الإنتخابات الأمريكية: كامالا هاريس بمنظار عربي / الطاهر المعز
الطاهر المعز ( تونس ) – الإثنين 29/7/2024 م …
لا يهم من هو المرشح للرئاسة في الولايات المتحدة لأن تغيير رئيس جمهوري بديمقراطي، أو العكس، لن يُغَيِّر الموقف بشأن فلسطين أو حلف شمال الأطلسي أو دعم الشركات الإحتكارية العابرة للقارات ذات المنشأ الأمريكي وما إلى ذلك من القضايا التي تعنينا بدرجة أولى وتعني أكثر من ثُلُثَيْ سُكّان الكرة الأرضية، وبخصوص كامالا هاريس فهي نائبة الرئيس جوزيف بايدن، ولا تختلف مواقفها عنه، فقد دعمت الكيان الصهيوني وجرائم الإبادة الجماعية الصهيونية وجرائم حلف شمال الأطلسي والجيش الأمريكي في جميع أنحاء العالم، ودعمت الحرب بالوكالة في أوكرانيا، واستفزاز روسيا والصين على حدودهما، ولئن كانت هاريس امرأة فإنها تُمثل سلطة رأس المال لأعتى دولة امبريالية، وهي كما هيلاري كلينتون أو مارغريت تاتشر أو أورسولا فون دير لاين، مُمثلة لرأس المال وللمُجمّع الصّناعات العسكرية والشركات العابرة للقارات، ولا تُمثل النساء الكادحات والواقعات تحت نير الإستغلال والإضطهاد والهيمنة بكافة أشكالها (الذُّكُورية والإستعمارية والطّبقية…) فالإستغلال والظلم والحروب وتدمير البيئة والعنصرية وغيرها مُستمرة، ولم يتغير جوهر نظام الحكم لما أصبح باراك أوباما رئيسًا، بل ازدادت حدّة العدوان على سوريا وليبيا واليمن وتم إعلان مُحاصرة الصين ونقل 60% من القوات البحرية الأمريكية إلى جوار الصين الخ
سوف يكثر الحديث عن لَوْن وعِرْق وجِنْس كامالا هاريس وقد تجتذب حملتها الإنتخابية العديد من النساء والشباب والمواطنين السّود ومن الأقليات ولكن في النهاية لن يغير ذلك أي شيء من سلوك الإمبريالية الأمريكية، لأن الإنتخابات في الولايات المتحدة تُوهم المواطنين بإمكانية التّغْيِير لكنها لا تُغيّر طبيعة النّظام الرأسمالي في أمريكا أو في البلدان الإمبريالية الأخرى…
لم يتنازل جوزيف بايدن لشجاعته أو خدمةً لبلاده، بل لأن ماكينة الحزب ورأس المال الذي يستثمر في الإنتخابات كما يستثمر في مشاريع أخرى، فَرَضَ عليه الإنسحاب، ولم يتم اختيار خليفته كامالا هاريس بانتخابات داخلية من قِبَل مؤتمر أو ندوة للحزب الدّيمقراطي، بل تم تعيينها من قِبَل مُمَوِّلِي الحزب، لأنها أثبتت “جدارتها” و”إخلاصها” في خدمة رأس المال وانتهازيتها السياسية لما كانت مُدَّعِيَة عامة فكانت قَمْعِيّة أكثر من اللُّزُوم ومُتشَدّدة تجاه السود والفُقراء، ما أهّلها لصعود درجات السّلّم السياسي والإجتماعي بسرعة، لتُصبح ممثلة ولاية كاليفورنيا في مجلس الشيوخ، ولذلك تم اختيارها نائبة للرئيس بايدن…
كامالا هاريس على علاقة وثيقة مع اللوبي الصهيوني ودعمت جرائم العدو، لكنها خفّفت من تطرُّفها الصهيوني مُؤَخّرًا، خصوصًا بعد اتّساع رُقعة الإحتجاج – داخل الحزب الدّيمقراطي وخارجه – ضد ممارسات الكيان الصهيوني وضدّ بعض جوانب السياسة الخارجية الأمريكية
كامالا هاريس بعيون عربية
أدّى تنَحِّي جوزيف بايدن إلى تعيين نائبته كامالا هاريس لتكون مُرشحة الحزب الديمُقراطي وحصلت علي دعم نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب الأمريكي السابقة، والرئيس الأسبق باراك أوباما، وجمعت حملة هاريس 81 مليون دولار كتبرعات لحملتها الانتخابية خلال 24 ساعة فقط، والمال ضروري لخوض الإنتخابات الرئاسية (تشرين الثاني/نوفمبر 2024) في مواجهة دونالد ترامب، وكَرّرَ بعض العرب والتقدّميين في العالم نفس الأخطاء بشأن باراك أوباما الذي اعتبروا إن لونه ( من أم أمريكية بيضاء وأب من أصل كيني) يُشكل ضمانًا لإنسانيته ولتقدُّمِيّته المُفْتَرَضَة، مُتناسين إن الرئيس والدّولة ونظام الحكومة والحكومة التي تُعبِّرُ عنه يمثلون نقطة التّوازن بين الطبقات ومن يمثلها من مجموعات الضغط ومن بينها شركات النفط والتكنولوجيا ومُجَمّع الصناعات العسكرية التي تُمَوّل الحملات الإنتخابية واستطلاعات الرّأي وما إلى ذلك، ولا تَشُذ كامالا هاريس ولا دونالد ترامب عن هذه القاعدة…
تزامن انطلاق حملة كامالا هاريس مع زيارة رئيس حكومة العدو الصهيوني وخطابه أمام أعضاء الكونغرس ومُقاطعة عدد من نواب الحزب الدّيمقراطي لخطابه، وكانت منهمكة في جمع المال لحملتها (أعلنت جَمْع 126 مليون دولار مليون دولارا خلال أيام قليلة من الأحد 21 إلى الإربعاء 24 تموز/يوليو 2024) ووعدت – على الصعيد الدّاخلي – بتوسيع الحق في الإجهاض، وتسهيل انضمام العمال إلى النقابات ومعالجة العنف المسلح، مما يشكل تباينًا حادًا مع دونالد ترامب، المرشح الجمهوري للرئاسة، لكنها لم تُطْلِقْ وُعُودًا (لحد كتابة المقال يوم 25 تموز/يوليو 2024) بشأن التّأمين الصحي ومجانية الرّعاية الصحّية وخفض نفقات الدّراسة…
في الأثناء، وبينما كان رئيس حكومة العدو الصهيوني يلقي خطابا في مبنى مجلس الشيوخ، بواشنطن يوم 24 تموز/يوليو 2024، استخدمت الشرطة رذاذ الفلفل ضد آلاف المحتجين الذين تجمعوا خارج مبنى الكونغرس الأمريكي، ومن بينهم الممثلة الحائزة على جائزة الأوسكار سوزان ساراندون إلتي أدانت عمليات القتل الجماعي وأعلنت: “لا أحدَ حُرٌّ حتى يصبحَ الجميعُ أحرارًا”، وأصابت الشرطة بعض المتظاهرين، وبَرّرت القَمْع ب”احتمال استخدام العُنف من قِبَل بعض المتظاهرين” أي إن القمع استباقي وليس كرد فعل للشرطة التي أغلقت حركة المرور حول مبنى الكابيتول قبل الخطاب وسط إجراءات أمنية مشددة غير معتادة، ورفع المتظاهرون لافتات تعلن أن رئيس الوزراء الصهيوني “مجرم حرب” وجبت محاكمته، في إشارة إلى مذكرة اعتقال أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية، وطالب المتظاهرون بتعليق المساعدات الأمريكية لدولة الإحتلال وحملوا الأعلام الفلسطينية ولافتات كتب عليها “فلسطين حرة” و”معاداة الصهيونية ليست معاداة للسامية”، و”أوقفوا تسليح إسرائيل” و”أوقفوا جرائم الحرب في غزة“.
قد يختلف السياسيون الأمريكيون (المترشحون للكونغرس أو للرئاسة) في بعض القضايا لكنهم لا يختلفون بشأن العداء للشعب الفلسطيني والشعوب العربية، وبشأن الدّعم المُطلق للكيان الصهيوني الذي نشأ على إبادة الفلسطينيين، كما نشأت الولايات المتحدة على إبادة الشعوب الأصلية وعلى عرق ودماء العبيد…
دعت كامالا هاريس يوم 24 تموز/يوليو 2024 في إنديانابوليس إلى تجمع حاشد، استضافته جمعية زيتا فاي بيتا النسائية، يضم أكثر من ستة آلاف امرأة سوداء للمساعدة في تنشيط الحملة الرئاسية للحزب الديمقراطي، وتأسّست جمعية زيتا فاي بيتا النسائية في جامعة هوارد، الكلية السوداء التاريخية التي التحقت بها كامالا هاريس، وتأمل في الاستفادة من شبكة الجمعيات النسائية متعددة الأجيال من النساء السود – اللاتي لعبن دورًا مهمًا في فوز بايدن سنة 2020 بفعل حثها على التصويت لمرشح الحزب اللديمقراطي. أما دونالد ترامب فقد نَعَتَ كامالا هاريس “إنها شخصية يسارية متطرفة، وهذه البلاد لا تريد لشخص يساري متطرف أن يُدَمِّرَها. إنها تريد حدودًا مفتوحة وأشياء لا يريدها أحد“.
المُحيط أو المناخ الإجتماعي والمهني لكامالا هاريس
هي من أصل طبقي ميسور أو متوسط، كان والداها مُثقّفان ويعملان في مجال البحث والدّراسات، فكانت والدتها شيامالا ابنة دبلوماسي هندي وباحثة في مجال أمراض السرطان، وكان والدها دونالد من أصل جامايكي يُدَرِّسُ الإقتصاد في جامعة ستانفورد، وكان والداها من التّقدّميّين المدافعين عن الحقوق المدنية والتقيا وتعرّفا على بعضهما خلال الإحتجاجات في جامعة كاليفورنيا في بيركلي، خلال ستينيات القرن العشرين، وانفصلا عندما كانت هاريس في السابعة من عمرها، وترعرعت هاريس وشقيقتها مايا مع والدتهما، التي كانت ذات تأثير أساسي في حياتها.
أمضت هاريس 26 عاماً كمدعية عامة في ولايتها الأصلية في كاليفورنيا، وترقَّتْ في المناصب لتصبح مدعية عامة في سان فرانسيسكو قبل أن يتم انتخابها كمدعية عامة في عام 2010، وأصبحت عضوة في مجلس الشيوخ سنة 2016، لكن سجلها المطول في الادعاء هو أحد أهم فترات حياتها المهنية والسياسية، ومصدر عدم الثقة بين الليبراليين الذين سخروا من هاريس التي وصفت نفسها بأنها “مدعية عامة تقدمية”. ومع ذلك، منذ الحملة، برزت هاريس كواحدة من الأصوات الرئيسية في الكونغرس حول إصلاح العدالة الجنائية، وشاركت في صياغة النواب الدّيمقراطيين تشريع إصلاح الشرطة الشامل في أعقاب الاحتجاجات الوطنية على وحشية الشرطة...
استغلّت وصولها إلى مجلس الشيوخ لبناء مكانة وطنية، بواسطة استجواباتها للمُعَيَّنين في البيت الأبيض من المدعي العام السابق جيف سيشنز، إلى قاضي المحكمة العليا بريت كافانو والمدعي العام ويليام بار، وإلى مديرة وكالة الاستخبارات المركزية جينا هاسبل…
وصفت هاريس نفسها بأنها تقدمية خلال فترة عملها مدعية عامة في ولاية كاليفورنيا، لأنها اتّخذت مواقف مُسانِدَة لحقوق الأطفال وحقوق الشواذ وبرامج الإصلاح الجنائي والمطالبة بوقف عقوبة الإعدام، وحماية المستهلكين، ولكنها كانت تُغضب الليبراليين لرفضها اتخاذ مواقف أكثَرَ جرْأةً أو قد تُهدّد منصبها، واتّسمت مواقفها بالتأرجح بين مواقف سياسية متعارضة تجاه نفس الموضوع، كما اعتبرت نفسها “تقدّمية” خلال الإنتخابات الدّاخلية للحزب الدّيمقراطي، وأثارت المواقف التاريخية لجوزيف بايدن المُؤيّدة للميز العنصري ضد السُّود الأمريكيين في المدارس ووسائل النّقل، وهي لا تدعم “التيار التقدمي” بالحزب الدّيمقراطي، بل واجهت انتقادات لِسِجِلِّهَا في العدالة الجنائية، حيث أظْهَرت تَحَيُّزًا ضدّ الفُقراء وضدّ المرأة، ولكن طموحها السياسي جعلها تحاول الآن جذب المعتدلين الديمقراطيين التقليديين وكذلك أنصار التيار التقدمي وتعتقد أن بإمكانها جذب الناخبين السود والشباب والنساء للتصويت للديمقراطيين بنسب أكبر من تلك التي حصلت عليها خلال حملة الإنتخابات الدّاخلية للحزب الدّيمقراطي لتعيين المُرشّح للإنتخابات الرئاسية.
تتمتع السياسية كامالا بعلاقة شخصية مع عائلة بايدن لأنها كانت صديقة وزميلة عمل لابن بايدن الذي كان مُدّعيا عامّا مثلها، وتُوفي مُتأثرا بمرض السرطان وكانت أختها محامية ومستشارة سابقة لحملة هيلاري كلينتون الرئاسية لسنة 2016، ثم قادت حملة أختها كامالا.
من مِلَفّ هاريس الصّهيونية
تعد هاريس من المدافعين عن الحرب التجارية ومن مؤيدي الإستفزازات ضد الصين، ومن دعاة التّصلّب وعَسْكَرَةِ السياسة الخارجية الأمريكية، وهي أقوى المؤيدين ومن الدّاعين إلى الدّعم الأمريكي الكامل للكيان الصهيوني، وأظْهرت ذلك لما كانت عضوة في عدة لجان مُهِمّة بمجلس الشيوخ ( اللجان المالية والقضائية والأمن الدّاخلي والإستخبارات…) وكانت ضيفة مؤتمر مجموعة “آيباك” سنتي 2017 و2018، و”آيباك” هي أكبر مجموعة ضغط صهيوني في الولايات المتحدة والعالم، وهي مُتزوجة من المحامي والمناضل الصهيوني دوغلاس إمهووف منذ سنة 2014، أَحَدُ المُؤثّرين على تفكيرها وفق تصريحاتها، لكنها كانت صهيونية قبل زواجها، وهي من مؤيدي جرائم الكيان الصهيوني الاستعماري العنصري ومن جامعي الأموال لصالح المستعمرات الإستيطانية في الأراضي المحتلة سنة 1967، وهي لا تزال نائبة الرئيس جوزيف بايدن وإدارته التي تدعم الإبادة الجماعية المستمرة ضد الشعب الفلسطيني، وردّدت كامالا هاريس الأكاذيب الصهيونية عن اعتداءات جنسية مزعومة على المُستوطنين في فلسطين المحتلة يوم السابع من تشرين الأول/اكتوبر 2024، ولما لاحظ أحد مُستشاريها التناقض في تصريحاتها الأخيرة، أعلنت “إن حماية المدنيين الفلسطينيين – وهل لدى الفلسطينيين عسكريون؟ – لا تتعارض مع دعم إسرائيل”، وهي في واقع الأمر تحاول الحصول على دعم انتخابي من الصهاينة ومن مُساندي القضية الفلسطينية…
في مجال السياسة الخارجية، يهمّنا، كتقدّميين عَرب، موقف أي سياسي (عربي أو أعجمي) من قضايانا، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، وفي هذا المجال، فإن “كامالا هاريس” دعمت مواقف “دونالد ترامب” المتعلقة بقضايانا العربية (والفلسطينية)، وهي متزوجة من صهيوني (سنة 2014) داعم للإحتلال الصهيوني لفلسطين، وساهمت في جمع التبرعات لصالح المُستوطنات الإستعمارية الصهيونية، وزارت المُستوطنين الصهاينة في فلسطين المحتلة، مرات عديدة، وشاركت الصهاينة في احتفالهم بالذكري الخمسين لاحتلال الضفة الغربية وغزة (1967 – 2017)، وأَبْدَعَت في مُحاباة “آيباك” (لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية)، أكبر منظمة صهيونية في العالم، وحضرت مؤتمر هذه المنظمة، في مناسَبَتَيْن على الأقل، وحاربت، ولا تزال، حركة مقاطعة الكيان الصهيوني، ووصفت حركة “ب يدي إس” (المُعتدلة والمُسالمة) ب”معاداة السامية”، وحرصت على نشر صُوَرٍ لها مع قادة المنظمات الصهيونية الأمريكية والعالمية، وأعلنت إعجابها “بديمقراطية وعدالة” دولة الإحتلال، وصرحت أنها تُعارض “أي دور للأمم المتحدة، وأي ضَغْطٍ من الولايات المتحدة على إسرائيل… (وإنها) تدعم حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، من هجمات تشنها حماس من قطاع غزة… “، وأوردت المجلة اليهودية “فوروارد” العديد من المواقف والمُمارسات الصهيونية لكامالا هاريس.
كامالا هاريس ممثلة جيل من السّاسة الإنتهازيين
عندما كانت كامالا هاريس مُدّعية عامة، كانت تُمثّل النموذج القمعي لصغار الجانحين والمجرمين، والذي فَرَضَ الحد الأدنى من الأحكام الإلزامية، كما رفضت تخفيف العقوبات على الجرائم البسيطة المتعلقة، على بحيازة المخدرات البسيطة أو السرقة الصغيرة، ومنع الاعتقال بسبب جرائم لم يكن ضابط الشرطة شاهداً شخصياً، مما أدّى إلى زيادة كبيرة في عدد السّجناء في ولاية كاليفورنيا، خصوصًا الرجال من السود والجنوب أمريكيين، حيث تُدير الشركات الخاصة السّجون وتُشغل السّجناء بشكل شبه إجباري وشبه مجاني، وفي مقاطعة سان فرانسيسكو، أيدت هاريس تشريعات الولاية التي تنص على غرامة 2000 دولار والسجن لمدة عام لأولياء أمور الطلاب الذين غابوا عن المدرسة بشكل متكرر، ويستهدف هذا القانون الفُقراء والأشخاص غير البيض، وعارضت – بصفتها مدعية عامة في كاليفورنيا – الإفراج المبكر عن المجرمين أصحاب الأحكام القصيرة لتفادي الإكتظاظ، ورفضت لأن الإفراج عن السّجناء يُخفّض عدد العاملين بالمجان لصالح الشركات ويُخفض عدد موظفي السجن، ومن مظاهر التناقض في مواقفها وممارساتها، دافعت لسنوات عن حقوق العمال ودعت إلى رفع الحد الأدنى للأجور وشاركت في إقامة دورات تدريبية للقضاء على التحيز العنصري في صفوف رجال الشرطة أو برنامج ( Back on Track ) الذي يتيح – منذ سنة 2005 – للمجرمين من غير ذوي السوابق إمكانية الإفراج عنهم عند إكمال الدراسة المهنية والحصول على دبلوم…
تُشير هذه المواقف والوقائع المتناقضة إلى “براغماتية” ( أي الإنتهازية والحسابات الشخصية) كامالا هاريس، وجيل من الساسة الطّموحين في الحزب الدّيمقراطي ولم تتحرّج من تناقض مواقفها بين مدعية عامة صارمة في التعامل مع الجريمة وتقدمية (بالمفهوم الأمريكي لعبارة التّقدّمية) تدعو إلى اتخاذ إجراءات قانونية لصالح العاملين في أسفل درجات السّلّم وإجراءات لإصلاح مؤسسة الشرطة التي تسودها العنصرية والعُنف، وعمومًا، قاومت كامالا هاريس في بداية مسيرتها المهنية – بعد انتخابها في منصب المُدّعِيَة العامة لمنطقة سان فرانسيسكو سنة 2004 – المطالب الرجعية، ودافعت عن تعليم السجناء غير المتورطين في جرائم عُنف وبعض المجرمين الأحداث المهارات اللازمة للتوظيف، في محاولة لضمان عدم عودتهم إلى السّجن، وعارضت الإجراءات القمعية خلال فترة رئاسة دونالد ترامب، لكن مواقف كامالا هاريس براغماتية وليست مبدئية فهي لم تدعُ إلى إلغاء عقوبة الإعدام – أثناء عملها كمدعية عامة ــ بل أعلنت عدم تطبيقها في بعض الحالات، وعندما حكم قاضٍ فيدرالي بأن تطبيق عقوبة الإعدام في كاليفورنيا غير دستوري، استأنفت المدعية العامة كامالا هاريس الحكم ودافعت عن عقوبة الإعدام وعن نهج “الصرامة في التعامل مع الجريمة، لكن بشكل ذكي”، ودافعت عن قانون كاليفورنيا القاسي الذي يفرض عقوبات بالسجن مدى الحياة على أي شخص أدين بعقوبة ثالثة، وتم تحوير القانون من خلال استفتاء أول سنة 2012 وثاني سنة 2014، ورفضت الانضمام إلى محاولات ولايات أخرى لإزالة الماريجوانا من قائمة وكالة مكافحة المخدرات للمواد الأكثر خطورة، وعارضت، لما كانت مدعية عامة، تثبيت كامرات تصوير على أزياء الشرطة وعارضت مشروع قانون يلزم مكتبها بالتحقيق في حوادث إطلاق النار المميتة التي ترتكبها الشرطة، وفق “ميلينا عبد الله”، أستاذة الدراسات الأفريقية ومتحدّثة باسم حركة “حياة السود مهمة”، ورغم قُدرتها على إعادة تشكيل نظام العدالة الجنائية في كاليفورنيا، فإن كامالا هاريس اتصفت بكونها ” سياسية حذرة للغاية وتتجنب القضايا الساخنة لأسباب براغماتية أي لعدم عرقلة تقدّمها المهني والسياسي” وفق صحيفة ساكرامنتو بي (24/10/2016) رفضت دعوى رفعا سجناء في كاليفورنيا بشأن استخدام الولاية للحبس الانفرادي، مُدّعِيَةً عدم وجود حبس انفرادي في سجون كاليفورنيا”، كما كانت كامالا هاريس أيضًا مدافعة عن مصادرة الأصول المدنية، والسماح للمدعين العامين بمصادرة الممتلكات قبل توجيه الاتهامات.
أرادت كامالا هاريس الظهور بمظهر المصلحة المتحمسة في مجال العدالة الجنائية، لكنها لم تبذل سوى القليل من الجهد لإقرار هذا الإصلاح خلال سنوات عملها كمدعية عامة، والظهور في صورة مُدّعِية عامة صارمة، تلاحق المخالفات المالية دفاعاً عن المواطنين، غير أنها دعمت سياسات عقابية قاسية قوضت خطابها التقدمي بشأن هذه القضية، كما حاولت مرارا وتكرارا إبقاء رجل بريء مسجونا، وحاولت الدفاع عن اعتراف مزور...
بين “الحاج موسى” و “موسى الحاج”
يتّفق الحِزْبان الأمريكيّان على استمرار الهيمنة الأمريكية على العالم، وقد يختلفان في الوسائل (التّكْتِيك) كما يتفقان في الدّعم المطلق للكيان الصهيوني، واغتَرّ العديد من التقدّميّين في الولايات المتحدة وفي العالم، ومن بينهم العرب، بانتخاب أول رئيس نصف أسْوَد سنة 2009، وخاب ظنّهم، وقد يتكرّر التفاؤل – غير المُبَرّر – بصعود كامالا هاريس أوّل امرأة تتولّى منصب نيابة الرئاسة في الولايات المتحدة، وأوّل امرأة نصف سوداء ونصف آسيوية تصبح مدّعية عامة لولاية كاليفورنيا، ثم نائبة في مجلس الشيوخ، ومُترشحة لمنصب رئاسة أقوى دولة امبريالية، ومن واجبنا كعرب التّذكير بخطابها سنة 2017 أمام “لجنة الشؤون العامة الأمريكية-الإسرائيلية” (آيباك – AIPAC)، أكبر لوبي صهيوني في العالم: « يجب أن يكون دعم أميركا لأمن إسرائيل صلباً، ويجب أن نقف إلى جانب إسرائيل في مواجهة إيران التي تستمر في إطلاق صواريخ باليستية وتقوم بتسليح وتمويل وكيلها الإرهابي حزب الله، ويجب أن نقف إلى جانب إسرائيل في مواجهة حماس التي تسيطر على غزة وتطلق الصواريخ عبر الحدود الجنوبية لإسرائيل…» وكرّرت سنة 2018 أيضًا عدة مرات عبارة “يجب أن نقف بقوة إلى جانب إسرائيل”، وعارضت في مجلس الشيوخ ربط المساعدات المالية والعسكرية بتغيير سياسة الإحتلال في الضفة الغربية، وكررت عددا لا يُحصى عبارة «حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها… لأن أرض إسرائيل كانت قاحلة وحوّلها اليهود إلى واحة مزدهرة”، وساهمت في جَمْع التبرعات للمُستوطنات، وزارت – مع زوجها المناضل الصهيوني – فلسطين المحتلة عدة مرات، وأعلنت: “عندما زرتها للمرّة الأولى، رأيت ثمار هذا الجهد والبراعة الإسرائيلية في جعل الصحراء تزهر”، ويُشكل هذا الموقف القاسم المشترك بين الحزبَيْنِ وبين المُرَشَّحَيْن المُتنافِسَيْن، وبغض النّظر عن إسم الفائز سوف يستمر الدعم الأمريكي غير المحدود للعدو الصهيوني، ويكن الإختلال في الحديث العقيم عن “حل الدّولَتَيْن” الوَهْمِي الذي يُشَرْعِنُ احتلال فلسطين ويُبرّر المجازر باسم “الدفاع عن النّفس” ويُعارض الحزبان وممثلوهما حركة المقاطعة ( BDS )
أما توقيت انسحاب جوزيف بايدن وترشيح نائبة الرئيس “كامالا هاريس” فقد جاء بعد انخفاض شعبيته وشعبية الحزب الدّيمقراطي في أوساط النساء والمواطنين السّود والطّلبة والطبقة العاملة في المدن الصناعية الكبرى، ونحن كعرب نبحث عن نَصِير أو حتى “مُحايد” (إن كان هناك مجال للحياد) في المجالس التشريعية والتنفيذية في أمريكا الشمالية وفي أوروبا، وفي المُستعمَرات الإستيطانية (أستراليا ونيوزيلندا وكندا…)، ولذلك نعتبر تعيين امرأة من أصل غير أوروبي، تطوُّرًا في عالم السياسة الأمريكي، لكن ذلك لا يكفي، فما موقف هذه المرأة من قضايا الإستغلال والإضطهاد ومن الإستعمار والإمبريالية، وغير ذلك؟
موقع كامالا هاريس في المنظومة الرأسمالية الأمريكية
كامالا هاريس ليست نَكِرَة أو وافِدَة جديدة، بل هي خبيرة في عالم السياسة الأمريكية، إذ شغلت منصب مدّعية عامة (يُسمّيها التقدّميون “الشُّرْطِيّة”) وعضو مجلس الشيوخ عن ولاية “كاليفورنيا”، وترشّحت لتصفيات الرئاسة الأمريكية، داخل الحزب الديمقراطي (سنة 2020)، ولها باع طويل في مجال السّجالات والمجادلات السياسية، ولها خبرة كبيرة في جمع التّبرّعات من الأثرياء للحملات الإنتخابية، لأنها تُمثّل تيار “الوسط في الحزب الديمقراطي”، بمقاييس الولايات المتحدة، أي اليمين، بمقاييس أوروبا، وهي لا تتطرّق سوى نادرًا لقضايا الإضطهاد والعُنصرية، والمساواة والعدالة الإجتماعية، فهذه المواضيع غائبة عن قاموسها السياسي، ولها علاقات وطيدة بشركات التكنولوجيا، بحسب صحيفة “نيويورك تايمز”، وصحيفة “وول ستريت جورنال”…
لما شغلت منصب المُدّعية العامة، تميزت بعدم الإستجابة للمطالبات بإجراء تحقيقات عن إطلاق الشرطة النار على المتظاهرين، وقَتْل العديد من المواطنين، كما رفضت التراجع عن سجن متهمين ثبتَتْ براءتهم، بعد تحقيقات ومحاكمات سريعة، غير موثقة، أدت إلى سجن العديد من المواطنين الفُقراء والسود والشّبّان…
التقت كامالا هاريس – كنائبة الرئيس وكمُرشّحة عن الحزب الدّيمقراطي للرئاسة – رئيس حكومة العدو الصهيوني الذي أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة اعتقال ضدّه، وأكّدت بعد اللّقاء في تصريح علني “الدّعم الثابت لإسرائيل وحقها في الدفاع عن نفسها…وأخْبَرتُ رئيس الوزراء نتن ياهو أنني سأضمن دائمًا أن تكون إسرائيل قادرة على الدفاع عن نفسها، بما في ذلك ضدّ إيران والميليشيات المدعومة من إيران… منذ أن كنتُ فتاةً صغيرةً، أجمع الأموال لزراعة الأشجار لإسرائيل، وتَعَزَّزَ التزامي الثابت بوجود دولة إسرائيل وأمنها وأمن شعب إسرائيل، سواء في مجلس الشيوخ أو في البيت الأبيض (بصفتها نائبة الرئيس)… لقد قلت ذلك مرات عديدة، لكن الأمر يستحق التكرار: لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها، ومن المُهِم اختيار طريقة الدّفاع…”
وصرحت خلال نفس اليوم، بهدف اجتذاب الُمناهضين للدّعم الأمريكي غير المشروط للكيان الصهيوني: “في السابع من تشرين الأول/اكتوبر 2023، أشعَلَتْ حماس هذه الحرب عندما قتلت 1200 شخص بريء، من بينهم 44 أميركيًا، وارتكبت حماس أعمال عنف جنسي مروعة واحتجزت 250 رهينة، ولا يزال مواطنون أميركيون أسرى في غزة، وقد التقيتُ بعائلات هؤلاء الرهائن الأميركيين عدة مرات، وقلتُ لهم في كل مرة إنهم ليسوا وحدهم وأنني أقف معهم، وإننا – أنا والرئيس بايدن – نبذل جهودًا كل يوم لإعادتهم إلى ديارهم، كما أعربْتُ لرئيس الوزراء عن قلقي الشديد إزاء حجم المعاناة الإنسانية في غزة، بما في ذلك مقتل عدد كبير جدًا من المدنيين الأبرياء، وكما أوضحتُ قلقي الشديد إزاء الوضع الإنساني المزري هناك حيث يواجه أكثر من مليوني شخص مستويات عالية من انعدام الأمن الغذائي ونصف مليون شخص يواجهون مستويات كارثية من انعدام الأمن الغذائي الحاد. إن ما حدث في غزة على مدى الأشهر التسعة الماضية مدمر، ولا يمكننا غض الطرف عن المآسي وعن صور الأطفال القتلى والجوعى اليائسين الذين يفرون بحثًا عن الأمان… لقد حان الوقت لأن تنتهي هذه الحرب، وبشكل يضمن أمن إسرائيل، ويتم إطلاق سراح جميع الرهائن، وتنتهي معاناة الفلسطينيين في غزة، ويتمكن الشعب الفلسطيني من ممارسة حقه في الحرية والكرامة وتقرير المصير... إنني أؤكد أننا نعمل على إعادة الأسرى إلى ديارهم، وعلى توفير الإغاثة الضرورية للشعب الفلسطيني، مع بقاء إسرائيل دولة يهودية وديمقراطية آمنة، وعلينا جميعاً إدانة الإرهاب والعنف، ولنفعل كل ما بوسعنا لمنع معاناة المدنيين الأبرياء ( وتقصد المُستوطنين المُسلّحين) ولإدانة معاداة السامية وكراهية الإسلام والكراهية بكل أشكالها…”
وصف موقع صحيفة “كاونتر بانش” (26/07/2024) هذا التّصريح ب”السيناريو الإنساني الزائف الذي ينشره البيت الأبيض منذ أشهر، مع التعبير العلني عن القلق مع ارتفاع عدد القتلى، بينما تستمر أطْنان الأسلحة والذّخائر والعتاد في التدفق دون عوائق، رغم تجاهل نتن ياهو لدعوات لوقف إطلاق النار، وتتجاهل الولايات المتحدة قرارات المحاكم الدّوْلية وتقارير الأمم المتحدة…”
تتلخّص الحياة السياسية الأميركية المعاصرة في المهرجانات الإنتخابية وهي عبارة عن مسرحيات تُخْرِجها وتكتُبُ سيناروهاتها الشركات ووسائل الإعلام السائدة، وأطلق المُؤَرّخ والناقد الإجتماعي هوارد زين ( 1922 – 2010) ومؤلف كتاب “التاريخ الشّعْبِي للولايات المتحدة، على هذه المسرحية عنوان “جُنُون الإنتخابات، حيث يتباهى المرشحون ويبتسمون ويطلقون وابلاً من الكليشيهات بِجِدِّيَّةٍ تليق بالشِّعْر المَلْحَمِي…” فيما يدعم المُرشحون – من الحزب الدّيمقراطي أو الجمهوري – الإبادة الجماعية الصهيونية الفاشية المستمرة في غزة منذ تشرين الأول/اكتوبر 2023.
لقد تم ترويض الشعب الأمريكي – باستثناء أقَلِّيّة – لقبول الإعتداء على الشّعوب واحتلال الأوطان وتجويع الملايين وحرمانها من الغذاء والدّواء والوقود في كوبا وفلسطين وسوريا واليمن وفي إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، وتم ترويض الشعب الأمريكي على قبول قتل السود في الولايات المتحدة من قِبَل رجال الشرطة وحراس الأمن البيض، دون عقاب بعد أربع سنوات من اغتيال جورج فلويد.
تقتصر الحملة الإنتخابية على الدعاية الشخصية التي يقدمها المُرَشَّحُون، فيما تواصل الإمبريالية الأمريكية استغلال البشرية وقمعها، داخل وخارج الولايات المتحدة، ولن يَخْرُجَ أي من المرشحين (كامالا هاريس و دونالد ترامب) عن منظومة الهيمنة الإمبريالية أو يُوَجِّهَ أي نَقْدٍ جَادٍّ لها
يُشكّل ترشيح كامالا هاريس إنْعاشًا للمسرحية الانتخابية الأمريكية التي أعادت توجيه اهتمام الناس نحو الانسجام الهوِيّاتي الزائف، من خلال الحديث عن العرق والجنس والعمر، بدل الحديث عن الإستغلال والفَقْر وشُح محلاّت السكن وحرمان عشرات الملايين من الأمريكيين من الرّعاية الصّحّيّة، وبدل الإهتمام بارتفاع ميزانية التّسلّح التي تستفيد منها الشركات العابرة للقارات وادّعى المُهَرِّج الليبرالي “مايكل مور” إن ترشيح كامالا هاريس يُشكّل في حدّ ذاته “سببا للخروج من اليأس العميق” وفق ما كتبه على موقع ( Substack )
تُمثل كامالا هاريس المدعية العامة السابقة ونائبة الرئيس جوزيف بايدن شريحة ليبرالية إمبريالية لها وزن كبير في الحزب الدّيمقراطي الأمريكي (كلينتون و أوباما ) وسبق أن سَخِرَتْ سنة 2015 من التقدميين باعتبارهم “محتجين صبيانيين أرادوا بحماقة نقل دولارات الضرائب من السجن الجماعي إلى التعليم العام” وأطلقت عليها حركة حياة السود في منطقة الخليج لقب “كوبمالا” تلميحًا دفاعها عن عقوبة الإعدام في ولاية كاليفورنيا، لما كانت المُدّعية العامة بالولاية وحثّت محكمة الاستئناف الأمريكية على إلغاء قرار محكمة أدنى درجة بإبطال عقوبة الإعدام في الولاية، لكن الفاشيين (مثل دونالد ترامب) يعتبرونها “يسارية متطرفة”، ومن شأن هذا الجدل العقيم أن يبث روحًا جديدةً في مسرحية “جنون الانتخابات”، حيث يتم تركيز أنصار كامالا هاريس على المسائل السّطْحِيّة مثل ازدواجية هويتها العرقية ( مثْل باراك أوبامي) والجنسانية (مثل هيلاري كلينتون) وبذلك يتم إهمال نضالات العُمال خلال السنوات الأخيرة من أجل الحق في تأسيس النقابات ومن أجل ظروف عمل وأجور أفْضَلَ والحق في التّأمين الصحي والإجتماعي ونضالات المواطنين السود من أجل المُساواة والعدالة…
تنخفض نسبة المُشاركة في العملية الإنتخابية لدى فئات الشباب والفُقراء، في جميع أنحاء العالم، أما التّقدّميون فيُصَوِّتُون لصالح الأقل شرًا، لأن البرجوازية تجعلهم يختارون بين الفاشي المُعْلَن والفاشي المُتَسَتِّر بشعارات الدّيمقراطية البرجوازية كالتداول على السلطة ودولة المُؤسّسات وما إلى ذلك من شعارات مُفْرَغَة من أي معنى، ويتم إهمال مصالح الكادحين والفُقراء وطموحات الشعوب الواقعة تحت الإستعمار والإضطهاد، مثل الشعب الفلسطيني…
الجنس واللَّوْن والدّين في مقابل المواقف والأفْعال
اعتبر العديد من المُعلّقين أن وجود “كامالا هاريس” في منصب نائبة الرّئيس “انتصارًا للسود وللنساء وللتقدميين…”، لمجرد كونها امرأة ومن أُصُول غير أوروبية، فهل يُعقَل أن يُشكل الجنس واللون والدّين أساسًا كافِيًا للحُكم على مواقف وأفعال شخصِ مَا؟
أليس الدّكتاتوريون والرجعيون والمُطَبِّعُون العرب (والفلسطينيون أيضًا)، وكذلك أرباب العمل، والمُستَغِلّون لعرق الكادحين، ومُضطَهِدِو الشعوب، من نفس طينتنا وديننا وجنسنا ولوننا؟
قبل إعلان نتيجة الإنتخابات الرئاسية سنة 2020، كتبت الصحيفة الصّهيونية “تايمز أوف إسرائيل” أن المُرشَّحَيْنِ الرئاسِيَّيْن (ترامب و بايدن) من الأصدقاء المُقرّبين للكيان الصهيوني، ولرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وأثبت “جوزيف بايدن”، على مدى أربعة عقود، دعمه القوي للكيان الصهيوني، بالإضافة إلى المُبالغة في خدمة أهداف الإمبريالية الأمريكية في العراق وفي سوريا، وغيرها، وكان، خلال سبعينيات القرن العشرين، يُعبّرُ عن مواقفه المُؤيّدة لسياسات الميز العنصري، وَرَفْض الاختلاط في حافلات نقل تلاميذ المدارس وغير ذلك، ولذا فإن هوية الرئيس الأمريكي تبقى ثانوية بالنسبة لنا، وكذلك هوية نائب الرئيس، رغم ادّعاء صحيفة “عالم الشّعب” (الحزب الشيوعي الأمريكي، وشيوعيته من صنف قيادة الحزب الشيوعي العراقي التي دعمت الإحتلال الأمريكي للعراق)، بتاريخ 12 آي/أغسطس 2020، بأن “كامالا هاريس” تقدّمية، وصديقة النسوة السود والطبقة العاملة الأمريكية، اعتمادًا على شهادة رئيس “الإتحاد الأمريكي للعمل” (نقابة أُجَراء تخترقها وكالة المخابرات المركزية الأمريكية)، وما ورد في موسوعة “بالوتبيديا”، وما هذا الإدّعاء سوى عينة صغيرة من حال “اليسار” الأمريكي…
تُعتبر “كامالا هاريس” من المتحدّثين الرّسميّين الثابتين في المؤتمرات السّنوية وكافة تظاهرات “لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية، أكبر وأقوى وأثْرَى مجموعة ضغط صهيونية في العالم، وساهمت منذ كانت طالبة في جمع التبرعات للمستوطنات الإستعمارية الصهيونية، وفي معارضة حركة المقاطعة (ب يدي إس )، وادّعت، هي وزوجها الصّهيوني، سنة 2017، أن الولايات المتحدة “مُقَصِّرَة في معاقبة جرائم الكراهية التي يتعرض لها اليهود”، وبشأن “تقدُّمِيتها” المشبوهة أو المُفْتَرَضَة، كتبت “لارا بازيلون” (جامعة سان فرنسيسكو) “إن كامالا هاريس تحجم عن خوض المعارك التقدمية، مثل إصلاح جهاز الشرطة وإصلاح القوانين المتعلقة بتجارة وحمل السلاح وبتجارة المخدرات وإدانة القضاء للأبرياء من السّود والفُقَراء…”
وصف تقرير نشره موقع “ذا غري زون” ( المنطقة الرّمادية)، أواخر سنة 2017، السيناتورة “كامالا هاريس” وتقدّميتها (المزعومة) بأنها تقتصر على بعض “التّصريحات الفضفاضة ضد العنصرية، في الولايات المتحدة، وتختفي هذه التقدمية الإفتراضية عندما يتعلق الأمر بالعدوان الأمريكي على الشعوب والبلدان، وعندما يتعلق الأمر بالإحتلال الصهيوني، وبحقوق الإنسان الفلسطيني، ويمكن القول أن تقدميتها “انتقائية، وتستثني فلسطين”، وذكرت بعض المواقع الصهيونية أنها انتقدت (سنة 2017) حفيد “نيلسون مانديلا” الذي ردّد كلمة جَدّهِ “إن حريتنا لا تكتمل بدون حرية الفلسطينيين”، وأعلن (الحفيد) “إن الفلسطينيين يتعرضون لأسوأ نسخة من الميز العنصري” ، وتدعم هاريس “التعاون والتنسيق مع السعودية في قضايا مكافحة الإرهاب”، كما تدعم السياسات الإستفزازية والتحرش العسكري تجاه الصين وروسيا، والحرب التجارية، وتتعلّل بحقوق “الإيغور” (أقلية مُسْلِمَة في الصين، يوجد الآلاف من الإرهابيين من أبنائها في سوريا بدعم تركي وأمريكي وقَطَري)، و”حقوق سُكّان هونغ كونغ“…
يؤيد رؤساء أمريكا وقادة أحزابها ونقاباتها ومعظم جمعياتها، التّحالف الإستراتيجي الأمريكي-الصهيوني، ولا نسمع أو نقرأُ اعتراضًا على مَنْح الكيان الصهيوني 3,8 مليارات دولارا سنويا من أموال الكادحين الأمريكيين، بالإضافة إلى الدّعم السياسي والإقتصادي والتكنولوجي والعسكري، غير المحدود، وغير المَشْرُوط للإحتلال الصهيوني، وعلى أي حال فإن دعم “التّقدّميّين” لا يتجاوز المطالبة باحترام حقوق الإنسان الفلسطيني، وهو ما لا يتماشى مع وضع الإحتلال بشكل عام، والإحتلال الإستيطاني بشكل خاص.
من جهتنا، لا يجب أن نُعوّل على أحدٍ للدفاع عن قضايانا، بل نطلب الدّعم من أصدقائنا، ونُحَدّدُ شروط الدّعم، عندما يكون لدينا، في فلسطين وفي الوطن العربي، وفي أي رقعة من العالم يعيش أهلها الإستغلال والإضطهاد، فضلاً عن الإحتلال، برنامج تحرر وطني واجتماعي، نعمل على إنجازه…
من حقنا ومن واجبنا فرز العدو من الصّديق، ورَفْع الإلتباس (بشأن نائبة الرئيس الأمريكي ومرشحة الحزب الدّيمقراطي للرئاسة، على سبيل المثال)، وإزالة الوَهم من أذهان بعضنا.
أعلنت “كامالا هاريس”، قبل انتخابات 2020 : “إذا فاز بايدن، سيحتفظ بالسفارة الأمريكية في القدس، مع الاعتراف بالقدس عاصمة موحدة لدولة اسمها إسرائيل…”
قبل أن يُصبح رئيسًا، كان جوزيف بايدن صهيونيًّا، لقّنه أبوه مبادئ الصهيونية، بقوله (بحسب جو بايدن نفسه): ” ليس شرطًا أن تكون يهودياً لتكون صهيونياً… إن إسرائيل ضرورة لأمن اليهود في العالم… لو لم توجد إسرائيل، لاضطرت الولايات المتحدة إلى إنشائها… إن إسرائيل هي القوة الأمريكية الأهم في الشرق الأوسط، ولذا فأنا أتعهّد بحمايتها…” (وكأن الكيان الصهيوني مُهدّدٌ)، ، وسبق أن لعب “جوزيف بايدن” دورًا خطيرًا ضد مصالحنا كعرب، لأنه ساهم في تفتيت العراق، وتقسيم سوريا، خدمة للمصالح الأمريكية وللكيان الصهيوني.
التقت نائبة الرئيس الأمريكي، كامالا هاريس، برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في واشنطن العاصمة في 25 يوليو/تموز 2024، ثم تحدثت للصحافة ووعدت “بعدم الصمت أمام الوضع الإنساني الكارثي في غزة”، مطالبة “بإبرام اتفاق” وقف إطلاق النار دون مزيد من التأخير”، بحسب حساب كامالا هاريس X، ويتناقض هذا التصريح مع موقف جوزيف بايدن ويأخذ بعين الاعتبار احتجاجات جزء من الشباب الأميركي والسود الذين يدينون الإبادة الجماعية في غزة. هذه ليست إشارة إلى تغيير كبير محتمل في السياسة الأمريكية تجاه الشعب الفلسطيني، ولكنها علامة على التكيف والانتهازية السياسية التي تتناقض مع الدعم غير المشروط الذي أظهره جوزيف بايدن، ويتمثل القاسم المشترك بين جوزيف بايدن ودونالد ترامب وكمالا هاريس في ضرورة إطلاق سراح أسرى الحرب الصهاينة دون مقابل وفي ”تجميل صورة إسرائيل التي شوهتها هذه الحرب” بحسب دونالد ترامب (وكالة رويترز 2024/07/26)
تشير تصريحات كامالا هاريس الأخيرة بشأن الإبادة الجماعية في غزة إلى تغيير محتمل في السياسة الأمريكية، لكن عليها توضيح موقفها وإقناع المتشككين، وخاصة الأصغر سنا وكل الذين رفضوا جوزيف بايدن بسبب مساعدته غير المحدودة للحكومة الصهيونية، ويشكك أنصار القضية الفلسطينية في التغيير، كما أن آرائهم بشأن كامالا هاريس ليست إيجابية، فهي جزء من قيادة الحزب الديمقراطي، ومن إدارة بايدن ( هي نائبة الرئيس)، وتأتي من نفس الأوساط السياسية التي قدمت الدعم العسكري والمالي للدولة الصهيونية.
خاتمة:
رحب الاخوان المسلمون بفوز جوزيف بايدن سنة 2020، فيما عَلّقَ رئيس جمهورية ايران: “لا يُغَيِّرُ رحيل ترامب وفوز بايدن أي شيء!، فأمريكا ستستمر في الانحدار!!”، أما بالنسبة لنا كعرب تقدّميين فإن مقياسنا هو الموقف الأمريكي (أو غير الأمريكي) من قضايانا، في فلسطين والعراق وسوريا وليبيا واليمن وفي إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية، وغيرها ومن الممارسات العدوانية للإمبريالية الأمريكية في جميع أنحاء العالم، ومن اضطهاد الشعوب، وموقف وممارسات منظومة الحكم الأمريكية، داخليا إزاء من تبقّى من الشعوب الأصلية وإزاء السود، أحفاد الأفارقة الذين وقع استعبادهم، والفُقراء والعاملين داخل أو خارج الولايات المتحدة، لأن تغيير الرؤساء أو تغيير لَوْن الأغلبية في المجالس النيابية، لا يُغَيِّرُ الموقف الاستراتيجي الثابت المناصر للكيان الصهيوني، والدّاعم لليمين العنصري في كافة دول العالم، والمُعادي لشعوب أمريكا الجنوبية وإفريقيا وآسيا والوطن العربي…
يُؤدّي الكيان الصهيوني دَوْرًا وظيفيًّا، عَبَّر عنه “ثيودور هرتزل”، بكل وُضُوح، منذ بدايات تأسيس الحركة الصهيونية الإستعمارية الإستيطانية، ويتمثل في كونه حلقة من حلقات الهيمنة الإمبريالية على الوطن العربي، لكن العلاقات الأمريكية الصهيونية تتميز بتشابه في النّشأة عبر الإستيطان وإزاحة السّكّان الأصليين، وبتداخل المصالح الإستراتيجية، وأصبحت سياسات وبرامج ومخططات الكيان الصهيوني جزءًا من السياسات الأمريكية، ولا تتجاوز الخلافات الجانبية، التي تظهر أحيانًا بين الطَّرَفَيْن، مستوى الشّكل أو الأُسْلُوب أو توقيت إعلان بعض البرامج. في دولة الإحتلال، تظهر بين فترة وأخرى، خلافات بين مكونات الإحتلال، لكن للقوى الصهيونية قواسم مُشتَرَكَة، فهي تتفق على القضايا الإستراتيجية المُبْنِيّة على مزيد من احتلال الأراضي، وتهجير أصحابها، يُشجّعها غياب البرنامج الوطني الفلسطيني وغياب أو ضُعْف القوى التي تسعى إلى التحرير، وضُعْف القوى التقدّمية والثّورِيّة العربية.
التعليقات مغلقة.