الأرض، من وسيلة اكتفاء ذاتي إلى أداة للمُضارَبَة / الطاهر المعز

الطاهر المعز ( تونس ) – الأربعاء 31/7/2024 م …

يتطرق هذا النّص لموضوع المُضاربة بالأرض – التي كانت مشاعة بين الناس – وإنتاجها الزراعي والحيواني لتنتقل وظيفتها من إنتاج الغذاء إلى إنتاج الطاقة المُسمّاة “نظيفة” ومن منتجات غذائية تتلاءم مع طبيعة الأرض والمناخ ووفرة أو شُحّ المياه إلى إنتاج غذائي بحجم كبير مُعَدّ للتصدير وتلبية حاجة الأسواق الخارجية وسُكّان الدّول الرأسمالية المتطورة، وتُخصص هذه الورقة حيّزًا هامًّا للإمارات “العربية” المتحدة كنموذج للدّولة الوكيلة للإمبريالية التي تستحوذ على الأراضي في البلدان الفقيرة، ليس بهدف تلبية رغبات أقل من مليون إماراتي ولكن للمُضاربة وإعادة التّصدير، بالتّوازي مع التّوَرّط – كوكيل للإمبريالية وللكيان الصّهيوني – في العدوان على اليمن وسوريا وليبيا، وفي الحُروب الدّاخلية في الكونغو والسّودان وفي إبادة الشعب الفلسطيني، فضلا عن تطوير العلاقات السياسية – وليس التجارية والإقتصادية فحسب – مع الهند المتحالفة مع الولايات المتحدة والكيان الصهيوني للعمل على إنجاز طريق تجاري – يمر عبر الإمارات والسعودية وفلسطين المحتلة – بين آسيا وأوروبا لمنافسة مبادرة الحزام والطريق الصينية، أو طريق الحرير الجديدة…   




 

إفْراغ مَعدَات البشر لملْء البطاريات وخزانات المركبات

يستخدم مصنعو الوقود ملايين الهكتارات من الأراضي الزراعية لإنتاج قصب السكر أو عباد الشمس أو فول الصويا أو غيرها من المنتجات التي لم تعد مخصصة لإطعام البشر أو الحيوانات، بل لإنتاج الوقود الحيوي “النظيف والمُحافِظ على البيئة”، كما يستخدم مصنعو الكهرباء عدة ملايين الهكتارات من الأراضي الزراعية لتركيب الألواح الشمسية كجزء من مشاريع الطاقة الكهروضوئية لشركات إنتاج الطّاقة الكهربائية المتجددة، وتضاعفت مساحة الأراضي التي تشغلها الألواح الشمسية بمقدار خمسة مرات خلال سنتَيْن، وكان من المقرر تركيب الألواح على الأراضي غير الزراعية، أو التي لم تعد صالحة للزراعة، مثل المحاجر القديمة أو الأراضي الصناعية المُهْمَلَة أو الأراضي القاحلة، ولكن يتم الآن تركيب معظم مشاريع إنتاج الطاقة المتجددة على الأراضي الزراعية، لأن حجم المشاريع على الأراضي المتدهورة أصغر حجمًا وأكثر تكلفة وأقل رِبْحِيّةً من الطاقة الشمسية المنتَجَة في الأراضي الزراعية الكبيرة التي تدُرُّ مكاسب كبيرة على شركات توليد الطاقة الشمسية وعلى كبار ملاك الأراضي.

تستهدف الصناعة الكهروضوئية الأشخاص الذين يُغريهم الرّبح فيُؤَجِّرُون أو يبيعون أراضيهم، وكذلك بعض المزارعين الذين تراكمت عليهم الدّيُون في المزارع التقليدية الكبيرة، ويَعتقدون إن تأجير أراضيهم يُشَكّل حلاًّ لمشاكلهم المالية، وتُشجّع الصناعة الكهروضوئية نموذج الزراعة المكثفة على مساحات واسعة من خلال استهداف المزارع الكبيرة فقط وارتفاع أسعار الأراضي الزراعية، ليتم بذلك إهمال المزارع الصغيرة ومحاصرتها بعشرات الهكتارات من الألواح الشمسية وبالمزارع الكبيرة التي تستخدم المُبيدات والأسمدة الكيماوية والكائنات المُعَدًّلَة وراثيا، كما يُؤَدِّي ارتفاع أسعار الأراضي الزراعية (بفعل تأجيرها من قِبَل شركات إنتاج الطاقة الشمسية) إلى عدم تأجيرها أو بيعها للمزارعين الذين لا يستطيعون جمع المال الضروري للتّأجير أو للشراء، ويتعَمّد الملاك الأثرياء الإنتظار بضع سنوات، حتى تجتاح المناطق الحَضَرِيّة الأراضي الزراعية، ليرتفع سعر الأرض، فيتم تأجيرها أو بيعها للمضاربين العقاريين أو لشركات إنتاج الطاقة التي توصف بأنها “نظيفة”، مما يُساهم في القضاء على الزراعة العائلية التي تكافح من أجل البقاء.

أصبحت مشاريع الشركات الكُبْرى لإنتاج الطاقة الكهروضوئية في الأراضي الزراعية حكرًا على مجموعاتٍ صناعيةٍ ومالية أو شركاتٍ مُخْتَصَّةٍ في قطاعات لا علاقة مباشرة لها بإنتاج الكهرباء، مثل شركات النّقل أو التّجارة، لأن الأرباح مرتفعة بفعل الدعم المالي والحوافز التي تُقدّمها الحكومات، وبفعل انخفاض أسعار الأراضي في الأرياف، مقارنة بالأراضي في المناطق الحَضَرِيّة، وبذلك حَوّلت الشركات متعددة الجنسيات الأراضي الزراعية إلى مشاريع صناعية أكثر ربحية لَّأصحاب الأسْهُم، ودمّرت حياة صغار المزارعين ومربي الماشية، فضلا عن المصاعب الأخرى التي يُعني منها صغار الفلاحين كَالجفاف وتآكل التربة والمخاطر التي تُشكلها المواد الكيماوية على البيئة والأرض والحياة

تواصل الشركات متعددة الجنسيات الاستيلاء على الأرض، ومن بينها أكبر شركات الكيماويات الزراعية في العالم، في إطار برامج ائتمان الكربون التي تستخدمها كذريعة لإخفاء انبعاثات شركات النفط والصناعات الغذائية والتكنولوجية الكبرى، وتعزز أنظمةُ عزل الكربون نموذج الزراعات الصناعية والتجارية وزراعة مساحات كبيرة من النباتات التي تُساهم في تآكل التربة وفي استنزاف المياه والموارد الطبيعية، وأصبح هذا النموذج من الزراعات الكُبْرى مسؤولًا عن أكثر من ثلث الإنبعاثات العالمية لغازات الاحتباس الحراري، ولذلك تكافح العديد من منظمات المزارعين ومجموعات المجتمع المدني في العديد من البلدان لمنع الحكومات من إصدار قوانين من شأنها أن تُدْمِجَ برامج زراعة الكربون الخاصة بالشركات ضمن الخطط الوطنية للحد من الانبعاثات.

إن الزراعة الصناعية لا تهتم سوى بتحقيق عوائد عالية، ولا تتردّد لحظةً عن استنزاف المياه والأرض واستنفاد العناصر المُغَذّية، فتلجأ إلى إضافة كميات متزايدة من الأسمدة الكيماوية ومن المبيدات (ومن الوقود الأحفوري) لزيادة الإنتاج، والنتيجة هي انخفاض كارثي في مستوى المواد العضوية في التربة، فقد فقدت تربة الأراضي الزراعية أكثر من نصف المواد العضوية وتضرر أكثر من ملياري هكتار من الأراضي الزراعية في العالم، خلال أقل من عقْدَيْن، ما أدّى إلى انخفاض غلة المحاصيل وزيادة تلوث النظم المائية عن طريق جريان الأسمدة، وبما أن المادة العضوية في التربة هي في الغالب الكربون، فإن هذه الزراعات الكبرى تساهم بشكل كبير في إطلاق كميات هائلة من الكربون في الغلاف الجوي، لتدْفُنها في الأراضي الزراعية بمناطق أخرى من العالم، وهكذا يتم تسميم مجمل الأراضي الزراعية

 

الدّوْر التّخريبي للإمارات

بدأ تأثير دُوَيْلات الخليج يتعاظم في الوطن العربي وفي مناطق أخرى من العالم، منذ تطبيع النظام المصري علاقاته مع الكيان الصهيوني، ثم عند طَرْد المُنظمات الفدائية الفلسطينية من لبنان، وخصوصًا منذ انهيار الإتحاد السوفييتي وشن الحرب على العراق سنة 1991 وتواصَل الدّور التخريبي للسعودية والإمارات وقَطَر والكُويت وغيرها في ما سُمِّيَ “الشرق الأوسط الكبير”، من أفغانستان إلى موريتانيا، وتُوّجت هذه المرحلة بالتّطبيع الجماعي والإندماج المُهَيْمِن للكيان الصهيوني بإشراف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وتعاظم دور الإمارات كعُرّاب التّطبيع والتّخريب…   

تندرج خُطوات شيوخ الإمارات ضمن استراتيجية أمريكية، إذْ لا تستطيع الإمارات القيام بأي شيء على المستوى العسكري والسياسي سوى بمبادرة أو بموافقة أمريكية، بل إن الإمارات وكيل للإمبريالية الأمريكية في سوريا وليبيا والسودان وغيرها حيث تدفّقت الأسلحة الأمريكية و”الغربية” على المجموعات الإرهابية بإشراف أمريكي وأطلسي، وتدعم الإمارات الديكتاتوريين وأمراء الحرب في ليبيا (خليفة حفتر مواطن أمريكي وعميل سابق للمخابرات المركزية)، ونظام التطبيع في مصر والمنظومة التي أجهضت الإنتفاضة في تونس، والمليشيات التي تُقَسِّمُ السُّودان، السودان، وتعمل على تخريب الجزائر من الدّاخل، وعلى العُمُوم تجاوزت الإماراتُ السعوديةَ في مجال التّخريب، فقد تحولت إلى مصدر الفوضى في الوطن العربي وفي إفريقيا وغيرها، وكانت الإمارات المهندس الرئيسي للإنقلاب في السودان وليس مجرد متفرج أو طرف إنساني مُحايد يعرض المساعدة بعد الانقلاب، وينطبق الأمر نفسه على مصر حيث قدمت أبو ظبي 400 مليون دولار لحكومة الجنرال عبد الفتاح السيسي في غضون 24 ساعة من الانقلاب الذي أطاح بحكومة الإخوان المسلمين، واتهمت مجموعات من خبراء الأمم المتحدة وهيومن رايتس ووتش وعدةُ حكوماتٍ حكومةَ الإمارات بتسليح مليشيات “الدّعم السريع” مقابل شحنات من مناجم الذهب والمواد الغذائية (موقع ميدل إيست مونيتور، 24 أيار/مايو 2023)

نجحت الإمارات في تنويع اقتصادها الذي لم يعد يعتمد فقط على النّفط، ولكنه بقي اقتصادًا غير مُنتج، وبقي السكان الأصليون للإمارات يُمثلون أقل من 10% من العدد الإجمالي للسكان، وقد تُطالب الهند بمِلْكِيّتها باعتبار تفَوّق عدد الهنود على عدد الإماراتيين. يستثمر شيوخ الإمارات في أي مكان يسمح لهم بإقامة الأعمال التجارية لتكون الإمارات قُوّةً تجارية دولية ومركزًا للتخزين ولإعادة التصدير بين آسيا وأوروبا، بين “الشرق” و “الغرب”، وبدأ اهتمامهم بقارة إفريقيا منذ بداية القرن الواحد والعشرين، وتحاول الإمارات أن تكون مثل سنغافورة ( جزيرة اقتطعتها بريطانيا من ماليزيا واستوردت سُكّانًا من الصين والهند وشرقي وجنوب آسيا حتى أصبح السكان الأصليون أقلية، ومنحتها بريطانيا استقلالاً بإشرافها وإدارة الولايات المتحدة وجعلت منها مَلاَذًا ضريبيا) التي أصبحت سوقًا مالية هامة وملاذًا للأموال المشبوهة ومركزا تجاريا هامًّا، وتمثل الخدمات اللوجستية النقطة المِحْوَرِيّة للطموحات التجارية والاستراتيجية لدولة الإمارات التي أعلن ناطق باسم حكومتها الإتحادية سنة 2023: ” إننا نتحرك تدريجياً نحو السيطرة على النظم الغذائية حتى نتمكن من زراعة أي شيء في أي مكان، بغض النظر عن المناخ والبيئة” وفق موقع صحيفة فايننشال تايمز 30 أيار/مايو 2024.

كان دَوْرُ الإمارات (ومجمل الأنظمة العربية) تخريبيا وخيانيا واضحًا منذ احتلال الكيان الصهيوني لبنان سنة 1982 والعدوان على العراق وسوريا وليبيا واليمن وعلى الشعب الفلسطيني وفي السّودان، حيث تتهدّد المجاعة فلسطِينِيِّي غزة وشعب السّودان، رغم المساحات الشاسعة للأراضي الزراعية في حين يتدفّق السّلاح منذ انطلاق القتال خلال شهر نيسان/أبريل 2023 بين قوات الدعم السريع ( وهي مليشيات كانت تدعم نظام عمر البشير) والجيش الذي تحول كذلك إلى “ميليشيات حكومية”، ويتنافس المُعَسْكَرَان للسيطرة على البلاد ومواردها المعدنية وأراضيها الزراعية الخِصْبَة، وقُدِّرَ عددُ القتلى بحوالي قُتل بأكثر من 15 ألف وعدد الجرحى بأكثر من 35 ألف (أيار/مايو 2024)، ونزح حوالي عشرة ملايين شخص، وتَتَهَدَّدُ المَجاعَةُ السّكّان في معظم مناطق البلاد، وتدعم وتُسلِّحُ دُوَيْلَةُ الإمارات مليشيات “الدعم السريع”، لحماية شحنات الذهب والماشية والمنتجات الزراعية التي تنهبها الإمارات، كما سيطرت الإمارات ودُوَيْلات الخليج الأخرى وبغض الشركات العابرة للقارات على الأراضي الزراعية في السودان، وتُدِير شركتان إماراتِيَّتَان – الشركة الدولية القابضة    (IHC) وشركة جنان –  أكثر من 50 ألف هكتار في السودان، حتى سنة 2022، ثم تم توقيع اتفاقية بين “المدينة العالمية للخدمات الإنسانية” (الإمارات) ومجموعة DAL – المملوكة لأحد أغنى رجال الأعمال في السودان للسيطرة على 162 ألف هكتار إضافية من الأراضي الزراعية في شمال البلاد، وتم التخطيط لِرَبْطِ هذا المشروع الزراعي الضخم، الذي تدعمه حكومة الإمارات، بميناء جديد على الساحل السوداني الذي تُخطّط مجموعة موانئ أبوظبي لإنشائه وإدارته، لتأمين الغذاء للسُكّان الإمارات وللمُتاجرة بالفائض، وتمتلك الإمارات، بنهاية سنة 2023، حوالي 960 ألف هكتار من المزارع في الخارج ويتم تخزين وتصدير إنتاج هذه الأراضي عبر شبكة من الموانئ والمراكز اللوجستية التي تُديرها مجموعة “موانئ دُبَيْ” وتسهر على أمنها شركة صهيونية، وتريد الإمارات أن تصبح أحد أَهَمِّ مَراكز النظام التجاري العالمي للأغذية الزراعية ومركز شَحْن سريع وآمن بين آسيا وأفريقيا وأوروبا.

 

من أجل زراعة عضوية لتلبِيَة حاجة السكان المَحَلِّيِّين

كَثّفَ حُكّام الإمارات عملية الإستيلاء على الأراضي الزّراعية والموارد المائية في البلدان الفقيرة منذ أزمة الغذاء العالمية سنة 2007، وأطلقت دولة الإمارات سنة 2018 استراتيجية للأمن الغذائي تَجْمَعُ بين الاستثمارات الأجنبية والمحلية بهدف تحويل هذه الدُّوَيْلَة النّفْطِيّة إلى إحدى الدّول العشرة الأولى في مؤشر الأمن الغذائي العالمي، من خلال زيادة عدد المزارع الخارجية، وتقليل الإعتماد على واردات الغذاء البالغ سنة 2021 حوالي 15 مليار دولارا سنويا، وفق وكالة “بلومبرغ” بتاريخ 08/04/2021 وترتبط شبكة الشركات المالكة للأراضي الزراعية وشركات الشحن والتسويق وإدارة الموانئ ( أهمها موانئ دبي العالمية ومجموعة موانئ أبوظبي ) بالعائلة المالكة وبالسياسة الخارجية للدولة، وفق موقع “غرين” ( Grain ) بتاريخ 21 أيلول/سبتمبر 2023

تتحمّل الأُسْرة الحاكمة في الإمارات مسؤولية أفعالها السيئة واستغلالها فقرَ الشُّعُوب وفساد الحُكّام، في إفريقيا وغيرها، غير إن الشركات الزراعية متعددة الجنسيات مثل Yara ، أكبر شركة أسمدة في العالم ، أو Cargill ، شركة التجارة العالمية للسلع، وغيرها مسؤولة عن كارثة التربة والتلوث، لكن معظم حكومات الدّول الرأسمالية الكبرى تُمثّل مصالح هذه الشركات ومثيلاتها ولذلك ابتكرت طرقًا لتجنب الحد الفعلي من انبعاثات الوقود الأحفوري وتخزين الكربون في الأراضي الزراعية الفقيرة، ومُغالطة مواطني ومزارعي العالم عبر دفن الكربون المُنتَج داخل البلدان الرأسمالية في الأراضي الزراعية لصغار المزارعين أو في البلدان الفقيرة، وبذلك شكّلت برامج الغسيل الأخضر ( greenwashing ) وسيلة للإستيلاء على أراضي شاسعة لتعزيز السيطرة على الزراعة وإنتاج الأغذية.

لم تشجع الشركاتُ الزراعيةُ والحكوماتُ الزراعةَ العضويةَ والبدائلَ، مثل برامج الزراعة الإيكولوجية وإعادة توزيع الأراضي وإعادة توزيع النظم الغذائية لإعادة الكربون إلى التربة وتقليل الانبعاثات في النظام الغذائي، إذْ يمكن تقليل الأسمدة من خلال تعزيز أنظمة جذور النباتات أو التنوع البيولوجي للتربة، وبذلك تتم المحافظة على التربة وعلى سلامة البيئة، ويتطلب ذلك تشجيع وتحفيز طرق الزراعة المُستديمة، غير أن سياسة معظم الحكومات تخدم مصالح الشركات العابرة للقارات، ما أدّى إلى طرد صغار المزارعين – الذين يمتلكون المعرفة والخبرة والبذور اللازمة للحفاظ على تربة صحية – من أراضيهم وتم تجريمهم من قِبَلِ الشركات متعددة الجنسيات التي استحوذت على ملايين الهكتارات من الغابات والمراعي والأراضي الزراعية الخصبة وقضت على البُذُور والنباتات التقليدية لإفساح المجال لزراعة عدد قليل من أنواع المحاصيل المعتمدة على المواد الكيميائية.

يُمثّل دَفْن الكربون في المناطق الريفية مجرد عملية تحويل تم تصميمها بواسطة شركات الأغذية والأعمال الزراعية الكبرى التي تستفيد من نظام الغذاء العالمي الحالي، وتؤدي هذه الخطط المدعومة من السلطة السياسية إلى الاستيلاء على الأراضي المرتبطة بأرصدة الكربون، فالنظام الغذائي مسؤول عن أكثر من ثلث انبعاثات غازات الاحتباس الحراري العالمية، ويجب أن تركز إجراءات تنقية المناخ أولاً وقبل كل شيء على تقليل الانبعاثات، وليس على نظام التعويض ونقل الكربون من مكان إلى آخر، ولكي يتم التعامل بفعالية مع أزمة المناخ، من الضروري القضاء على الأسمدة النيتروجينية والمدخلات الكيميائية الأخرى وتعميم الإنتاج الزراعي البيئي من خلال تشجيع أسواق الغذاء المحلية، في إطار الإجراءات التي تضمن وصول صغار المزارعين إلى الأرض والمياه، كما يجب تشجيع أنظمة بذور الفلاحين التي تركز على تطوير أصناف تتكيف مع السياقات المحلية، وهذا يتطلب القضاء على الإفراط في الإنتاج والإفراط في استهلاك الأطعمة عالية الانبعاث، مثل اللحوم ومنتجات الألبان وكذلك الأطعمة غير الضرورية وغير الصحية فائقة المعالجة كالمُعلّبات التي تُضاف لها العديد من المواد الضارة بالصحة والتي تروج لها الشركات الغذائية الكبرى باستمرار.

 

 علاقات غير متكافئة:

تطورت العلاقات السياسية بين الإمارات والنظام العسكري الذي أطاع بحكومة الإخوان المسلمين في مصر، سنة 2013، كما تطوّرت العلاقات الإقتصادية، لكنها علاقات غير متكافئة حيث سيطرت مجموعة “الظاهرة” الإماراتية على أكثر من 260 ألف هكتار من الحبوب والفواكه، في حين تستحوذ مجموعة “جنان” على أكثر من 52 ألف هكتار من مزارع الفاكهة والألبان والمحاصيل العلفية في مصر، وأصبحت شركة “الظاهرة” منذ سنة 2018 أكبر منتج للقمح في مصر، ومصرُ أكبر مستورد عالمي للقمح بواسطة قُرُوض إماراتية (بفعل شُح العملات الأجنبية في المصرف المركزي المصري)، كما تُسيطر الإمارات على موانئ البحر الأحمر وقناة السويس، وأصبحت منذ سنة 2024 تستثمر في المدينة السياحية والمالية الجديدة على البحر الأبيض المتوسط بقيمة 35 مليار دولارا، بحسب وكالة رويترز بتاريخ 23 شباط/فبراير 2024…

استثمرت الإمارات في إدارة الموانئ وفي شراء الأراضي الزراعية في القرن الأفريقي وفي كينيا وتنزانيا وأوغندا، وتستغل الحكومة الأوغندية الحرب وعدم الإستقرار في السودان لتصبح مركزًا جديدًا للاستثمارات الإماراتية ووقّع الرئيس موسيفيني على اتفاق يسمح لدولة الإمارات العربية المتحدة ببناء واحدة من المناطق الحرة الزراعية الوحيدة في العالم، بمساحة قدرها 2500 هكتار لتجهيز وشحن المواد الغذائية (السكر والشاي ولحم البقر والذرة) بالإضافة إلى مساحة سبعة آلاف هكتار لتطوير تربية الماشية، من قِبَل شركة “الرّوابي” الإماراتية، ومشروع بناء مصفاة نفط وتوفير سبع طائرات شحن ومركز تخزين وتبريد المواد الغذائية في مطار “عنتيبي” وتُدير إحدى الشركات الإماراتية مجال الإتصالات وتكنولوجيا المعلومات في أوغندا…

في تنزانيا، أدّى إنشاء محمية صَيْد للعائلة المالكة في الإمارات، إلى تهجير نحو سبعين ألف شخص من أثنية “الماساي” بالتوازي مع شراء آلاف الهكتارات من الأراضي الزراعية، وسيطرة مجموعة موانئ دُبَيْ العالمية على ميناء العاصمة “دار السلام” وتشغيله لفترة ثلاثة عقود، رغم المُعارضة القوية من المجتمع المدني وأحزاب المُعارضة.

في كينيا أطلقت الشركات الإماراتية مشاريع زراعية/صناعية  ومنطقة تجارة حرة، وتُفاوض الإمارات حكومة زامبيا للحصول على أراضي زراعية لإنتاج الغذاء (الحبوب والسكر والفاصوليا والبذور وتربية البقر والماعز الحلوب) وتنتج الشركات الإماراتية (المملوكة للعائلة الحاكمة) في زيمبابوي التبغ والمكاديميا والموز والأفوكادو والحمضيات والفواكه الصغيرة المُعَدّة للتصدير…

في آسيا، أثار استحواذ شركات إماراتية على أراضي زراعية ومصانع معالجة المواد الغذائية في إندونيسيا والفلبين، احتجاجات، واتفقت حكومة الإمارات مع الهند، سنة 2022، على إنشاء “ممر غذائي” بين البلدين، وإنشاء عدد من “مُجَمّعات مركزية ( مناطق تجارة حرة) لإنتاج وتجميع ومعالجة الغذاء (المانجو والفلفل الحار والبصل والأرز والبامية… ) قبل شحنه إلى الإمارات وإعادة تصديره، والتزمت حكومة الإمارات باستثمار مليارَيْ دولار في المشروع، فضلا عن سبع مليارات دولار أخرى في التطوير اللوجستي وتطوير معايير السلامة الغذائية، وتطوَّرَ المشروع بعد اتفاقيات إبراهيم وإنشاء تحالف رُباعي بين الهند والولايات المتحدة والكيان الصهيوني والإمارات، حيث توفر الهند الأراضي والعمالة الزراعية الرخيصة، ويُوفِّرُ الكيان الصهيوني والولايات المتحدة التكنولوجيا، وتوفر الإمارات العربية المتحدة التمويل واتلسويق، انطلاقا من ميناء جبل علي في منطقة التجارة الحرة ، وتأمل الإمارات تنفيذ مشروعها لكي تصبح مركزًا لتجارة الأغذية العالمية بين آسيا وأوروبا وأفريقيا…

في باكستان، تتطلع الإمارات إلى إنشاء المزارع والإستثمار في قطاعي الزراعة والأغذية على مساحة 40 ألف هكتار تُخصصها باكستان للإستثمار الزراعي الخليجي بحلول سنة 2030، ووقّعت الإمارات خلال شهر كانون الأول/ديسمبر 2023 اتفاقيات بقيمة 25 مليار دولار مع باكستان، لإنتاج اللحوم الحلال ونخيل التمر ومنتجات أخرى، يتم تصديرها إلى الإمارات قبل إعادة تصديرها إلى مناطق أخرى…

تستثمر الإمارات وبعض دُوَيْلات الخليج في بلدان أوروبا الشرقية، ومن بينها صربيا حيث تستثمر الإمارات في البلاد، وتستورد منها – منذ سنة 2013، بحسب وثائق الإستخبارات الأمريكية المُسَرّبة – الأسلحة المُستَخْدَمَة من قِبَل المجموعات الإرهابية في سوريا واليمن وغيرها، كما تستثمر الأُسْرَة الحاكمة في الإمارات، في مجالات الدّواجن في البرازيل والفاكهة في تشيلي والبيرو والمكسيك وكولومبيا، إلى جانب الإستثمار في البرامج المتطورة للنقل الجوي والبري والبحري في إطار تحويل الإمارات إلى مركز للتجارة العالمية وإعادة الشحن والتصدير…

 

خاتمة:

أثار استيلاء الإمارات وبلدان أخرى على مساحات مُتَزَايِدَة من الأراضي الزراعية والموارد المائية، وتهجير السكان والرُّعاة والمُزارعين من الأراضي التي يسغلونها منذ قُرُون، استياءً كبيرًا في إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية حيث يُطالب السكان بتعزيز الأمن الغذائي للسكان المحليين وتطوير الأنظمة الغذائية المستدامة بدل استيلاء الشركات الأجنبية على الأراضي والموارد المائية من دون موافقة المجتمعات المحلية التي حرمت من أنظمتها الغذائية المَحلّيّة وسُبُل عيشها، أو في المناطق التي يُعاني أهلها من المجاعة، واتهمت منظمات حقوق الإنسان سلطات تنزانيا بإجبار الآلاف من الماساي على مغادرة أراضيهم بالقوة لإفساح المجال لمشروع سفاري وصيد مرتبط بشركة إماراتية، وتم اتهام شركة بلو كاربون (دُبَي) بالسعي إلى الاستيلاء على ملايين الهكتارات من الغابات الأفريقية في ليبيريا وتنزانيا وكينيا وزامبيا وزيمبابوي بهدف توليد أرصدة الكربون، ولسوء الحظ، ترتبط الطموحات الزراعية لدولة الإمارات في الخارج بالحوافز الجيوسياسية والمالية.

استغلت الإمارات تقليص الإستثمارات والقروض الصينية في إفريقيا لتوقيع تعهّدات سنتيْ 2022 و 2023، باستثمار 97 مليار دولار في مجالات الطاقة المتجددة والموانئ والتعدين والعقارات والاتصالات والزراعة والتصنيع – أي ثلاثة أضعاف ما تعهدت به الصين، ثم أعلنت الإمارات سنة 2024 إن إجمالي استثماراتها في أفريقيا بلغت 110 مليار دولار، غير إن التجارب أثبتت أن العديد من هذه الاستثمارات لن تتحقق، لكن تبقى الإمارات من بين أكبر أربعة مستثمرين في القارة بين 2014 و 2023، وتتوزع الإستثمارات بين الأمن الغذائي والمعادن والطاقة المتجدد، وتُعيد الإمارات تصدير السّلاح إلى مناطق النزاعات المُسلّحة في إفريقيا (وغيرها)  فيما ارتفع عدد الشركات الأفريقية المسجلة في دبي، ليصل إلى  26420 شركة سنة 2022، وفقًا لغرفة تجارة دبي، ومعظمها شركات تجارية، تُشكّل واجهة قانونية لتهريب الأموال  من إفريقيا إلى الخارج كما تستثمر شركات الإمارات في مجال الطاقات “النظيفة”: مزارع للرياح في جنوب أفريقيا، ونظام تخزين الطاقة بالبطاريات في السنغال، ومرافق الطاقة الشمسية في موريتانيا، وكذلك في الوقود الأحفوري: حوض روفوما للغاز في موزمبيق ومنجم للنحاس في زامبيا وفي في مناجم أخرى في أنغولا وكينيا وتنزانيا والذهب في الكونغو الديمقراطية، وفي مجال العقارات في أنغولا والاتصالات في 12 دولة إفريقية، كما تتواجد شركة موانئ دبي العالمية في اثنتي عشرة دولة أفريقية بعد أن ضخت نحو ثلاثة مليارات دولار في القارة، وهي تدير موانئ من موزمبيق على المحيط الهندي في الجنوب إلى الجزائر على البحر الأبيض المتوسط في الشمال وأنغولا على المحيط الأطلسي، وتستخدم حكومة دبي شركات مثل موانئ دبي العالمية وطيران الإمارات لبناء حضور عالميوفازت شركة موانئ أبوظبي، سنة 2023، بامتياز لمدة 30 عامًا لإدارة ميناء بوانت نوار في جمهورية الكونغو، وعلى امتياز لمدة 20 عامًا  (سنة 2024) لإدارة محطة لواندا عاصمة أنغولا…

تدخّلت الإمارات (كوكيل للإمبريالية الأمريكية) لِدَعْم أحد أطراف الصراع في ليبيا حيث دعمت خليفة حفتر (مواطن أمريكي، خان جيش بلاده الأصلية ليبيا وشغلته وكالة الإستخبارات الأمريكية كعميل لها)، وقدّمت مساعدات بالمال والسّلاح لمليشيات “الدّعم السريع” في السّودان بحسب منظمة هيومن رايتس ووتش ودعمت الحكومة الإنفصالية في الصومال مقابل إدارة ميناء بربرة على البحر الأحمر لتستخدمه الحبشة والكيان الصهيوني فضلا عن تدمير جزيرة سُقَطْرى اليمينة وتحويلها من مَحْمِيّة إلى قاعدة عسكرية صهيونية، وتقوم الإمارات (وفق لجنة مُستقلة من خبراء الأمم المتحدة) بتوريد الأسلحة إلى مليشيات الدّعم السريع في السودان تحت ستار المساعدات الإنسانية عبر تشاد…

تُؤدّي دُويلة الإمارات كذلك دور المركز المالي الحر، حيث أنشأت شركات المحاماة والبنوك الاستثمارية ومديري الثروات الغربية مكاتب في دُبَيْ لتقديم الإستشارات والخدمات، بما في ذلك التحكيم في النزاعات وعُقود الأعمال والإستثمارات، بتكاليف أقل من لندن وجنيف، وبنفس الجَوْدَة، وسمحت دُبَيْ بإقامة شركات وهمية، فالعديد من الشركات الأفريقية المسجلة في دبي، والتي يزيد عددها على 26 ألف شركة، هي “شركات بريدية”، تسمح للشركات الأجنبية العاملة في إفريقيا وللأثرياء المحليين بتهريب الدولارات عن الاقتصادات الأفريقية وإيداعها في دُبَيْ التي أصبحت ملاذًا آمنا…

وردت أغلب البيانات في تحاليل لوكالة رويترز بتاريخ 23 شباط/فبراير و 14 و 24 حزيران/يونيو 2024 وموقع صحيفة “غارديان” بتاريخ 17 حزيران/يونيو 2024 وموقع ميدل إيست مونيتور بتاريخ 24 أيار/مايو 2024 وموقع صحيفة فاينناشال تايمز بتاريخ الثلاثين من أيار/مايو 2024، كما نَشَرَ موقع “تَنْدفونلاين” دراسة بتوقيع كريستيان هندرسون ورفيف زيادة بعنوان “لوجستيات النظام الغذائي النيوليبرالي: التداول والأمن الغذائي للشركات والإمارات العربية المتحدة”، الاقتصاد السياسي الجديد، 5 كانون الأول/ديسمبر 2022 ونَشَرَ المنتدى الصّومالي (حزيران/يونيو 2023) نصًّا بعنوان  “ميناء واحد، عقدة واحدة: الطريق الجيوستراتيجي الإماراتي إلى أفريقيا”، بتوقيع أوسيمير.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.