دراسات في مناهج النقد الأدبي – المنهج البنيوي / د. عدنان عويّد
د. عدنان عويّد ( سورية ) – الخميس 25/7/2024 م …
1 –مفهوم البنيويّة:
الدلالة اللغويّة:
جاء معنى “بنيوية” في معجم المعاني الجامع – (معجم عربي عربي). بِنيَويّة: اسم مؤنَّث منسوب إلى بِنْيَة. وهي مصدر صناعيّ من بِنْيَة. أتت من بنى يبني بناءً. أي الدلالة عن الشكل و الصورة و الكيفية التي شيد عليها بناء ما.
وإذا ما عدنا إلى المعجم الوسيط لوجدنا أن الدلالة اللغويّة للفظ “بنية” وجدناها مشتقة من الفعل الثلاثي “بنى”، وهي في “هيئة البناء، ومنه بنية الكلمة: أي صيغتها”.
والمنهج البنيوي في (العلوم اللغوية) هو منهج أو نظريّة تهتمّ بالجانب الوصفيّ من اللغة، وقد دخلت إلى علوم اللغة عامة, وراحت تنظر إليها على أنها (وحدات صوتيّة) تتجمّع لتكوِّن “المورفيمات” أو الوحدات الصرفيّة التي تكوِّن الجملة وعلم الأسلوب خاصّة. (1). وتُعرف أحيانًا باسم البنائيّة والتركيبيّة والبنويّة. أو هي كما ترى “يمنى العيد” في كتابها الموسوم بعنوان: (تقنيات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي):(مفهوم ينظر إلى النص الأدبي في نسق من العلاقات له نظامه”. أي أنها التصميم الداخلي للأعمال الأدبيّة بما يشمله من عناصر رئيسة متضمنة الكثير من الرموز والدلالات بحيث يتبع كل عنصر عنصرا آخر.). (2).
البنيويّة اصطلاحاً:
هي منهج فكري لا يقتصر تأثيره على النقد الأدبي، كما هو شائع، لكنه امتد ليشمل عدّة مجالات بحثيّة ومعرفيّة أخرى كالأنثروبولوجيا، وعلم النفس، والاجتماع، واللغويات وغير ذلك من مباحث تحاول أن تضع أسساّ موضوعيّة لما يسمى بـ ” العلوم الإنسانيّة” أو الوجدانيّة. وهو في أهدافه وآليّة عمله معارض لكثير من المناهج الفلسفيّة والفكريّة التي سبقته، لا سيما مناهج الفلسفة المثاليّة بعمومها، كالوجوديّة والحدْسيّة واللاأدريّة والرومانسيّة والكلاسيكيّة، وغيرهما من المناهج كالتاريخية والوصفية ولكلاسيكية والرومانسيّة وغيرها.
وبتعبير آخر البنيويّة هي المنهج النقدي في الأدب والفلسفة الناقدة، الذي تشكل على أساس مجموعة من العناصر التي اعتمدت قراءة النصوص أو المباحث المختلفة على أسس ومعايير محددة ومضبوطة دون النظر إلى ذاتيّة الكاتب أو الأديب ومشاعره, أو التفكير في العوامل الخارجيّة المرتبطة به أو توثر فيه.(3). ولقد بدأ تأثيرها الفعال على النقد الأدبي في فترة الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، اعتمادًا على النظريات اللغوية “لفرديناند دي سوسير”. وتَعْتَبِرُ المدرسة البنيويّة اللغويّة أن اللغة مجموعة من الدلالات والإشارات، يصعُب فهمها إلا من خلال ترتيبها معًا بنظام مُحدّد، ومن خلال المنظور الأدبي. والبنيويّة تعتقد بأنّ كل عمل أدبي يُظهر حقيقة شيء معين, لذا حلّل النقاد البنيويون التفاصيل الأساسيّة في العمل الأدبي من حيث ألفاظه وجمله وتراكيبه ومجازته وصوره الشعريّة لاستخراج المعنى الأساسي منه. وهذا أدّى إلى تطوير الاستنتاجات العامة حول الأعمال الفرديّة والأنظمة الأساسيّة لها. (4).
تاريخ ظهور البنيويّة في النقد الأدبي و أهم روافدها:
يذكر الكثير ممن اشتغل على النقد البنيوي بأن هذا الاتجاه (قد بدأ في فرنسا أواخر القرن التاسع عشر، متأثرا بكتابات هيجل وماركس وفرويد ودوركايم ولوكاش، على ما بينهم من اختلافات في المنهج والاتجاه. ومن هنا يمكن أن نلمح رسوخ هذه التأثيرات وتراوحها بين الجدل- الديالكتيك- كما عرفه هيجل ومارسه ماركس ولوكاش خاصة في نظريّة الانعكاس، وبين تحليل- أو ديالكتيك- فرويد النفسي، ودوركايم الاجتماعي، وتجدر الإشارة إلى أن هذا الاتجاه- البنيوي – (قد تشكل واستقام أوائل الستينيات من القرن العشرين حين أصدر “كلود ليفي شتراوس ” كتابه المهم: ” الفكر الهمجي ” سنة 1962، وتلاه ” فوكو ” بكتابه الدال ” الكلمات والأشياء” سنة 1966 ثم “لاكان ” بكتابه الذي لا يقل أهمية “كتابات “). (5). و(من أعلام النقد البنيوي أيضاً في الغرب نجد بليخانوف و رولان بارث و تزفيتان تودوروف و جيرار جينيت و غيرهم. أما في العالم العربي فنجد كلا من حميداني حميد و صلاح فضل و محمد مفتاح على سبيل المثال لا الحصر.). (6).
ومما هو جدير بالذكر أن البنيويين يرفضون نعتهم بالفلاسفة، ويذهبون إلى القول بأنهم “منهجيون لا مذهبيون ” (وهذا ما قاله ” ليفي شتراوس: ” بأن البنيويّة: (مجرد منهج أو نسق يمكن تطبيقه على أي نوع من الدراسات، تماما كما هو الحال بالنسبة للتحليل البنيوي المستخدم في العلوم الأخرى”). وكذلك رأي “جان بياجيه ” الذي (يؤكد بأن البنية مثلها مثل السببيّة في الفيزياء, وهي صرح نظري وليست معطى تجريبياً بأي حال.), أو كما يقول “لوسيان سيف “: هي (نظام علاقات داخليّة محددة لا يمكن اختزاله إلى حاصل مجموع عناصره, بحيث لا يبقى أمام البنيويّة المعاصرة سوى محاولة الصياغة الرياضيّة لهذا المفهوم المركب.). (7).
وللتأكيد نقول أيضاً: إن ذيوع صيت اللسانيات الحديث و تقاطعه مع المنهج الشكلاني الروسي، كونه أرسى أسس الاختلاف بين الشكل و المضمون, داعيّاً إلى الاعتناء بالشكل أكثر من المضمون. جاءت البنيويّة لتعمل على دمج الشكل في المضمون, أو الدال في المدلول (المعنى)، وبخصة عند المتلقي أو القارئ, لأن الدال الواحد لا بد أن ينتج مدلولات مختلفة بالنسبة لكل متلقي حسب التجارب الفرديّة وثقافة وعمر كل متلقي. و عليه يصير النص واحداً و القراءات متعددة. تقول الكاتبة والناقدة الأدبيّة ” حسناء الكيري الإدريسي”: (بأن الشكلانيّة والبنيويّة قد ظهرتا معا كرد فعل ضد التيار الرومانسي/ الانطباعي, وعلى التحليلات والمناهج التي تربط الأدب بمحيطه الاجتماعي وخاصة الماركسيّة بالدرجة الأولى. لذلك اتفق العديد من الدارسين والنقاد على أن الشكلانيّة والبنيويّة قد ظهرتا معًا كردِّ فعلٍ ضدَّ اللاعقلانيّة الرومانسيّة، وعلى التحليلات التي تربط الأدب بمحيطه الاجتماعي، ويُقصد بذلك النزعة الماركسيّة بالدرجة الأولى). (8).
أهداف البنيويّة وخصائصها:
لقد ركزت البنيويّة اهتماماتها على بنية العمل الأدبي بهدف تبيان نظام اشتغاله، وذلك من خلال تحليله تحليلاً داخليّاً، والبحث في نسقه, والكشف عن العلاقات المتحكمة فيه, و”تراتبها, والعناصر المهيمنة على غيرها, وكيفية تولدها ثم كيفية أدائها لوظائفها الجماليّة, واختبار لغة الكتابة الأدبيّة عن طريق رصد مدى تماسكها و تنظيمها المنطقي و الرمزي, و مدى قوتها وضعفها, بصرف النظر عن الحقيقة التي تعكسها. وقد رفعوا شعاراً عريضاً يؤكد على ( النص و لا شيء غير النص), أي البحث في داخل النص فقط عما يشكل أدبيته, أي طابعه الأدبي. و قد حاولوا من خلال ذلك التأكيد على حياديّة الأدب. فدراسة الأعمال الأدبيّة عندهم هي عمليّة تتم في ذاتها, بغض النظر عن المحيط الذي أنتجت فيه. فالنص الأدبي منغلق في وجه كل التأويلات غير البريئة التي تعطيه أبعاداً اجتماعيّة أو نفسيّة أو أيديولوجيّة أو تاريخيّة، أو حتى ماديّة, كونه قائم على اللغة, أي الكلمات والجمل. هذا وتنضاف إلى هذه الخصائص مسألة “موت المؤلف” التي نادى بها “رولان بارث”, كي يتولد المعنى برأيهم بعيدا عن كل المؤثرات الخارجيّة قصد تجاوز الأحكام التي قد تشوه هذه الممارسة النقديّة.(9).
إذن إن من أبرز مهام البنيويّة في النقد الأدبي السعي لفهم محاور النص ومرتكزاته بالتحليل اللغوي, والتفكيك النسقي في محاولة لتلمس “الثابت والمتحرك ” في ذلك النص، مع استبعاد كل انطباع عام وحكم عام وذاتي أو قيمي, وضد الأحكام العامة والمفاهيم المعياريّة، والقوالب الجاهزة سلفاً. فهي لا تُقَوِم النص- بالمعنى الذي يعرفه أنصار البلاغة التقليديّة- لكنها تحلله وتقيمه بعد أن تَشَكَلَ، واستقام بالفعل.
وبشكل عام يمكن أن نقول: إن البنيويّة قد قامت ضد الأحكام العامة والمفاهيم المعياريّة، والقوالب الجاهزة سلفاً. وأخيرا قامت ضد كل المدارس التي تدور حول النص ولا تدخل فيه أبدا، وكل المدارس التي تكتفي بالأحكام العامة والقيميّة والإنشائّية، والتي تملي حكما جاهزا ومسبقا لكل نص!! وضد كل الاتجاهات التي تحاول أن تعلم الكاتب كيف يكتب، أو تضع مثالاً مسبقاً يتوجب محاكاته والسير في كنفه.
أما أبرز خصاص المنهج البنيوي ومبادئه فهي:
1- النص الأدبي ينبني على نظام داخلي منغلق على نفسه يجعل منه وحدة محددة:
أي إن دراسة الأعمال الأدبية تتم هنا دون النظر إلى العوامل الخارجيّة التي تحيط به. وهذا ما أكد عليه الناقد “عبد الله حمد في كتابه “مناهج النقد الأدبي الحديث” حيث يقول: (إن الأدب نصّ مستقل تام منغلق على نفسه” حيث تتمّ دراسة الأعمال الأدبيّة في ذاتها، بغض النظر عن العوامل والظروف المحيطة بها، فالنص الأدبي قائم على كلماته وجمله، مُنغلق في وجه التأويلات كلها التي تُعطيه أبعادًا تاريخيّة واجتماعيّة.).(10).
ويقول الناقد التونسي الدكتور “حسين الواد” في هذا الاتجاه: ( إن هذا النص الأدبي ينبني على نظام داخلي يجعل منه وحدة محددة، و لأن العمل الإبداعي الأدبي منغلق على ذاته فإنه يقوم على نظام داخلي يجعل منه كلا متماسكا, تنشأ بين عناصره (الكلمات) شبكة من العلاقات التي تستمد قيمتها من علاقاتها المتبادلة. فكل خصائص العمل الأدبي مجتمعة في بنائه الداخلي, وبالتالي فلا حاجة بنا للبحث عنها خارجه.). (11).
2- البنية تستطيع تنظيم ذاتها بذاتها لتُحافظ على وحدتها واستمراريتها:
أنّ بنية النص وفق هذه الخاصية تستطيع تنظيم ذاتها بذاتها لتُحافظ على وحدتها واستمراريتها، أيّ إن البنية باستطاعتها ضبط نفسها ضبطًا ذاتيًّا يُؤدي للحفاظ عليها، ويضمن لها نوعًاً من الانغلاق الإيجابي، وهو ما يجعل البنية قادرة أن تحكم ذاتها بذاتها من خلال مكوناتها، بحيث لا تحتاج إلى شيء آخر يلجأ إليه المُتلقي ليستعين به على فهمها ودراستها وتذوقها.(12).
3- اللغة هي التي تتكلم، وليس المؤلف:
إن التأكيد على أهمية اللغة في التأثير على المتلقي عبر الكتابات الأدبيّة, يساهم في اختفاء شخصيّة الكاتب من الكلام، ويأتي هنا دور القارئ في فهم الدلالات والمعاني التي يحملها النص. وتقول في هذا الاتجاه “الناقدة فاطمة البريكي”: (إن اللغة هي التي تتكلم، وليس المؤلف” هذا المبدأ نادى به “رولان بارت” في مقالته (موت المؤلف) من كتابه (نقد وحقيقة)، حيثُ يُلغي شخصيّة الكاتب في النص؛ ليتولّد المعنى بعيدًا عن الظروف الخارجيّة، فيبقى الدور على القارئ في فهم سياقات النصوص والوصول إلى دلالاتها.). (13). وهذا مايؤكده منهج التلقي الذي نتناوله بدراسة خاصة لا حقاً.
4- تتعامل البنيويّة مع الجزء:
أي التعامل مع (الكلمة), فهي تريد التأكيد على أن هذا الجزء ترس من آلة. أو نقطة تقاطع لحزمة من العلاقات داخل النص, فالكلمة جزء من جملة، وجزء من مفهوم وجزء من بنية اجتماعيّة وإنسانيّة. ومن جهة أخرى في هذه الخاصية, فاللغة شكل لا جوهر كما يقول “دي سوسير”, لذلك على اللغوي أن يركز وصفه على الشكل، مادام عالم الدلالات – المعاني مشتركاً بين سائر اللغات، ومادام وجه الخلاف بين تلك اللغات يكمن في “الصورة “, أي الكلمة. ولأن الكلمة- أو الكلمات- لا تحقق مهامها بالتجاور الكمي، ولأنها – أي الكلمة – دال ومدلول، لذك بدأت البنيويّة بالكلمة كجزء من كل- تطبيقا لاجتهادات اللغويين- اللسانيين- والاجتماعيين الذين يشتغلون على المنهج البنيوي. وبالتالي من العبث أن نقول بأن البنيويّة تقوم على “لعبة لغويّة” تحصي الصفة والموصوف أو الجار والمجرور، أو عدد الأحرف اللبنة أو القاسية في متن النص, أو تقف عند التكراريّة والإشاريّة بحيث يسهل بعد ذلك أن تستعيض عن المعنى بسهم أو دائرة، كما يصعب القول بأنها “موضة” وانتهت. (14).
5- دراسة النص من حيث مستوياته:
(الصوتيّة، والصرفيّة، والمعجميّة، والنحويّة، والدلاليّة، والتداوليّة، والرمزيّة. فالبنيويّة تدرس النص من حيث الاعتماد على هذه المستويات قصد الكشف عن العناصر المختلفة التي يبنى عليها النص، والتي تُظهر وتُجلي دلالته المقصودة.). (15).
المرجعيات الفكرية والوظيفيّة للمنهج البنيوي:
لقد اعتمد المنهج البنيوي على طرقً أو أساليب منهجيّة في نقد النص الأدبي، ويأتي في مقدمتها:
1- “المنهج الشكلاني الروسي”: الذي يقوم على الاعتناء بالشكل أكثر من المضمون في أحد مراحل تطوره، فهو لا يُعنى بالظروف والعوامل الخارجيّة، ولا يُسقطها على النص عند تحليله، حيث يدعو هذا المنهج إلى الاكتفاء بتحليل النصوص. ويُؤمن أنصاره بذاتيّة القارئ في فهم النصوص واستنتاج دلالاتها. وقد أشرنا إلى هذه المرجعية المنهجيّة عند تناولنا لموضوع تاريخ ظهور المنهج البنيوي في بداية دراستنا هذه.
2- المنهج “التكويني”: الذي يقوم على تحليل النصوص الأدبيّة من منظور اجتماعي إلى حد ما, أي لا ينظر للنص بانعزاليّة تامّة عن الواقع الذي أنتج فيه، بل يرى أنّ الأدب تعبير عن الواقع، فاللغة ذاتها لها بعدها الاجتماعي ولا تفرخ مجردة وقد حاول هذا المنهج الدمج بين الشكل والمضمون، وبذلك يُمكن للدال الواحد إنتاج مدلولات مُختلفة باختلاف المُتَلقّين، ومن خلال الربط بين المنهج البنيوي في صيغته الشكلانيّة مع المنهج التكويني, نشأ عنه المنهج “البنيوي التكويني” – الذي سنبين طبيعته في دراسة لا حقة -. فإذا اقتصرت البنيويّة الشكليّة على تحليل النص وحده دون رجوع المبدع إلى أي مرجعيّة كانت كما بينا في موقع سابق, كالمرجعة النفسيّة أو الأخلاقيّة أو التاريخيّة أو الأيديولوجيّة أو الاجتماعيّة, فهي في هذا التوجه تقوم بإلغاء الفرادة والخصوصيّة الفنيّة للنص الواحد، وتقضي على المبدع وتميزه، وهذا ما ركز عليه المفكر الفرنسي “روجيه غارودي” في كتابه (فلسفة موت الإنسان), حيث وجدت البنيويّة نفسها أمام باب مسدود بسبب هذه الانغلاقيّة. لقد جاءت (البنيويّة التكوينيّة) لتعيد قيمة المبدع، حيث جمعت بين البعد الاجتماعي للنص الأدبي والبعد اللغوي.
3- الماركسيّة والتفسير المادي الجدلي: وذلك في ظل جهود المفكرين والنقاد الماركسيين، للتوفيق بين أطروحات الشكليين في أولى مراحل طرحها, ومبادئ الفكر الماركسي الجدلي الذي ركز على التفسير المادي والواقعي للفكر والثقافة عموما، كونها “تسمح بنوع من العلاقة بين البنية الفوقيّة – الثقافة والأدب والفنون– والبنية التحتيّة وهي الوجود الاجتماعي بقوى وعلاقات إنتاجه.(16). وهذا التأثير تجلى في “البنيويّة التكوينيّة”.
4- ومن المناهج التي اعتمدت عليها البنيوية أيضاً هناك منهج “النقد الجديد” : (الذي ظهر في أربعينات وخمسينات القرن العشرين في أمريكا، فقد رأى أعلامُه أن الشعر هو نوع من الرياضيات الفنيّة “عزرا باوند”، وأنه لا حاجة فيه للمضمون وإنما المهم هو القالب الشعري, وأنه لا هدف للشعر سوى الشعر ذاته “جون كرو رانسوم”).(17).
5- وهناك مناهج “اللسانيات البنيويّة”: حيث يقول الناقد المصري “عبد العزيز حمودة” في كتابه الموسوم ب: “الخروج من التيه”: (أما المرجع المشترك في كل هذه الأعمال الأدبيّة, فهو اللسانيات البنيويّة، فكلها تسلم بأن الحكاية تشابه الجملة، بل هي جملة كبيرة يجب توضيح قواعد توليدها، وهي خاضعة لقيود المنطق الإلزاميّة، ويمكننا تقطيع وحدات صغرى في الحكاية كما نقطعها في الجملة, ولو كانت تلك الوحدات أكبر بكثير من الوحدات المكونة للجمل، و تبيان كيف يندمج بعضها في بعض ويتألف ليشكل حكاية, فقوانين تحولاتها هي التي تشكل التركيب السردي) (18). ولعل هذا المصدر هو أهم مصادر البنيويّة، (لا سيما “ألسنية دي سوسير” الذي يُعد رائد الألسنيّة البنيويّة، بسبب محاضراته (دروس في الألسنيّة العامة) التي نشرها تلامذته عام 1916 بعد وفاته. وعلى الرغم من أنه لم يستعمل كلمة (بنية) إلا أن الاتجاهات البنيويّة كلها قد خرجت من ألسنيّته، فيكون هو قد مهّد لاستقلال النص الأدبي بوصفه نظامًاً لغويًاً خاصًّا. وفرّق بين اللغة والكلام: فـ (اللغة) عنده هي نتاج المجتمع. أما (الكلام) فهو حدَث فردي متصل بالأداء وبالقدرة الذاتيّة للمتكلم.). (19).
6- وهناك أيضاً “حلقة براغ” في المنهج الشكلاني الروسي: وهي حلقة دراسية كونها ثلة من علماء اللغة في براغ -عاصمة التشيك-، وهذه الحلقة وإن كان زعيمها “ماتياس” إلا أن المحرّك الرئيس لها هو نفسه مؤسس المدرسة الشكلية الروسيّة “ياكبسون” الذي تنقّل بين روسيا وبراغ والسويد والولايات المتحدة الأمريكية، فكان أينما حلّ بشّر بآرائه، وكان له دَور فعّال في نشر الوعي بالنظريّة الجديدة وترسيخها في أوساط المثقفين. ومن هنا التقط علماء حلقة براغ مشعل الدراسات اللغوية الحديثة الذي صب “سوسير” زيته ونسجتْ الشكليّة الروسيّة خيوطه وأخذوا يتحدّثون بشكل صريح متماسك عن بنائيّة اللغة.(20)..
7- وهناك نظرية (موت المؤلف) في المنهج البنيوي: لقد فضلت البنيويّة الاهتمام بالبنية الدلاليّة التي حملت مضامين العمل الأدبي عند القارئ أو المتلقي, ودعت إلى تهميش المؤلف وإماتته، وهو ما أدّى إلى إلغاء دور التاريخ وعدم الاهتمام به لكونه قد قام على احتكار المعاني في المناهج النقديّة التي أعطته دورًا مهمًا في تحليلاتها، ونظريّة (موت المؤلف) أسهمت جديًا في الاعتماد على دور القارئ في فهم سياقات النصوص والوصول إلى دلالاتها.
فالحق أن منهج البنيويّة هو حاصل جمع وطرح أغلب إن لم يكن كل التيارات السابقة عليه، والمعاصرة له.
مستويات المنهج البنيوي:
يقوم المنهج البنيوي في تحليله النصوص الأدبيّة على مستويات مُتعددة يُمكن عرضها على النحو الآتي:
1- المستوى الصوتي: ويقوم هذا المستوى على دراسة الحروف (أصوات اللغة) وتكويناتها ورمزيتها وموسيقاها من تنغيم، ونبر، وإيقاع.
2- المستوى الدلالي: ويقوم هذا المستوى على دراسة وتحليل المعاني المباشرة وغير المباشرة، والصور المتصلة بالأنظمة الخارجة عند حدود اللغة، المرتبطة بالعلوم النفسيّة والاجتماعيّة والتاريخيّة.
3- المستوى الرمزي: يقوم هذا المستوى على دراسة رمزيّة اللفظ، واستنتاج وتركيب ما تقوم به المستويات السابقة من دور في المعنى الجديد، وإنتاج مدلولات أدبية جديدة.
4- المستوى النحوي: ويقوم هذا المستوى على دراسة تنظيم الكلمات وتركيب الجمل وتأليفها وخصائصها الدلاليّة والجماليّة.
5- المستوى الصرفي: ويقوم هذا المستوى على دراسة الكلمات والبُنى اللفظيّة لها، ووظيفتها في التكوين اللغوي.
6- مستوى القول: لتحليل تراكيب الجمل الكبرى بهدف معرفة خصائصها الأساسيّة والثانويّة. (21).
البنيوية في النقد العربي:
مع بداية القرن العشرين, وبتضافر العديد من جهود الباحثين و النقّاد من أجل السعي قدماّ نحو ولادة فكر جديد و إحداث الكثير من التغيُّرات, وبتتبّع حركت الفكر النّقدي, نجده قد مرّ بعدّة مراحل متباينة متأثّرا بالأفكار و الرؤى النّقدية الأدبيّة الغربيّة، ومن محور اهتمام النقاد العرب هو توجههم نحو نقد المدرسة (البنيويّة التكوينيّة) في الخطاب النّقدي الأدبي العربي الحديث، هذا النقد الذّي كان واضحاّ و جلياَ من خلال عدد كبير من أفكار ورؤى نقّاد الوطن العربي, خاصة بعد أن سيطر فكر هذه المدرسة على أفكار نقّادنا، و جعلهم يتّجهون نحو بنائيّة النّص الأدبي، و ينظرون إليه نظرة “سوسيوجدلية”، على أساس انغلاقه على مكوّناته النصيّة, مع ضرورة إيجاد بنية تاريخيّة تفسّره.
وخلال السبعينيات من القرن العشرين, انتشرت البنيويّة وهيمنت على النقد العربي حيث تلقفها النقاد العرب المحدثون, الذين استفادوا من بعض الترجمات التي عرفت بها وبمميزاتها وطرائقها في تحليل النصوص الأدبية، فضلا عن بعض الدراسات التي أنجزها بعض النقاد من قبيل: “يمنى العيد” و”كمال أبو ديب” و”محمد برادة” و”محمد بنيس” و”جابر عصفور و”حميد حمداني” و”عبد الفتاح كيليطو” … وغيرهم من النقاد الذين أغنوا الممارسة النقديّة العربيّة. (22). وهنا أصبحت البنائيّة أو البنيويّة في هذه الفترة من القرن العشرين تتردد في أبحاث الدارسين العرب، ففي البدء تأثر النقد العربي الحديث بالمنهج البنيوي في لبنان وسوريا والمغرب، ولم يلبث أن انتشر هذا المنهج في مصر وبلدان عربيّة أخرى، ولعلنا نستطيع أن نرى النقاد العرب قد أفادوا من هذا المنهج وأنهم أخذوا يحللون أعمالًا أدبية، فعلى الصعيد التطبيقي يلقانا “كمال أبو ديب” في (جدلية الخفاء والتجلي والرؤى المقنعة), و”خالدة سعيد” في (حركية الإبداع)، أما على صعيد السرديات فيلقانا “سعيد يقطين” في (القراءة والتجربة)، و”يمنى العيد” في (تقنيات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي). ورغم أن المنهج البنيوي كان من أقصر المناهج عمرًا، إذ لم يستطع الصمود فترة طويلة أمام ما واجهه من عقبات ومناهج ما بعد الحداثة، وبخاصة (المنهج التفكيكي) الذي حافظ على وجوده عند النقاد العرب محاولين توظيفه في التحليل الأدبي والولوج به في التعامل مع النص الديني. هذا ويعتبر “كمال أبو ديب” أبرز رواد المنهج البنيوي في العالم العربي، ذلك أنه أصل له وقام بتطبيقه على الشعر العربي في كتابين: الأول (جدلية الخفاء والتجلي دراسة بنيوية في الشعر” طبعة 1981)، والثاني عنونه بـ (الرؤى المقنعة، نحو منهج بنيوي في دراسة الشعر الجاهلي – طبعة 1986) .(23).
ويرجع اهتمام أغلب نقاد العقود الأخيرة من القرن العشرين بهذا المنهج إلى إحساسهم بقصور المناهج النقديّة السابقة عن تقديم ذاك التحليل المتكامل للنص الأدبي، فضلا عن الرغبة في الانخراط في التحولات التي يعرفها النقد الأدبي في ظل الاحتكاك مع بعد الحداثة الغربية، والتي شكلت البنيويّة أبرز ملامحها. وهكذا، أسهم المنهج البنيوي في تجديد الخطاب النقدي السائد في العالم العربي، وبلورة رؤية نقديّة جديدة فتحت معالم رحبة للخوض في كثير من النصوص والبحث في أنظمتها الداخليّة.
نهاية البنيويّة”
يقول الناقد السوري محمد عزام: (إذا كانت (البنيويّة) قد انطلقت في النصف الثاني من القرن العشرين فملأت الدنيا وشغلت الناس، فإنها بدأت بالتراجع منذ إضرابات الطلاب الراديكاليّة في فرنسا عام 1968، مما جعل البنيويين يعيدون النظر في مواقفهم ومنهجهم الذي خرجت من رحمه مناهج نقديّة عديدة كالأسلوبيّة، والسيميائيّة، والتفكيكيّة، بالإضافة إلى الألسنيّة، التي هي عماد هذه المناهج النقدية جميعًا).(24). وبهذا يمكن القول: إن البنيويّة قد بدأت بالانهيار في أوائل السبعينات من القرن العشرين، وظهر مكانها في فرنسا ما اصطلح على تسميته «ما بعد البنيويّة». وكان “رولان بارت” و”جاك ديريدا” أهم فلاسفتها. وكان “رولان بارت” قد تحول عن البنيويّة إلى ما بعد البنيويّة، وبدأ في دراساته النقديّة يتجه إلى التقليل أكثر من أهميّة الكاتب في تركيب النص الأدبي, إلى دور قارئ النص في توليد معانٍ جديدة لا نهاية لها. يؤكد “بارت” في كتابه (متعة النص), (1975): (أنه في غياب الكاتب تصبح عملية إيجاد تأويلات للنص عملية عبثية لا نهاية لها، لكنها ممتعة، وتأتي المتعة من امتلاك النص لإمكانات «اللعب» بالمعاني. ولكن هذا لا يعني تخلّيّا فوضويّا عن كل القيود، وإنما تفكيكاً وهدمًا منظَّمين لإنتاج معانٍ أخرى، وكأن القارئ يعيد كتابة النص، فيصبح منتِجًا له وليس مستهلِكًا، وهذا أساس المذهب التفكيكي، الذي طوره ” جاك ديريدا”، وهو أساس «مابعد البنيويّة»(25). هذا وإن الكثير من المفكرين والفلاسفة لم يتقبلوا البنيويّة أيضاً -على الرغم من انتشارها السريع- (وراحوا يصفونها بالمنهج اللاإنسانيّ، ومن أبرز مَن واجهها ونقد روّادها وساهم في تقويضها: الفيلسوف الفرنسي “لوك فيري”). (26). ومما يدلل على عدم جدوى هذا المنهج وضرورة التخلص منه أن بعض أبرز روّاده قد تحوّلوا عنه وتطوّروا -كما سلَفَ ذِكره.
كاتب وباحث من سوريّة,
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
1- (موقع الألوكة — الوحدة الصرفية (المورفيم): مفهومها وأنواعها – د. عصام فاروق – و(المورفيم) هو عبارةٌ عن أصغر وحدة لُغَوية تَحمِل معنًى والمقصود بـ (المعنى) هنا ما يسمَّى المعنى الوظيفيَّ.).
2- ( يمنى العيد -كتابها: (تقنيات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي- الناشر: دار الفارابي – الطبعة: الثالثة ، ص 318 ).
3- (موقع لحظات نيوز- تعريف المنهج البنيوي في النقد الأدبي – خصائص المنهج الاجتماعي في النقد الأدبي – صورة كيرو البدري.). بتصرف.).
4- (موقع موضوع – تعريف المدرسة البنيوية. لينا سرطاوي.). بتصرف.
5- (مجلة العربي – أدب ونقد العدد 419 – البنيوية: اتجاه في النقد الأدبي الحديث: سمير عبدالفتاح. ).
6- (موقع العمق المغربي – البنيوية في النقد الأدبي – حسناء الإدريسي الكيري).
7- (كل الآراء المتعلقة بالبنيويّة التي وردت هنا نقلاً عن مجلة العربي – أدب ونقد العدد 419 – البنيوية: اتجاه في النقد الأدبي الحديث: سمير عبدالفتاح. ).
8- (، حسناء الكيري الإدريسي – البنيوية في النقد الأدبي، مدخل تعريفي. بحث منشور في صحيفة “قاب قوسين” الإلكترونية).
9- (موقع العمق المغربي – البنيوية في النقد الأدبي – حسناء الإدريسي الكيري). بتصرف.
10- (عبد الله خضر حمد، مناهج النقد الأدبي الحديث – دار القلم بيروت –دون تاريخ النشر – ص105 وما بعد). بتصرف.
11- (حسين الواد: “قراءات في مناهج الدراسات الأدبية”، سراش للنشر، تونس -1985.).
12- (عبد الله خضر حمد، مناهج النقد الأدبي الحديث – دار القلم بيروت –دون تاريخ النشر – ص107 و108). بتصرف.
13- (فاطمة البريكي، قضية التلقي في النقد العربي القديم- دار الشروق – عمان – 2006 صفحة 29.).
14- (مجلة العربي – أدب ونقد العدد 419 – البنيوية: اتجاه في النقد الأدبي الحديث – سمير عبدالفتاح -). بتصرف.
15- (الحوار المتمدن – العدد: 5453 – 2017- المحور: الادب والفن – مناهج النقد الأدبي الحديثة – المنهج البنيوي أنموذجا – محمد الورداشي -كاتب وباحث مغربي.).
16- ( مجلة آفاق علمية – المجلد 11 العدد 4 -2019- مرتكزات بنيوية لوسيان غولدمان التكوينية – . د عادل اسعيدي المركز الجامعي تامنغست )الجزائر- و د. عبد القادر بختي المركز الجامعي تامنغست – الجزائر). بتصرف. (ويراجع حول البنيوية التكوينية أيضا: (“مرتكزات بنيوية لوسيان غولدمان التكوينية”، مجلة آفاق علمية، 2009، العدد 4، المجلد 44، صفحة 503وما بعد).
17- ( عزام، محمد: تحليل الخطاب الأدبي على ضوء المناهج النقدية الحداثية. منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2003، (ص13).
18- ( الناقد المصري “عبد العزيز حمودة” في كتابه الموسوم ب: “الخروج من التيه” دراسة في سلطة النص، عالم المعرفة – الكويت – 2003ص 92).
19- (راج موقع موضوع – المنهج البنيوي وخصائصه – خلود المعاويد.).
20- (راج موقع البوابة -المنهج البنيوي في النقد الأدبي -عمر السنوي). بتصرف.
21- (حول مستويات المنهج البنيوي – يراجع موقع موضوع – المنهج البنيوي وخصائصه: خلود المعاويد. )بتصرف.
22- ( مجلة التعليميّة – مظاهر النقد البنيوي في النقد العربي المعاصر – العدد 2 – د. عتيقة سعدوني – جامعة الجيلالي عباس – الجزائر). بتصرف.
23- (موقع سطور – المنهج البنيوي في النقد الأدبي – أنس محفوظ -). بتصرف.
24- (24). (عزام، محمد: تحليل الخطاب الأدبي على ضوء المناهج النقدية الحداثية. منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2003، (ص9).
25- ( للاستزادة في هذا الاتجاه – يُراجَع: ستروك، جون: البنيوية وما بعدها، من ليفي شتراوس إلى ديريدا. ترجمة محمد عصفور، عالم المعرفة، الكويت، 1996. ).
26- (جاكسون، ليونارد: بؤس البنيوية. ترجمة ثائر ديب، ط2، دار الفرقد، دمشق، 2008، (ص167).
التعليقات مغلقة.