عرفانيّة غير عرفانيّة! / كمال ميرزا




كمال ميرزا ( الأردن ) – الثلاثاء 30/7/2024 م …
هناك لدى الأكاديميين الذين يدارون علمانيتهم و/أو إلحادهم تحت غطاء “العقلانيّة” و”الموضوعيّة”، ولدى المثقّفين اليساريّين المُفتَرضين على اختلاف تنويعاتهم ومشاربهم، ولدى الحزبيّين المتخندقين والفصائليّين المتعصّبين.. هناك لوثة تجتاحهم جميعاً لاستخدام مصطلح “عرفانيّة” في طروحاتهم الأكاديميّة وخطابهم الفكريّ وتحليلاتهم الفلسفيّة!
المصطلح للوهلة الأولى يوحي بالعمق، كما أنّه يتوافق مع ثقافة “الترند” التي تجتاح الجميع بلا استثناء هذه الأيام، المثقّف وغير المثقّف، وتُملي عليهم الاتيان دائماً بشيء جديد وطازج وجذّاب ولو على طريقة “إعادة التدوير”، وعدم المواظبة على نفس المصطلحات والمفاهيم و”الموضات” التي بهتت أو خبت أضواؤها.
لكن بالنسبة لمصطلح “عرفانيّة” تحديداً فإنّ السبب الرئيسي لشيوعه (أو بالأحرى نبشه واستحضاره وبثّ نَفَس جديد فيه) في هذه المرحلة تحديداً هو “طوفان الأقصى”، والنموذج المُبهر، ماديّاً ومعنويّاً، الذي قدّمته المقاومة الإسلاميّة، أو للدقّة المقاومة المستندة على الدين والمُعتقد الديني والنصّ الديني.. والتي يُفترض أنّها بالنسبة للفئات “التقدّميّة” المذكورة أعلاه محض “خرافات”، و”رجعيّة”، وتراث شفهي لمجتمعات ما قبل الدولة، وسذاجة عوام، وأفيون شعوب!
أصحاب مصطلح “عرفانيّة” يريدون من خلال مصطلحهم هذا بطريقة مباشرة أو غير مباشرة إنكار ونفي حقيقة أنّ العامل المتجاوز متمثّلاً في مقولة “الله/ المطلق/ الغيب” وكلّ ما يتفرّع عنها هو العامل الحاسم في تجربة المقاومة الإسلاميّة وحاضنتها الشعبيّة.. وذلك باعتبار أنّ “العرفانيّة” هو مصطلح “حلولي” يحاول استدماج “الغيبيّ” في “الماديّ”، وجعل تفسيرات الثاني تسري على الأول وتهيمن عليه عبر فزلكات منطقيّة وبهلوانيّات لغويّة، بالأخص على طريقة “المثاليّة الألمانيّة”!
من هنا مثلاً نلاحظ هذا الاستحضار المُفرط مؤخراً للصوفيّة (الصوفية بالمطلق وليس فقط المتصوّفة المسلمين)، وأسماء مثل “هيجل” و”هيدجر” ومَن لفّ لفيفهما. أو ذلك العتب على طريقة “ماكنش العشم” على “هابرماس” وموقفه من “غزّة” باعتباره الوريث/ الامتداد الحالي للمثاليّة الألمانيّة و”هيجل” و”مدرسة فرانكفورت”.
ومن هنا أيضاً يُلاحَظ هذا التقارب العجيب بين “السلطة” و”العرفانيّين”، وإتاحة السلطة أمام هؤلاء العرفانيّين، خاصة اليساريّين منهم، منابر كانت محرّمةً أو محظورةً أو مُقنّنةً أو مُضيّقةً عليهم في الماضي القريب ما قبل 7 أكتوبر!
بكلمات أخرى، مصطلح “عرفانيّة” هو مظهر لأنوات متضخّمة مُكابرة (وهي بحكم أنويّتها تعشق المنابر والأضواء متى ما أُتيحت لها) تريد أن تقرّ بنجاح المقاومة الإسلامية وفضلها وتفوّقها باعتبار ذلك حقيقة “ماديّة” و”تاريخيّة” ملموسة لا يمكن إنكارها (في مقابل فشل التجارب التي تنتسب إليها هذه الأنوات سابقاً وإخفاقها حاليّاً).. ولكنّها تخشى في نفس الوقت أن يُقال “صبأ فلان” أو أن يُتهم بـ “الإيمان” أو “الهداية” أو “الدروشة” لا سمح الله!
فلتنجلي هذه الغُمّة أولاً، وليندحر هذا العدو، ولننتصر.. ثمّ نستطيع أن نتجادل بعدها كما يحلو لنا عن سبب هذا النصر: هل هي مشيئة الله، أم الحتميّة التاريخيّة، أم بركات “مثقّفينا العضويّين” وفيضهم العرفانيّ، أم حتى الصدفة “التطوريّة” البحتة والانتخاب “الدارونيّ” العشوائيّ؟!

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.