عَيّنات من الحرب التكنولوجية بين الصين والولايات المتحدة / الطاهر المعز

الطاهر المعز ( تونس ) – الجمعة 13/9/2024 م …

نَقَلَتْ برقية لوكالة رويترز ( 12 أيلول/سبتمبر 2024) عن المتحدثة باسم البيت الأبيض روبين باترسون، إن مسؤولين حكوميين كبار، من بينهم مستشار الأمن القومي جيك سوليفان ورئيس موظفي البيت الأبيض جيف زينتس ومديرة المجلس الاقتصادي الوطني لايل برينارد، إلى جانب كبار مسؤولي المناخ في إدارة بايدن، التقوا بالبيت الأبيض مسؤولين تنفيذيين لشركات التكنولوجيا والطاقة ( منها شركة توب تكنولوجي فينتشرز و  ألفابيت و أنثروبي…) “لمناقشة احتياجات البنية الأساسية للذكاء الاصطناعي، بما في ذلك مراكز البيانات وتوليد الطاقة وأشباه الموصلات…”، كما أوردت شبكة البث التلفزيوني “سي إن إن” تفاصيل الاجتماع الذي “بحث سُبُلَ تعزيز بناء مراكز الذّكاء الإصطناعي لتطوير التكنولوجيا ولضمان القيادة الأمريكية  ومن المقرر أن تلتقي وزيرة الطاقة ووزيرة التجارة أيضًا مع المسؤولين التنفيذيين لشركات الطاقة والتكنولوجيا الدّقيقة”،وسبق أن طلبت إدارة الرئيس جوزيف بايدن، خلال شهر حزيران/يونيو 2024، من شركات التكنولوجيا “الاستثمار في توليد الطاقة الجديدة الصديقة للمناخ لتغطية الطلب المتزايد عليها” خصوصًا من قِبَل مؤسسات الذكاء الاصطناعي، وابتهج الناطقون باسم الشركات المَعْنِيّة للإلتزام الذي أعلنته الإدارة الأمريكية بدعم البنية التحتية الإضافية الضرورية لتعزيز السياسة الصناعية والمستقبل الاقتصادي للبلاد، ثم تدّعي الحكومة الأمريكية وشركاتها إن حكومة الصين تدعم الشركات الصينية، ويعتبرون ذلك مُخالفًا لقواعد المُنافسة…  




منذ عام 2012، كثف الرئيس الأميركي باراك أوباما ووزيرة خارجيته (هيلاي كلينتون) الحرب الاقتصادية ضد الصين وحاولا تطويقها عسكرياً، منذ سنة 2012، مما دَفَعَ الصين إلى إقرار “مبادرة الحزام والطّريق” سنة 2013، للإلتفاف على الحصار الإقتصادي والتّجاري الأمريكي، ثم كثف الرئيسان دونالد ترامب وجوزيف بايدن سياسة الخنق هذه، وكانت شركة الاتصالات الصينية هواوي رَمْزًا للخطوات التي قطعتها الصين خلال فترة قياسية قصيرة، وتمكنت من تطوير تكنولوجيا الجيل الخامس (5G) عالميًا، لذلك أرادت الحكومة الأمريكية ومجلس النواب تدميرها من خلال الحصار والعقوبات، حيث فرضت الولايات المتحدة ( وتبعتها أوروبا وكندا وأستراليا وحلفاء الولايات المتحدة) مئات العقوبات على شركة هواوي وغيرها من الشركات الصينية لعرقلة التقدم التكنولوجي والاقتصادي في الصين.

ساعدت الدولة الصينية شركة هواوي على التَّكَيُّف مع “العقوبات” الأمريكية والأوروبية، وعلى إنشاء سلاسل لوجستية خاصة بها، من خلال استثمار الحكومة بكثافة في البحث والتطوير والسيطرة على جوانب البرمجيات والأجهزة.

يمكن تصنيف الدولتين ( الأمريكية والصّينية) في خانة الدّول ذات النّظام الرأسمالي، لكن ليس لديهما نفس المفهوم: فالولايات المتحدة وحكومات ما يُسمّى الغرب ( رغم عدم دقّة التّسْمِية) تنطلق من بحث احتياجات المستهلك والتسويق والعلامات التجارية، لكن الدّولة الصينية وشركاتها تنطلق من ضرورة إنشاء وتطوير شبكات الخدمات اللوجستية، ثم المرور إلى عملية الإنتاج وأخيرًا البحث عن المُستخدمين أو الزبائن، أي خلق الحاجة إلى المُنْتَج، خلافًا لشركات أمريكا الشمالية وأوروبا واليابان التي تنطلق من قاعدة الزبائن (العُمَلاء) لتكييف المُنْتَج وفق نوعية الزبائن وأذْواقهم واحتياجاتهم…

عندما رفضت الشركات الأمريكية العمل مع شركة هواوي الصّينية، استبدلت هواوي جميع سلاسل التوريد الخاصة بها بشعار “إزالة كل ما هو أمريكي” وبمجرد الانتهاء من ذلك، بدأت هواوي في جذب جميع الزبائن الأمريكيين الذين يستخدمون هذه التقنيات، لأن الولايات المتحدة كانت رائدة، قبل أن تتجاوزها شركة “هواوي” التي أصبحت تتحكم في منظومة الخدمات اللوجستية، مما سمح لها، في غضون بضع سنوات، بتنظيم هذا الهجوم المضاد الذي مَكَّنَها من السّيْطَرَة على سوق الهواتف “الذكية”، والتقنيات السحابية، ومراكز البيانات، وعلى صناعة وتطوير أشباه الموصلات (وهو قطاع لم تكن موجودة به حتى سنة 2015)، وطَوّرت شركة هواوي “الذكاء الاصطناعي”، انطلاقًا من دعم الحكومة الصينية والعمل على ضرورة إنجاز “السيادة التكنولوجية”، مما أهّل شركة هواوي للسيطرة على القطاعات التي لم يكن لها وجود فيها من قبل، حيث استوردت الصين سنة 2019، أشباه موصلات بقيمة 400 مليار دولار سنويا، وأصبحت سنة 2023، مُصدِّرًا، وبلغت قيمة صادراتها من أشباه المواصلات 73 مليار دولارأ، وأصبحت الصين، في غضون خمس سنوات، تنتج الصين معظم أشباه الموصلات، وتفوقت شركة هواوي على شركة “إنفيديا” الأمريكية، الرائدة في هذا القطاع وهي كذلك ( أي إنفيديا) الشركة الأعلى قيمة في سوق الأوراق المالية بأكثر من 3000 مليار دولار، واضطرت شركة Nvidia إلى خفض أسعار وحدة معالجة الرسومات لخادمها – H20 – من أكثر من 125 ألف يوان إلى 100 ألف يوان في غضون أشهر، وتجدر الإشارة إلى أن وحدات معالجة الرسومات هي المكونات الرئيسية لثورة “الذكاء الاصطناعي” وسبق أن خَطَّطَتْ شركة Nvidia لبيع مليون من وحدات معالجة الرسوميات هذه في الصين سنة 2024، لكنها أصبحت تواجه صعوبة في بيع أسهمها لأن وحدة معالجة الرسومات التابعة لشركة Huawei الصينية أكثر كفاءة وأقل تكلفة (120 ألف يوان) من نفيديا… وهكذا قامت الولايات المتحدة وأوروبا واليابان وكوريا الجنوبية وتايوان بتخريب قطاعها التكنولوجي الذي كان المُصَدِّر الرئيسي لأشباه الموصلات إلى الصين، التي كانت أكبر زبون لشركات “الغرب”…

تُشْرِفُ الدولة الصينية على التخطيط طويل المدى وبدأت تجربة إنتاج الشريحة الضوئية، شريحة المستقبل، وتم، خلال شهر حزيران/يونيو 2024، افتتاح أول مصنع تجريبي للرقائق الضوئية بالقرب من شنغهاي، وسوف يحدد هذا المصنع ما إذا كانت هذه الرقائق قابلة للحياة على المدى الطويل أو ما إذا كانت الطاقة الإنتاجية كافية وما إذا كانت هذه الرقائق فعالة… تستهلك الشريحة الضوئية طاقة قليلة جدًا وتستخدم الضوء (الفوتونات) لنقل المعلومات بدلاً من الإلكترونات التي تكون أساس جميع إلكترونيات الحالية حيث يمر التيار عبر المقاومات والبوابات، ووفقا للتقديرات، فإن أشباه الموصلات الضوئية ستكون أسرع بألف مرة من أشباه الموصلات الحالية التي تستخدم السيليكون الذي أظهر حدوده، وتوقعت أكاديمية العلوم في بكين، خلال شهر أيلول/سبتمبر 2023، أن الإنتاج الصيني واسع النطاق للرقائق الضوئية سيكون ناجزًا وفَعَّالاً خلال ثلاث سنوات، أي سنة 2026، في حين لم يتوقع الباحثون “الغربيون” الإنتقال إلى مرحلة الإنتاج المُكثّف ( الصناعي)  لهذا النوع من الرقائق قبل سنة 2040 أو رُبّما 2050.

إذا نجحت الصين في هذا الإنجاز المتمثل في كونها أول من ينتج رقائق ضوئية وظيفية على نطاق واسع، فسوف يتغير النظام البيئي الإلكتروني ونظام تكنولوجيا المعلومات بالكامل، من الهواتف الذكية إلى مراكز البيانات، بما في ذلك أجهزة الكمبيوتر الشخصية وجميع أجهزة إنترنت الأشياء. أما في المجال العسكري، فإن استخدام هذه الرّقاَقات في الاتصالات، وحساب المسارات سواء للأسلحة المُضادّة للطائرات أو الطائرات بدون طيار، سيعطي ميزة كبيرة للجيش الصيني الذي يستفيد بالفعل من أداء الذكاء الاصطناعي الصيني، الذي يتفوق بكثير، من الناحية التّقنية، على أداء “الغرب”.

ظلت الدول الصناعية تحاول، لعدّة عُقُود، تجربة الاندماج النووي، من خلال التحكم في الدورة، ولكن دون جدوى، ولَئِنْ  تم إنجاز الاندماج النووي منذ عقود فإن ذلك لم يُمكّن من السيطرة على الدورة الكاملة)، وفي حزيران/يونيو 2024، أثبتت الصين جدوى الاندماج النووي من خلال إنتاج البلازما لأول مرة في التاريخ، وللتوضيح فإن الاندماج النووي هو الطاقة النهائية، فهو ينتج أكثر مما يستهلك ويمكنه استخدام مياه البحر، وهو غير ملوث وغير مشع، ويعتمد البحث العلمي الصيني على الجانب العملي للأشياء، كما سَلَفَ ذِكْرُهُ، فالهدف هو إنتاج طاقة وافرة وغير مكلفة، وبالتالي الحصول على رقائق أسرع – في نقل المعلومات والبيانات – وأرخص ثمنًا، ومن هنا جاء البحث عن الرقائق الضوئية لتحقيق الإكتفاء الذاتي من الطاقة، وربما تصديرها، ولوضع حد للاعتماد على الوقود الأحفوري والتّخلّص من استيراده، ولتحقيق الاندماج النووي الخاضع للرقابة – أي إبقائه تحت السيطرة والتقليل من إمكانية الحوادث الخطيرة –  مع خفض الإنفاق الإستثماري تجنبت الصين إنشاء مفاعلات ضخمة مثل المفاعل الأوروبي إيثر، وهو مفاعل مكلف للغاية ويصعب تعديله، ولذلك استخدم الباحثون الصينيون مفاعلات صغيرة يمكن تعديلها بسهولة بتكلفة لا تتجاوز 1% مقارنة بتكلفة تعديل المفاعل الأوروبي “إيثر”، وتستخدم المفاعلات الصينية مادة متوفرة بكثرة وغير مكلفة مما يحل مشكلة المواد الخام، وستكون هذه التكنولوجيا جاهزة وقادرة على الإنتاج باستخدام الرقائق الضوئية خلال خمس سنوات، لكن سيتعين الانتظار ثلاثين عاما أو أكثر للتّأكُّد من نجاعة تقنيات الاندماج النووي الصيني!

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

13 − سبعة =