الجانب القمعي لأولمبياد باريس / الطاهر المعز
الطاهر المعز ( تونس ) – السبت 27/7/2024 م …
بعد مرور قرن على الدَّوْرَة الأخيرة لأولمبياد باريس، تستضيف العاصمة الفرنسية دورة الألعاب الأولمبية من 26 تموز/يوليو إلى 11 آب/أغسطس 2024، وتجري أحداث دورة الألعاب الأولمبية في باريس 2024 في سياق جيوسياسي خاص، يتسم بالحرب في أوكرانيا وما نتج عنها من إقصاء روسيا من الألعاب، والعدوان على الشعب الفلسطيني في غزة، وعدم إقصاء الكيان الصهيوني من دورة أولمبياد باريس 2024، وأجواء الحملة الإنتخابية في الولايات المتحدة، والحرب التجارية والحصار والحَظْر ضدّ الصّين وروسيا وإيران وكوريا الجنوبية وكوبا وفنزويلا وسوريا وغيرها، وهي عوامل تُؤثِّر قليلا أو كثيرًا على تنظيم الألعاب الأولمبية التي حادت عن مبادئ البارون بيير دي كوبرتان ( Le Baron « Pierre de Coubertin » ) الذي أعاد إحياء الألعاب الأولمبية المُعاصرة سنة 1896، وأراد فَصْل الرياضة عن السياسة، لكن هل يمكن الفصل بينهما، في ظل تَسْيِيس الحركة الأولمبية ومقاطعة الدّول الإمبريالية لألعاب موسكو 1980، فالحركة الأولمبية مُسيَّسَة وتدعم مواقف الإمبريالية الأمريكية وحلف شمال الأطلسي، وتتنافس الدّول لاستضافة الألعاب الأولمبية، بهدف تحسين صورتها، وأظْهَر تاريخ الألعاب الأولمبية “الحديثة” إن التظاهرات الرياضة الدّوْلِيّة كالألعاب الأولمبية التي تنقلها شبكات البث التلفزيوني إلى مليارات البشر في جميع أنحاء العالم، تُشكّل منتدى أو حلبة للتنافس الجيوسياسي، وتخضع لميزان القوى الدّولي، من خلال إقصاء بعض الدّوَل ومُقاطعة أخرى كما تتخلّلُها العديد من المطالب السياسية والصُّور الرّمزية، ومن بينها الصداقة بين الرياضِيّيْن جيسي أوينز، وهو أمريكي أسود ولوز لونغ الألماني الأبيض، خلال الألعاب الأولمبية بألمانيا الهتلرية سنة 1936 وتحالفهما ضد هتلر، فضلا عن تلك الصورة الرمزية للقبضة المرفوعة من قِبَلِ تومي سميث وجون كارلوس (مكسيكو 1968 ) أثناء رفع العلم الأمريكي، ويذكر العرب والصهاينة الألعاب الأولمبية في ميونيخ 1972 والمجزرة التي ارتكبتها ألمانيا والكيان الصهيوني، وعمومًا يتم استخدام الرياضة والرياضيين من قِبَلِ الأنْظِمَة الحاكمة لأغراض سياسية.
أما عن الوضع الدّاخلي الفرنسي فإن الألعاب تجري في ظل حكومة مؤقتة لتصريف الأعمال، لا تعكس ميزان القوى الذي أسفرت عنه الإنتخابات السابقة لأوانها يوم السابع من حزيران/يونيو 2024
حملة قمع “أولمبية”
نبّهت المنظمات الإنسانية التي أنشأت ائتلافًا تحت إسم “الوَجْه الآخر للميدالية”، منذ حوالي سنة وخصوصًا منذ شهر تشرين الأول/اكتوبر 2023، إلى “التّطهير الإجتماعي” الذي تمارسه سلطات مدينة باريس والدّولة، وإلى “عمليات الإخلاء القسري” للمآوي الإجتماعية ولمبيتات الطلبة، فضلا عن الأماكن التي تقدّم الحد الأدنى من الخدمات لفاقدي المأوى أو السكان الذين يعانون من حالة عدم الاستقرار، ومن بينهم آلاف العاملين بدون عقود أو بعقود هشة وبدوام جزئي وبرواتب مُتَدَنِّيَة، وذلك منذ صيف 2023، وفي منتصف نيسان/ابريل 2024، علق بالاكريشنان راجاجوبال، المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بالحق في السكن اللائق، قائلاً: “إن عمليات الإخلاء لتجميل باريس قبل الألعاب الأولمبية تشبه ما فعلته الصين والهند ودول أخرى قبل الأحداث الكبرى الأخرى، فكيف تبرر فرنسا ذلك؟”
قرّر ائتلاف “الوجه الآخر للميدالية” إقامة حفل افتتاح مضاد أو مُوازي، يوم الخميس 25 تموز/يوليو 2024، في ساحة الجمهورية (باريس)، للتنديد بالانتهاكات الاجتماعية التي تحصل باسم الألعاب الأولمبية، واتّهمت هذه الجمعيات التي تساعد المشردين، الحكومةََ بطرد الأشخاص الأكثر حرمانا من ملاجئهم القريبة من المواقع الأولمبية، في عملية يمكن تسميتها “التطهير الاجتماعي”، وتعترف السّلطات بارتفاع عمليات الطرد والتّهجير والإقصاء، لكنها تَدَّعِي بأن لا علاقة لارتفاع عمليات الطرد بالألعاب الأولمبية، بل هي تحصل لأسباب أمنية، وتُشير تقارير الإئتلاف إلى تزايد عمليات الإخلاء والترهيب للمشردين وإجلائهم من باريس إلى مناطق أخرى، ووثّقت العديد من الجمعيات ومن وسائل الإعلام المحلّية (من بينها محطات تلفزيون القطاع العام) والأجنبية عمليات “التطهير الاجتماعي” وعلى سبيل المثال نشرت بعض وسائل الإعلام شريطا قصيرًا بتاريخ 17 نيسان/أبريل 2024، يُوثِّقُ إخلاء قوات الدرك والشرطة منطقة كانت تُؤْوِي نحو خمسمائة لاجئ من السودان (دارفور خصوصًا) وتشاد، في مصنع قديم مهجور بأطراف مدينة فيتري سور سين ( Vitry sur Seine )، وأخْلت السلطات يومَيْ 16 و 17 تموز/يوليو 2024، مخيمات أخرى بمحافظة ( Seine Saint-Denis ) المُتاخمة لباريس، وحيث يوجد ملعب فرنسا الدّولي، كان يتواجد بها حوالي خمسمائة لاجئ من بلدان خرّبتها فرنسا ودول حلف شمال الأطلسي، وكانت بعض الجمعيات توزع الطعام وتعالج المرضى في هذه المخيمات، وتم تفريق اللاجئين، وحرمانهم من بعض الخدمات الدّنيا كالماء والطعام والرعاية الصحية والإستشارات القانونية وما إلى ذلك، وبحلول منتصف تموز/يوليو 2024، قبل عشرة أيام من افتتاح الألعاب الأولمبية “تم إفراغ منطقة إيل دو فرانس ( Ile de France ) – التي تظم ولايات باريس وما حولها – من ما لا يقل عن 12500 من الأشخاص الذين تعتبرهم السلطات غير مرغوب فيهم بحلول نهاية أيار/مايو 2024، وهم الأشخاص الأكثر هشاشة في المجتمع”، وفق ائتلاف “الوجه الآخر للميدالية” الذي يُؤَكّد عدم إيواء المُشردين الذين يتم ترحيلهم إلى مدن أخرى، باسم تأمين الألعاب الأولمبية، وأدّى هذا الهاجس الأمني إلى إغلاق العديد من الجُسُور والساحات والشوارع ومحطات قطار الأنفاق والحافلات، وبذلك كانت الألعاب الأولمبية فرصة “للتطهير الاجتماعي” للفضاء الحضري وفق العديد من الجمعيات الخيرية.
نشرت محطة تلفزيون “فرانس 24” وموقع صحيفة “هافينغتون بوست” وثائق صادرة عن مختلف أجهزة الدّولة منذ 2023، توتم تأكيدها خلال شهر آذار/مارس 2024، ُثْبِتُ الإرتباط الوثيق بين “تنظيم الألعاب الأولمبية وتكثيف دوريات المراقبة الأمنية والإجتماعية في الفضاء العمومي، وتحديد هوية الأشخاص في الشوارع وفي المناطق القريبة من المواقع الأولمبية…”، وأدّى تكثيف حملات المُداهمة والقمع إلى زيادة عدد عمليات الطرد والترحيل عن التراب الفرنسي بنسبة 10% سنة 2023 مقارنة بالعام 2022 ليصل عدد المُرَحَّلِين إلى نحو 17 ألف شخص، يخضع الترحيل لأسباب سياسية، وفق طبيعة العلاقة التي تربط فرنسا بدول المنشأ.
أدّت هذه الإجراءات الأمنية إلى رفْع ميزانية الدّورة، وفق الأرقام التي نُشِرَتْ قبل أسبوعَيْن من افتتاح دورة الألعاب الأولمبية باريس 2024، حيث يُتوقّع أن تتجاوز ميزانية الدّورة عشر مليارات يورو، في مناخ أمْنِي واقتصادي وسياسي متوتر، يشمل منذ أشهر عديدة حملة لإبعاد المشردين والمهاجرين غير النظاميين من الشوارع والساحات وضواحي العاصمة، بهدف تقديم صورة مثالية زائفة للعاصمة باريس، لكن المنظمات المدافعة عن حقوق الإنسان تفطّنت منذ حوالي سنة إلى مخاطر هذه السياسات التي لا تحترم القيم الأولمبية المُعْلَنَة مثل “تسخير الرياضة لخدمة التنمية البدنية، وتشجيع إقامة مجتمع يسوده السلام، ويعنى بالمحافظة على كرامة الإنسان، ويساهم في بناء عالم أفضل عن طريق استثمار ممارسة الرياضة في تعليم الشباب الفكر والقيم الأولمبية“. واستخدام الرياضة “كوسيلة للتفاهم والتواصل المتبادل بين الأفراد والشعوب والثقافات ومد جسور الصداقة، وتبادل الخبرات، وتوطيد العلاقات بين كافة منتسبي الحركة الأولمبية… وتكريم الإنسان، وجعل الرسالة الإنسانية القيمة المثلى في العلاقات المتبادلة، ومحاربة كافة أشكال العنصرية والتمييز…” ومن السّهل على أي زائر لباريس ملاحظة التضارب الواضح بين القيم الأولمبية وسياسات فرنسا -مضيفة الألعاب- على أرض الواقع، والتي تمس الكرامة وتضرب قيم الأُخُوّة والصداقة، وتعتمد التوظيف السياسي للبؤس الذي فاقمته مشاكل الغلاء والتضخم وشح المسكن، وقُدِّرَ تعداد المشردين بلا مأوى في فرنسا بأكثر من 330 ألفا وفق البيانات الرسمية لسنة 2022، وقَدّرت جمعيات الإغاثة عدد من يبيتون في شوارع باريس بنحو 3500 خلال شهر كانون الثاني/يناير 2024، من بينهم حوالي 500 من القاصرين، وعدد من العمال المهاجرين غير النظاميين الذين تم استخدامهم في تشييد المنشآت الرياضية المخصصة للألعاب الأولمبية، في ظروف غير إنسانية وفق الإتحاد النقابي “سي جي تي”.
في الجانب السياسي والإيديولوجي برر الرئيس الفرنسي يوم الإثنين 15 تموز/يوليو 2024، الفارق في التعامل مع الكيان الصهيوني المشارك في أولمبياد باريس رغم العدوان الوحشي على الشعب الفلسطيني، وروسيا التي استبعدت عن الألعاب على خلفية الحرب في أوكرانيا، معتبرا أن الكيان الصهيوني في حالة دفاع عن النفس وروسيا تشن حربا عدوانية على أوكرانيا، وسبق أن رفضت اللجنة الأولمبية الدولية خلال شهر شباط/فبراير 2024، فَرْضَ نفس العقوبات على روسيا والكيان الصهيوني، وأعلن الرئيس الفرنسي فَخْرَهُ برفع العلم الصهيوني في الملاعب الفرنسية، وشكّلَ هذا الموقف السياسي والإيديولوجي أَساسَ تقييد حركة 165 شخصًا وفق الأرقام الرسمية ( لكن محاكم باريس نظرت في أكثر من مائتَيْ اعتراض على هذه القرارات) بذريعة “مكافحة الإرهاب” بناء على “معلومات استخباراتية” اعتبرتها المحاكم “غير دقيقة وتستهدف أشخاصًا لا يُشكّلون أي تهديد” كما استنكر بعض القُضاة ومنظمات حقوق الإنسان ارتفاع عدد مداهمات المنازل في حملة القمع قبل الألعاب الأولمبية (قُدّرت بحوالي 230 حالة حبس منزلي ومراقبة يومية، بنهاية شهر حزيران/يوليو 2024 )، وقرارات الإبعاد “المُؤَقّت” (النّفْي غير القانوني) ومُراجعة محلات الشرطة يوميا، التي شملت عُمّالاً وموظفين وطلبة، معظمهم من أبناء وأحفاد المهاجرين الذين لم تُوَجّهْ لهم أي تهمة جنائية، ومع ذلك وصفهم وزير الداخلية جيرالد دارمانين خلال مؤتمر صحفي يوم 17 تموز/يوليو 2024 بأنهم “خطرون للغاية” وقادرون على تنفيذ هجمات، وفقَدَ العديد منهم وظائفهم وفق وكالة رويترز بتاريخ 25 تموز/يوليو 2024، ونظر القضاء في 27 حالة وألغى القضاة ست قضايا كُلِّيًّا أو جزئيا، بينما تم تعليق أربع قضايا كُلِّيًّا أو جزئيا…
خاتمة
لم تتَخَلّ أجهزة الدّولة الفرنسية عن الإيديولوجية والمُمارسات الإستعمارية في الخارج، وخصوصًا في إفريقيا ومُستعمرات بحر الكاريبي وكاناكي (كاليدونيا الجديدة) وجزر المحيط الهادئ، وفي الدّاخل تعتبر الإيديولوجية الرسمية (عقيدة الدّولة) أبناء وأحفاد المهاجرين العرب والأفارقة “عَدُوًّا داخليًّا”، وجبت مُراقبته ومُحاربته وعزله عن الأوروبيين البيض في العمل والسكن والفضاء العام، وشكّلت الألعاب الأولمبية فُرصة لتجربة تنفيذ حملة قمعية واسعة، بدعم من “خُبَراء أمنِيِّين” من دول صديقة، ومن بينها الكيان الصهيوني الذي يُشارك في الألعاب الأولمبية بفريق يتم “تأمِين” تنقلاته وإقامته من قِبَل مجموعات أمنية صهيونية، وتساهم قوى القمع الصهيونية في تدريب الشرطة الفرنسية على “إدارة التّجَمُّعات المُعادية”، وقمع شباب ضواحي المدن الفرنسية، منذ حوالي عشرين سنة، وخصوصًا خلال انتفاضة 2005، وتطبيق الوسائل المُستخدَمَة ضد أبناء الشعب الفلسطيني…
يُفْتَرَضُ أن تُشكل الألعاب الأولمبية حدثًا تاريخيًّا ورياضيًّا كبيرًا، لكن أجهزة الدّولة أوْلت جانبا كبيرًا “للقمع الوقائي” – أي استهداف أشخاص لم يرتكبوا جريمة، وتفترض وزارة الشرطة احتمال تنفيذهم لجُنْحَة أو جريمة، دون تقديم أي دليل – الذي استهدف بعض مناضلي الحركات الإجتماعية والفُقراء والمُشَرّدين واللاجئين من بُلدان ساهم الجيش الفرنسي في تخريبها، واستهدف بعض مناضلي اليسار السياسي والنقابي والإجتماعي، وبالأخص أبناء وأحفاد المُهاجرين، وتشهد كل المناطق المحيطة بنهر السين حالة حرب من خلال التقييدات الأمنية والحواجز المعدنية والإنتشار غير المسبوق لما لا يقل عن خمس وأربعين ألف من ضباط الشرطة والدرك الذين يقومون بدوريات منتظمة وبشكل يومي في مدينة باريس، فضلا عن حوالي 15 ألف من الجنود الذين يقومون بدوريات في محطات النقل البري والحديدي والساحات الرئيسية بباريس، ومن الشرطة البلدية وأعوان شركات الأمن الخاصة، في مداخل الملاعب والأحياء الرياضية والمبيتات، ما عَسَّرَ الحياة اليومية لسُكّان العاصمة الفرنسية التي تتميز بصعوبة التنقل والازدحام الخانق جراء تقييد حركة وسائل النقل العمومي أو إلغائها وضرورة الحصول على رمز خاص للتنقل في المناطق القريبة من الألعاب، فضلا عن المشاكل التي يواجهها العاملون في محلات التجارة والمطاعم والفنادق والمهن التي تختلف أوقات عملها عن الإدارات ويتعين على شبكات المترو والقطارات والحافلات استيعاب 7 ملايين مسافر إضافي، ونقل إذ قرابة 15 مليون متفرج، واستغلت شركة النقل في باريس لرفع أسعار التذاكر من 2,15 يورو إلى أربعة يورو للتذكرة الواحدة، بداية من 20 تموز/يوليو 2024، فضلا عن إغلاق العديد من محطات المترو في العاصمة وإلغاء مرور الحافلات في بعض المناطق، وحَظْر مرور المشاة والدراجات والسيارات وحظْر زيارة أهم المعالم السياحية في باريس…
التعليقات مغلقة.