها صندوق النقد الدّولي والقوى النافذة داخل مجلس إدارته: “الشّرّ المُطْلَق”.  

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.