خبراء الحرب :لا مثيل لها في التاريخ.. الحرب السورية تتحدى الأمثلة التاريخية

 

الإثنين 19/12/2016 م …

الأردن العربي – نيويورك تايمز …

هنالك حقيقة بسيطة واحدة لا تتغير في حرب سوريا “الأهلية”، ألا وهي أنها عصية الحل عنيدة أمام كل محاولة.

فرغم تعدد الحملات الهجومية ومؤتمرات السلام والتدخلات الأجنبية، يظهر أن المؤشر الوحيد الذي تتحرك إبرته هو مؤشر معاناة السوريين الذي لا يتحرك إلا في اتجاه واحد: نحو الأسوأ، وفقاً لتقرير نشرته صحيفة New York Times الأميركية.

تكشف الأبحاث الأكاديمية في مجال الحروب والصراعات الأهلية أسباب ديمومة هذه الحرب إن أخذنا كل تلك الدراسات سوياً بعين الاعتبار. ففي المتوسط باتت حروب من هذا النوع تدوم عقداً من الزمان، أي ضعف فترة الحرب السورية حتى يومنا هذا. لكن ثمة عوامل من شأنها إطالة هذه الحروب وزيادة درجة عنفها وتعقيدها فيستعصي إنهاؤها أكثر فأكثر. ونظرياً جميع هذه العوامل موجودة في سوريا.

التدخّلات الأجنبية

كثير من هذه العوامل مرجعه إلى التدخلات الأجنبية التي كان القصد من ورائها إنهاء الحرب بيد أنها بدلاً من ذلك أغرقت البلاد في المستنقع وأوصلتها إلى درب مسدود لا يزيد في العنف إلا ضراوة بينما توصد جميع أبواب السلام وتسد.

أضف إلى ذلك أن المعركة الحاصلة هي متعددة الأطراف لا حربُ طرفين اثنين، ما يعيق انتهاء الحرب وتوصّلَها إلى حل.

وعندما طرحت النيويورك تايمز سؤالاً عن وجود أية صراعات وحروب تاريخية مشابهة لحرب سوريا في دينامياتها وتفاعلاتها على الأستاذة باربرا والتر من جامعة سان دييغو الأميركية الخبيرة في مجال الحروب الأهلية أطرقت هنيهة ثم فكرت ببضعة احتمالات، ثم هزت رأسها في استسلام. لا حرب تشبه الحرب السورية في التاريخ كله.

إنها حقاً وفعلاً حالة عويصة” تقول والتر.

حربٌ لا تعرف الكلل

جرت العادة في معظم الحروب الأهلية أن تنتهي بخسارة أحد الطرفين إما بالهزيمة العسكرية، وإما باستنزاف واستهلاك كافة أسلحته، وإما بخسارته للدعم الشعبي ما يجبره على الاستسلام. حوالي ربع الحروب الأهلية انتهت باتفاقيات سلام لأن الطرفين عادة يصيبهما الإنهاك.

كان من الممكن أن يحدث ذلك في سوريا، فالطرفان الأساسيان في النزاع (أي الحكومة ومقاتلو المعارضة حينما بدأا حربهما عام 2011) كلاهما منهك ولا سبيل لهما لمتابعة القتال وحدهما دون مساعدة.

لكن المصيبة أنهما ليسا وحدهما، بل يقف وراء كل طرفٍ فريقُ دعم من القوى الأجنبية يضم الولايات المتحدة وروسيا وإيران والسعودية و تركيا؛ تدخلات جميع هذه الدول عطلت سير قواعد وقوانين الطبيعة. غابت القوى التي عادت ما تبطئ وتعطل سير الصراع، ما أدى إلى استمرار الصراع لأطول من المعتاد.

قوى النظام والمعارضة مدعومة من الخارج بالإمدادات، أي أن عتادها لا ينفد. كذلك يستمد الطرفان دعمهما السياسي من حكومات أجنبية ليست متضررة من الحرب تضرراً مباشراً ولا تشعر بكلفتها الباهظة إلا عندما يحاول بعض الأشخاص محلياً الحث على إجراء محادثات سلام لإنهاء معاناتهم وألمهم. وهذه التكلفة المادية والبشرية سهلة جداً على القوى الأجنبية الغنية التي تطيق تحملها بكل يسر.

من هنا وجد جيمس فيرون الأستاذ في جامعة ستانفورد المتخصص في الحروب الأهلية أن دراسات كثيرة خلصت إلى أنك “إن كان لديك تدخل خارجي على كلا الجانبين فستستمر الفترة أطول بكثير“.

كذلك على خط المعارك البرية توجد الميليشيات الكردية المدعومة أجنبياً وقوات تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) التي لا تملك هذا الدعم. لكن طرفي النزاع الأصليين الموالي للحكومة والمعارض لها يركزان الهجوم على بعضهما البعض، ما يجعل من قتالهما ومن أطرافهما الداعمة محورَ الحرب المركزي.

لا رابح ولا خاسر

الأطراف الخارجية الداعمة لا تعطل آليات السلام فحسب، بل تعزز لدى كل طرف آليات الثبات على موقفه والإصرار على المضي قدماً في القتال، فيتعقد الطريق المسدود أكثر لأن الميزان لا ترجح كفته لأي من الطرفين.

فكلما تعرّض أحد الطرفين لخسارة على أرضه عاجله داعموه الأجانب بمزيد من التدخل لصالحه بإرسال المدد والدعم الجوي كي لا يخسر ويميل عليه الميزان؛ ثم يحقق ذلك الطرف بضعة أرباح، فيلتفت الطرف الآخر إلى وكلائه الداعمين الأجانب بدوره طلباً للعون وزيادة في الإمدادات. كلما طلب أحدهم عوناً جاءه الدعم أقوى من ذي قبل، ما يزيد من عجلة آلة القتل لكن من دون أي تغيير في ميزان القوى الأساسي.

قصة سوريا من البداية

وهذه هي قصة سوريا من البداية. في نهاية عام 2012 عندما مني الجيش السوري ببعض الخسائر تدخلت إيران لصالحه، ثم مع بداية 2013 انقلب الميزان لصالح الجيش السوري، فجاء المعارضةَ الدعمُ من دول الخليج التي أغدقت عليهم الدعم، ثم بعد مرور الوقت دخلت الولايات المتحدة وروسيا في المعمعمة هي الأخرى، حسبما ذكر تقرير نيويورك تايمز.

إن هذه القوى الأجنبية على درجة من القوة لكي تتكيف مع كل تصعيد تقريباً، فليس بمقدور أي منها تحقيق نصر كاسح على الأخرى لأن الطرف الآخر مقتدر على الرد دائماً، ولهذا السبب لا تنتهي الحلقة المفرغة، فحتى التذبذبات الطبيعية في خطوط المعركة تخلق مقدمات لمعارك جديدة.

فالعام الماضي مثلاً دعمت أميركا أكراد سوريا ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، لكن مع تنامي قوة الأكراد قلقت تركيا التي تحارب مسلحيها الأكراد داخلياً. فتدخلت تركيا لتسيطر على مدينة جرابلس السورية بدعم أميركي والسبب في ذلك جزئياً هو لمنع وقوعها بأيدي الأكراد (وقد دعمت أميركا هذا الجهد وكأن التحالفات الحالية لا يكفيها التعقيد الذي فيه).

تقول الأستاذة والتر “نظن أن هذا أسوأ ما يمكن أن تصل إليه الأمور، لكن لا فالأمور قد تسوأ أكثر من ذلك بكثير.”

الخوف من الهزيمة يبقي على الوضع الحالي كما هو

غياب التيقن كذلك أفضى إلى هذا الطريق المسدود، فلا أحد متيقن من كيف ستبدو سوريا بعد الحرب ولا كيفية الوصول إلى هناك؟ لكن الكل يستطيع تخيل أن يؤول الوضع إلى أسوأ. هذا هو السبب في استدامة الوضع الحالي وتفضيله في أعين المحاربين لأن همهم هو الحفاظ على ما في يدهم لا المخاطرة به لتحقيق أهداف أكبر.

فكما يقول البروفيسور فيرون من ستانفورد “منع الطرف الآخر من الربح أهم من أن تحقق أنت أي ربح“.

كل قوة أجنبية تفهم وتدرك أنها لا تستطيع الفوز ولكنها صراحة تخشى أن ينتصر الطرف الآخر لأن ذلك فوق طاقة احتمالها. فالسعودية وإيران مثلاً تريان في سوريا معركة ضمن نزاعهما الإقليمي على السلطة، وخسارة هذه المعركة قد يهدد أنظمتها هي، وفقاً لنيويرك تايمز.

حتى لو تأذى الجميع من حرب سوريا على المدى الطويل من الإرهاب وانعدام الاستقرار فإن مخاوف المدى القصير من الهزيمة هي ما يدفع بالجميع نحو المحافظة على هذا التعادل الأبدي في ميزان المعركة الذي لا يربحه أحد ولا يحسمه أحد.

تزيد هذا الوضعَ بشاعةً ديناميات صناعة القرار ضمن التحالفات الهشة التي تجمع عدة لاعبين لدى كل منهم أجندته وأولوياته الخاصة. وكثيراً ما يجمع هؤلاء أمر واحد يتفقون فيه ألا وهو رغبتهم في تلافي الهزيمة، وهي استراتيجية العامل المشترك الأصغر.

ثمة أسباب تدعونا لنعتقد بأن روسيا مثلاً قد ترغب بتقديم الأسد على الأقل بضعة تنازلات من أجل السلام. لكن ليس بوسع روسيا إجباره على التصرف كما تشاء هي، كذلك لا يسعها مغادرة سوريا دون التخلي عن مصالحها هناك.

مخاطر النصر

الطريقة الوحيدة لكسر الجمود في ميزان القوة والخروج من مأزق التعادل هي في أن يظهر أحد الطرفين على الآخر ويتفوق عليه، لكن نظراً لأن حرب سوريا استجرت أكبر قوتين عسكريتين في العالم، روسيا وأميركا، فلعل إبرة المؤشر لن تتزحزح إلا باحتلال كامل.

وفي أفضل الأحوال سيعني هذا احتلالاً مشابهاً لاحتلال أميركا للعراق أو لأفغانستان. أما أسوأ الأحوال فهو احتلال منطقة حرب ينشط فيها عدة خصوم أجانب، ما سيشعل فتيل حرب إقليمية كبرى.

لكن طريقة أخرى في إنهاء حرب كهذه قد يكون بتغيير أحد الداعمين الأجانب لسياسته الخارجية وقراره الانسحاب، ما سيسمح للطرف الآخر بتحقيق فوز سهل.

ولكن في سوريا ونظراً لأن كل طرف تدعمه عدة قوى أجنبية فإن المطلوب انسحاب كل داعمي هذا الطرف في نفس الوقت.

عقبة السلام: لا عرابين للسلام

عادة ما تنجح أو تخفق اتفاقيات السلام بسبب قضية من سيسيطر عسكرياً ومن سيتحكم بقوات الأمن. في سوريا هذا سؤال لا جواب له.

وليست القضية قضية جشع للسلطة، بل أزمة ثقة. فبعد حرب ضروس قتل فيها 400 ألف شخص يخشى المقاتلون طبعاً على حياتهم إن تمكن الطرف الآخر من إحراز قدر كبير من القوة. من جهة أخرى إن اتفاق سلام يمنح الطرفين قوة عسكرية متساوية سيشكل خطورة إمكانية العودة إلى الحرب من جديد. كذلك الوضع إن سمح للمعارضين الاحتفاظ بسلاحهم واستقلالهم، فهذا درس تلقنه العالم أجمع من ليبيا.

في الوقت ذاته لا بد من وجود قوة مسلحة تعيد الأمن وتطهر الأرض من أي تجار حرب أو ميليشيات مرتزقة تتاجر بالحرب، حسبما ترى صحيفة نيويورك تايمز.

ودرجت العادة أن تضطلع بهذا الدور منظمة أو دولة أجنبية كالأمم المتحدة كي ترسل قوات حفظ السلام، فهذه القوات تحفظ هدوء كافة الأطراف خلال عملية انتقال الدولة نحو السلام، كما أنها توفر أمناً مبدئياً يحول دون عودة أي من الطرفين إلى التسلح.

لكن من هي الدولة التي ستتطوع برجالها ومواطنيها كي يحتلوا سوريا إلى أجل غير مسمى، خاصة في ظل قصة أميركا وحكاية تجربتها في العراق؟

إن أي قوة أجنبية ستصبح هدفاً يستهدفه الجهاديون الإرهابيون، كما سيتعرض جنودها إلى غارات على مدى عام قد يكلفها خسارة مئات أو آلاف الأرواح.

الانزلاق نحو الكارثة

يقول الأستاذ فيرون بينما يعدد السيناريوهات التي يستحيل أن تنتهي بها حرب سوريا أن أفضل الأحوال سيكون إن تمكن أحد الأطراف من إبطاء إيقاع الحرب شيئاً فشيئاً حتى إحراز نصر بعيد الأمد، وبذلك تهدأ الحرب تدريجياً لتصبح “قتالاً أخف وتيرة، وهجمات إرهابية متقطعة وما إلى ذلك“.

أما السيناريو الأسوأ، فهو طبعاً أسوأ بكثير.

فطبقاً لبحث أجرته والتر عام 2015 بالتعاون مع كينيث بولاك الخبير في الشرق الأوسط “عادة ما يأتي النصر العسكري في حرب أهلية على حساب تكلفة باهظة.

وهذا قد يعود على الشرق الأوسط بصراعات جديدة حسب ما وجد الباحثان “فالمجموعات المنتصرة في حرب أهلية تحاول أحياناً أن تُعمل وتستخدم قوتها الجديدة ضد دول مجاورة، ما يفضي إلى حروب بين الدول.”

هذا مطب ومنزلق لا يود أحدٌ الوقوع فيه، لكنه الاتجاه الذي يبدو أن أكثر المشاركين في حرب سوريا من أجانب ومحليين يسيرون باتجاهه. لعل أسوأ الأيام هي التي لم تأت بعد.

هنالك حقيقة بسيطة واحدة لا تتغير في حرب سوريا “الأهلية”، ألا وهي أنها عصية الحل عنيدة أمام كل محاولة.

فرغم تعدد الحملات الهجومية ومؤتمرات السلام والتدخلات الأجنبية، يظهر أن المؤشر الوحيد الذي تتحرك إبرته هو مؤشر معاناة السوريين الذي لا يتحرك إلا في اتجاه واحد: نحو الأسوأ، وفقاً لتقرير نشرته صحيفة New York Times الأميركية.

تكشف الأبحاث الأكاديمية في مجال الحروب والصراعات الأهلية أسباب ديمومة هذه الحرب إن أخذنا كل تلك الدراسات سوياً بعين الاعتبار. ففي المتوسط باتت حروب من هذا النوع تدوم عقداً من الزمان، أي ضعف فترة الحرب السورية حتى يومنا هذا. لكن ثمة عوامل من شأنها إطالة هذه الحروب وزيادة درجة عنفها وتعقيدها فيستعصي إنهاؤها أكثر فأكثر. ونظرياً جميع هذه العوامل موجودة في سوريا.

التدخّلات الأجنبية

كثير من هذه العوامل مرجعه إلى التدخلات الأجنبية التي كان القصد من ورائها إنهاء الحرب بيد أنها بدلاً من ذلك أغرقت البلاد في المستنقع وأوصلتها إلى درب مسدود لا يزيد في العنف إلا ضراوة بينما توصد جميع أبواب السلام وتسد.

أضف إلى ذلك أن المعركة الحاصلة هي متعددة الأطراف لا حربُ طرفين اثنين، ما يعيق انتهاء الحرب وتوصّلَها إلى حل.

وعندما طرحت النيويورك تايمز سؤالاً عن وجود أية صراعات وحروب تاريخية مشابهة لحرب سوريا في دينامياتها وتفاعلاتها على الأستاذة باربرا والتر من جامعة سان دييغو الأميركية الخبيرة في مجال الحروب الأهلية أطرقت هنيهة ثم فكرت ببضعة احتمالات، ثم هزت رأسها في استسلام. لا حرب تشبه الحرب السورية في التاريخ كله.

إنها حقاً وفعلاً حالة عويصة” تقول والتر.

حربٌ لا تعرف الكلل

جرت العادة في معظم الحروب الأهلية أن تنتهي بخسارة أحد الطرفين إما بالهزيمة العسكرية، وإما باستنزاف واستهلاك كافة أسلحته، وإما بخسارته للدعم الشعبي ما يجبره على الاستسلام. حوالي ربع الحروب الأهلية انتهت باتفاقيات سلام لأن الطرفين عادة يصيبهما الإنهاك.

كان من الممكن أن يحدث ذلك في سوريا، فالطرفان الأساسيان في النزاع (أي الحكومة ومقاتلو المعارضة حينما بدأا حربهما عام 2011) كلاهما منهك ولا سبيل لهما لمتابعة القتال وحدهما دون مساعدة.

لكن المصيبة أنهما ليسا وحدهما، بل يقف وراء كل طرفٍ فريقُ دعم من القوى الأجنبية يضم الولايات المتحدة وروسيا وإيران والسعودية و تركيا؛ تدخلات جميع هذه الدول عطلت سير قواعد وقوانين الطبيعة. غابت القوى التي عادت ما تبطئ وتعطل سير الصراع، ما أدى إلى استمرار الصراع لأطول من المعتاد.

قوى النظام والمعارضة مدعومة من الخارج بالإمدادات، أي أن عتادها لا ينفد. كذلك يستمد الطرفان دعمهما السياسي من حكومات أجنبية ليست متضررة من الحرب تضرراً مباشراً ولا تشعر بكلفتها الباهظة إلا عندما يحاول بعض الأشخاص محلياً الحث على إجراء محادثات سلام لإنهاء معاناتهم وألمهم. وهذه التكلفة المادية والبشرية سهلة جداً على القوى الأجنبية الغنية التي تطيق تحملها بكل يسر.

من هنا وجد جيمس فيرون الأستاذ في جامعة ستانفورد المتخصص في الحروب الأهلية أن دراسات كثيرة خلصت إلى أنك “إن كان لديك تدخل خارجي على كلا الجانبين فستستمر الفترة أطول بكثير“.

كذلك على خط المعارك البرية توجد الميليشيات الكردية المدعومة أجنبياً وقوات تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) التي لا تملك هذا الدعم. لكن طرفي النزاع الأصليين الموالي للحكومة والمعارض لها يركزان الهجوم على بعضهما البعض، ما يجعل من قتالهما ومن أطرافهما الداعمة محورَ الحرب المركزي.

لا رابح ولا خاسر

الأطراف الخارجية الداعمة لا تعطل آليات السلام فحسب، بل تعزز لدى كل طرف آليات الثبات على موقفه والإصرار على المضي قدماً في القتال، فيتعقد الطريق المسدود أكثر لأن الميزان لا ترجح كفته لأي من الطرفين.

فكلما تعرّض أحد الطرفين لخسارة على أرضه عاجله داعموه الأجانب بمزيد من التدخل لصالحه بإرسال المدد والدعم الجوي كي لا يخسر ويميل عليه الميزان؛ ثم يحقق ذلك الطرف بضعة أرباح، فيلتفت الطرف الآخر إلى وكلائه الداعمين الأجانب بدوره طلباً للعون وزيادة في الإمدادات. كلما طلب أحدهم عوناً جاءه الدعم أقوى من ذي قبل، ما يزيد من عجلة آلة القتل لكن من دون أي تغيير في ميزان القوى الأساسي.

قصة سوريا من البداية

وهذه هي قصة سوريا من البداية. في نهاية عام 2012 عندما مني الجيش السوري ببعض الخسائر تدخلت إيران لصالحه، ثم مع بداية 2013 انقلب الميزان لصالح الجيش السوري، فجاء المعارضةَ الدعمُ من دول الخليج التي أغدقت عليهم الدعم، ثم بعد مرور الوقت دخلت الولايات المتحدة وروسيا في المعمعمة هي الأخرى، حسبما ذكر تقرير نيويورك تايمز.

إن هذه القوى الأجنبية على درجة من القوة لكي تتكيف مع كل تصعيد تقريباً، فليس بمقدور أي منها تحقيق نصر كاسح على الأخرى لأن الطرف الآخر مقتدر على الرد دائماً، ولهذا السبب لا تنتهي الحلقة المفرغة، فحتى التذبذبات الطبيعية في خطوط المعركة تخلق مقدمات لمعارك جديدة.

فالعام الماضي مثلاً دعمت أميركا أكراد سوريا ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، لكن مع تنامي قوة الأكراد قلقت تركيا التي تحارب مسلحيها الأكراد داخلياً. فتدخلت تركيا لتسيطر على مدينة جرابلس السورية بدعم أميركي والسبب في ذلك جزئياً هو لمنع وقوعها بأيدي الأكراد (وقد دعمت أميركا هذا الجهد وكأن التحالفات الحالية لا يكفيها التعقيد الذي فيها!)

تقول الأستاذة والتر “نظن أن هذا أسوأ ما يمكن أن تصل إليه الأمور، لكن لا فالأمور قد تسوأ أكثر من ذلك بكثير.”

الخوف من الهزيمة يبقي على الوضع الحالي كما هو

غياب التيقن كذلك أفضى إلى هذا الطريق المسدود، فلا أحد متيقن من كيف ستبدو سوريا بعد الحرب ولا كيفية الوصول إلى هناك؟ لكن الكل يستطيع تخيل أن يؤول الوضع إلى أسوأ. هذا هو السبب في استدامة الوضع الحالي وتفضيله في أعين المحاربين لأن همهم هو الحفاظ على ما في يدهم لا المخاطرة به لتحقيق أهداف أكبر.

فكما يقول البروفيسور فيرون من ستانفورد “منع الطرف الآخر من الربح أهم من أن تحقق أنت أي ربح“.

كل قوة أجنبية تفهم وتدرك أنها لا تستطيع الفوز ولكنها صراحة تخشى أن ينتصر الطرف الآخر لأن ذلك فوق طاقة احتمالها. فالسعودية وإيران مثلاً تريان في سوريا معركة ضمن نزاعهما الإقليمي على السلطة، وخسارة هذه المعركة قد يهدد أنظمتها هي، وفقاً لنيويرك تايمز.

حتى لو تأذى الجميع من حرب سوريا على المدى الطويل من الإرهاب وانعدام الاستقرار فإن مخاوف المدى القصير من الهزيمة هي ما يدفع بالجميع نحو المحافظة على هذا التعادل الأبدي في ميزان المعركة الذي لا يربحه أحد ولا يحسمه أحد.

تزيد هذا الوضعَ بشاعةً ديناميات صناعة القرار ضمن التحالفات الهشة التي تجمع عدة لاعبين لدى كل منهم أجندته وأولوياته الخاصة. وكثيراً ما يجمع هؤلاء أمر واحد يتفقون فيه ألا وهو رغبتهم في تلافي الهزيمة، وهي استراتيجية العامل المشترك الأصغر.

ثمة أسباب تدعونا لنعتقد بأن روسيا مثلاً قد ترغب بتقديم الأسد على الأقل بضعة تنازلات من أجل السلام. لكن ليس بوسع روسيا إجباره على التصرف كما تشاء هي، كذلك لا يسعها مغادرة سوريا دون التخلي عن مصالحها هناك.

مخاطر النصر

الطريقة الوحيدة لكسر الجمود في ميزان القوة والخروج من مأزق التعادل هي في أن يظهر أحد الطرفين على الآخر ويتفوق عليه، لكن نظراً لأن حرب سوريا استجرت أكبر قوتين عسكريتين في العالم، روسيا وأميركا، فلعل إبرة المؤشر لن تتزحزح إلا باحتلال كامل.

وفي أفضل الأحوال سيعني هذا احتلالاً مشابهاً لاحتلال أميركا للعراق أو لأفغانستان. أما أسوأ الأحوال فهو احتلال منطقة حرب ينشط فيها عدة خصوم أجانب، ما سيشعل فتيل حرب إقليمية كبرى.

لكن طريقة أخرى في إنهاء حرب كهذه قد يكون بتغيير أحد الداعمين الأجانب لسياسته الخارجية وقراره الانسحاب، ما سيسمح للطرف الآخر بتحقيق فوز سهل.

ولكن في سوريا ونظراً لأن كل طرف تدعمه عدة قوى أجنبية فإن المطلوب انسحاب كل داعمي هذا الطرف في نفس الوقت.

عقبة السلام: لا عرابين للسلام

عادة ما تنجح أو تخفق اتفاقيات السلام بسبب قضية من سيسيطر عسكرياً ومن سيتحكم بقوات الأمن. في سوريا هذا سؤال لا جواب له.

وليست القضية قضية جشع للسلطة، بل أزمة ثقة. فبعد حرب ضروس قتل فيها 400 ألف شخص يخشى المقاتلون طبعاً على حياتهم إن تمكن الطرف الآخر من إحراز قدر كبير من القوة. من جهة أخرى إن اتفاق سلام يمنح الطرفين قوة عسكرية متساوية سيشكل خطورة إمكانية العودة إلى الحرب من جديد. كذلك الوضع إن سمح للمعارضين الاحتفاظ بسلاحهم واستقلالهم، فهذا درس تلقنه العالم أجمع من ليبيا.

في الوقت ذاته لا بد من وجود قوة مسلحة تعيد الأمن وتطهر الأرض من أي تجار حرب أو ميليشيات مرتزقة تتاجر بالحرب، حسبما ترى صحيفة نيويورك تايمز.

ودرجت العادة أن تضطلع بهذا الدور منظمة أو دولة أجنبية كالأمم المتحدة كي ترسل قوات حفظ السلام، فهذه القوات تحفظ هدوء كافة الأطراف خلال عملية انتقال الدولة نحو السلام، كما أنها توفر أمناً مبدئياً يحول دون عودة أي من الطرفين إلى التسلح.

لكن من هي الدولة التي ستتطوع برجالها ومواطنيها كي يحتلوا سوريا إلى أجل غير مسمى، خاصة في ظل قصة أميركا وحكاية تجربتها في العراق؟

إن أي قوة أجنبية ستصبح هدفاً يستهدفه الجهاديون الإرهابيون، كما سيتعرض جنودها إلى غارات على مدى عام قد يكلفها خسارة مئات أو آلاف الأرواح.

الانزلاق نحو الكارثة

يقول الأستاذ فيرون بينما يعدد السيناريوهات التي يستحيل أن تنتهي بها حرب سوريا أن أفضل الأحوال سيكون إن تمكن أحد الأطراف من إبطاء إيقاع الحرب شيئاً فشيئاً حتى إحراز نصر بعيد الأمد، وبذلك تهدأ الحرب تدريجياً لتصبح “قتالاً أخف وتيرة، وهجمات إرهابية متقطعة وما إلى ذلك“.

أما السيناريو الأسوأ، فهو طبعاً أسوأ بكثير.

فطبقاً لبحث أجرته والتر عام 2015 بالتعاون مع كينيث بولاك الخبير في الشرق الأوسط “عادة ما يأتي النصر العسكري في حرب أهلية على حساب تكلفة باهظة.

وهذا قد يعود على الشرق الأوسط بصراعات جديدة حسب ما وجد الباحثان “فالمجموعات المنتصرة في حرب أهلية تحاول أحياناً أن تُعمل وتستخدم قوتها الجديدة ضد دول مجاورة، ما يفضي إلى حروب بين الدول.”

هذا مطب ومنزلق لا يود أحدٌ الوقوع فيه، لكنه الاتجاه الذي يبدو أن أكثر المشاركين في حرب سوريا من أجانب ومحليين يسيرون باتجاهه. لعل أسوأ الأيام هي التي لم تأت بعد.

هذا الموضوع مترجم بتصرف عن صحيفة New York Times الأميركية.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.