إغلاق الصحافة الورقية.. وملاحظة لغادة السمان / د. فايز رشيد
د. فايز رشيد ( الجمعة ) 23/12/2016 م …
يبدو، أن جيلنا سيكون الأخير، الذي يقرأ الصحافة الورقية. لقد ارتبطت قراءة الجريدة مع فنجان القهوة الصباحي الجميل، وطقوسٍ أخرى محببة. كما أن معظم أبناء جيلنا، إذا أراد الواحد منهم قراءة صفحة ما على الإنترنت، يطبعها أولا، أو الأصح قولاً، يكلف أحدا بطباعتها، كونه لا يتقن عملية الطبع.
أقارن ذلك مع أولئك الذين يقرأون كتبا على الإنترنت، أغبطهم ولا أحسدهم، ولكني أستغرب، كيف يستطيعون؟ بطبعي أتلذذ بمسك الكتاب بين يديّ، أقلب صفحاته باستمتاع كبير. أقول ذلك، وجريدة «السفير» اللبنانية على وشك الإغلاق، ابتداء من بداية العام المقبل، ستتبعه إغلاقات لصحف أخرى ـ ولعل من أبرزها، جريدة «النهار» ـ وصحف متعددة في كل الدول على الصعيدين العربي والعالمي.
إغلاق صحيفة يعني إغلاق جامعة، ندرك أننا على المستوى العربي، نفتقد زمن أباطرة الصحافة المرحومين محمد حسنين هيكل وأحمد بهاء الدين ومحمد التابعي، هؤلاء العظماء في إمكانياتهم الصحافية، هؤلاء الكبار تعاملا وتواضعا، لكن ومثلما يقول المثل العربي»ما زالت الدنيا بخير». أيضا، ما بين نابليون في قوله «تأثير جريدة عليّ، أكبر من تأثير طعن وجهي بآلاف الرماح»، وبين العديد من الصحف العربية والعالمية المهددة بالإغلاق، تكثر الأسباب. للأسف يرى القائمون عليها أنها أسباب موضوعية فقط كقلة عدد القرّاء إجمالا، ذلك أن متوسط قراءة الفرد العربي، لا يتجاوز ربع صفحة سنويا (الإحصائية منشورة في «القدس العربي»)، دون أخذ العوامل الذاتية منها بعين الاعتبار.
في البداية، أتفق مع ما كتبته صحيفة «الغارديان» عن رئيسة تحرير صحيفة «New Day»، أليسون فيليبس، التي كتبت، «هناك كثيرون لا يشترون الصحف اليوم، ليس لأنها ما عادت تستهويهم، بل لأن الكثير من الصحف المتوافرة حاليا في الأكشاك، لا تلبي تطلعاتهم». قول وحيد أذكره من بين العديد من النماذج الشبيهة. يمكن الاتكاء على أسباب وعوامل موضوعية كثيرة كعوامل تؤدي إلى الإغلاق منها العامل المتمثل في القراءة الإلكترونية للصحف، لكن من الضرورة بمكان تذكير القائمين على الصحف المهددة بالإغلاق، بالتساؤلات التالية: ألا نعيش زمنا رديئا في قيمه ومفاهيمه؟ ألا نشهد للأسف، زمن الانهيارات السياسية والاقتصادية، رغم كل الإمكانيات المتوفرة، التي تُجيّر لكل شيء، إلا لخدمة المواطن العربي؟ إضافة للانهيارين الاجتماعي والثقافي. ألم تنتقل أزمة الثقافة لتطال المثقفين العرب؟ وحتمية انعكاس ذلك على الصحافة، بحكم التأثر والتأثير؟ ثم أليست الصحافة فنّا في الإدارة والتعامل مع الكتّاب والقارئ، بما يكفل حرية كل منهما؟ أين هو النقد الموضوعي لهذه القضايا، ومحاولة إنارة طرق الحلول في العديد من الصحف المهددة بالإغلاق؟ أين هو التفاعل الحيّ بين الصحيفة والقارئ، بغض النظر عمّا تكون وجهة نظره، مؤيدة لسياسة الصحيفة أو معارضة لها… الخ.
أكتب ما أكتب، لا نتيجة لدراسة أكاديمية للإعلام، وإنما لخبرة اكتسبتها على مدى أربعة عقود في الكتابة الرسمية، قضيتها متنقلا بين العديد من الصحف العربية الجادة، ومن التجربة، تشكلت لديّ الملاحظات التالية أولا: هناك صحف تتعامل مع كتُابها كحجارة الشطرنج ليس إلا. ثانيا، هناك صحف لا تكلّف نفسها عناء الاتصال بالكاتب إذا أرادت الاستغناء عنه (وغالبا ما يكون ذلك، لأسباب سياسية) فهي إما لا تنشر مقالاته فجأة، دون أي تبرير تكتبه إليه أو تطلب منه ألا يطالب بمكافآته المادية أو.. أو..الخ. ثالثا، هناك محررون في صحف فنانون في تطفيش الكتّاب (بطريقة التعامل معهم)، لصالح «الأنا « النرجسية والـ»الذات» المضخمة في عيون صاحبها والرفض للآخر. رابعا وأخيرا: يبقى القول إن لم تعتمد الصحيفة على قرّائها وإيجاد السُبُل الكفيلة باستمراريتها، فستظل مهددة بالإغلاق. أذكر مقابلة صحافية لمحمد حسنين هيكل، في زمن العزّ الناصري، كان من جملة الأسئلة التي سألتها المذيعة المتحمسة له، عن الوجه الحضاري للمخابرات المصرية آنذاك؟ أجاب باختصار: أنا لا أحب الخوض في موضوع أي مخابرات، حتى لو كانت مخابرات عبدالناصر.. فأنا أكره المخابرات عموما. قامت كل الصحف المصرية بنشر ما قاله.
لا ننسى بالطبع الرقابة من العديد من الحكومات العربية على الصحف، ومنعها من نقل الخبر إلا بالمواصفات الرسمية. في القرن الواحد والعشرين، يُغلق مكتب صحيفة تصدر في بلد عربي، لأنها انتقدت حدثا سياسا ما في البلد المعني، أو حتى اعتقال مراسل فضائية عربية للسبب ذاته. كل ذلك سيؤثر أولا على موضوعي الصحافة الأهم وهما، الحرية والديمقراطية، فحجب المعلومة أصبح وهما. وفي حالة إغلاق الصحف، ومن أجل تلافي ذلك، على الصحيفة الحفاظ على حرية القارئ والكاتب أيضاً. حرية القارئ نعني بها التالي، أن الكتابة الصحافية هي أحد أشكال الوعي، والأخير بدوره هو انعكاس للواقع، بالتالي فإن المقالة السياسية هي تعبير عن الواقع الذي تعيشه الجماهير العربية، في أكثر من قطر عربي، إلى جانب إشكالاتها الاجتماعية، الاقتصادية، السياسية والحياتية الأخرى، التي تعانيها يوميا، بالتالي فإن المقالات السياسية حاليا، في معظمها، انعكاس للواقع القاسي حدود الألم. ندرك أن الحرية تتنافى مع الخضوع وترديد ما تمليه الأوساط الحاكمة على كتبتها، لتجميل وجهها، وندرك أن حرية الصحافة، هي الضمانة الحقيقية لحرية التعبير المكفولة دستوريا، لذا فإن حرية الكاتب لا تكتمل إلا بحرية القارئ، فحرية الأول هي نظرية مجردة، وأقصى ما يمكن أن تبلغه: تغريد منفرد يقابله تصفيق العاجزين، مثلما يقولون، لذلك لا تتحقق حرية الكاتب من دون أن تتزامن مع حرية كل القرّاء.
بالنسبة للأديبة غادة السمان، والرسائل المرسلة إليها من المشهورين، وقد كتبتْ عنها في مقالاتها الأخيرة في «القدس العربي»، معروف أن الكاتبة نشرت رسائل الشهيد غسان كنفاني إليها، بعد استشهاده مباشرة. ولا زلت أذكر الضجة التي أثيرت حول هذه الرسائل حينها، والتساؤل الذي هتف به كثيرون يومها، لماذا لم تنشر رسائلها إليه أيضا؟ يتكرر الأمر مع المرحوم أنسي الحاج، وقد أثارت رسائله إليها زوبعة بين المثقفين. سيتكرر الأمر وفق ما قالت في مقالتها الأخيرة في «القدس العربي» 17 ديسمبر الحالي 2016 مع بليغ حمدي، وربما غيره. حرصت الأديبة الفاضلة على أولا.. النشر للمبدعين، صاحبي الكلمة الإبداعية، الأمر الذي يُفهم منه، أن هناك رسائل من غير المبدعين أيضا. ثانيا، ما زلت أذكر، ردها (بعد نشر رسائل غسان كنفاني إليها) على عدم نشر رسائلها إليه؟ قائلةً، بأنها لا تملك نسخا من هذه الرسائل، بل هي لدى أهله، بالتالي فهم المسؤولون عنها.
بداية، حريّ التوضيح، أنني لا أكن للسيدة غادة إلا كل التقدير والاحترام، وقد سبق أن أبديت إعجابي بمقالة لها عن «أوضاع المرأة على الصعيدين العربي والعالمي» على صفحات هذه الجريدة أيضا، أؤكد على أن فهمي للإنسان، مرتبط بمجموعة الجوانب البشرية في تركيبته الشخصية. يجوز للإنسان أن يكون مناضلاً ومحبّا عاشقا في الوقت ذاته، جيفارا مثلا، كان إضافة إلى كونه ثوريا، شاعرغزل كبيرا. وبالفعل، لعلني أنقل جملة معبرة للصديقة الروائية ليلى البنا، عندما شيطنني بعضهم لكتابتي قصائد غزل إلى جانب الشعر الوطني، كتبتْ «وحده قلب العاشق مملوء بحب الوطن». لذا، تمنيت في قرارة نفسي وأتمنى الآن كتابةً على الأديبة غادة السمان ، لو أنها تنشر رسائلها إلى معجَبيها ، خاصة أنهم كلهم ووروا التراب، ولا يستطيع أحد منهم نشر رسائلها إليه، وإن كانت لا تمتلك نسخا عن رسائلها، فلتكتب عن مضمون علاقتها مع كلّ منهم، هل كان حبّ الواحد منهم لها، من طرف واحد فقط؟ وهل يستمرّ بالكتابة إلى شخص لا يجيبه على رسائله؟ هل أحبت واحدا منهم؟ نعم، الأعدل في نشر الرسائل، هي أن تكون منشورة لطرفين. لقد سألتُ البعض من المعنيين، رغم إحراجي الشديد حين سألت، عن رسائل غادة إلى غسان كنفاني، فلم أفلح في معرفة جواب، رغم أنه في الأغلب، ما يحتفظ الأديب بنسخ من رسائله إلى الآخرين، خاصة إلى قامات كبيرة مشهورة. في النهاية، ما رأي السيدة غادة فيما قلت؟
كاتب فلسطيني
التعليقات مغلقة.