الآن… «مصير العالم والمنطقة يُصنع في المنطقة» فلا تنتظروا أحداً من بعيد! / نصار إبراهيم

 

 

نصار ابراهيم ( الخميس ) 19/2/2015 م …

 

كانت كلمة واضحة، شديدة الكثافة والدلالة تلك التي أعلنها السيد حسن نصر الله… يوم الاثنين الموافق 16 شباط 2015، حين قال:

«اليوم لبنان متأثر بما يجري في المنطقة أكثر من أيّ وقت مضى. مصير سورية ولبنان والعراق والأردن وغيرها من البلدان يصنع في المنطقة. من يغيب عن مصير المنطقة يقول للآخرين اصنعوا مصيرنا نحن لا نستطيع ان نفعل شيئاً. مصير العالم اليوم يُصنع في المنطقة، هناك مصير شعبنا وبلدنا وكراماتنا ومستقبل أجيالنا».

في ذات المساحة الزمنية، ولكن من زاوية نقيضة تماما كان نتنياهو يعلن بدوره: «أنّ السنوات الأربع المقبلة ستغيّر العالم…»!

السيد يقول الآن… فيما نتنياهو يراهن ويتمنى أن يمتدّ الأمر إلى أربع سنوات أخرى…

أما أنا فأقول نعم إنّ مصائر المنطقة والعالم يجري تقريرها الآن وهنا في المنطقة…

هذا ليس موقفاً مبنياً على الانفعال أو العواطف… كما ليس مجرّد أمنيات وتأمّلات وقراءة في الفنجان… بل يستند إلى متابعة عميقة وحثيثة لحركة معادلات الصراع وقواه الفاعلة، منذ بداية ما يُسمّى بـ»الربيع العربي»، أي منذ أربع سنوات وما ترتب على تلك المواجهات من تموضعات وإزاحات في موازين القوى في سياق صراع وتشابك الاستراتيجيات وما تمثله من مصالح طبقية واقتصادية وجيواستراتيجية… حيث دفعت القوى والدول المنخرطة في الصراع بما لديها من طاقة فعل وحشد سياسي واقتصادي وإعلامي وعسكري واستخباري وحتى نفسي لكي تحسم وتفرض إراداتها وأجنداتها ومشاريعها على المنطقة.

اليوم وبعد سلسلة المواجهات الكبرى التي امتدّت على مساحة الشرق الأوسط وفي القلب منه العالم العربي، بالإضافة إلى الساحة الأوكرانية… فقد أنتج الصراع الطاحن وعلى مختلف المستويات، مشهداً جديداً يفرض ويرسم علاقات قوة وموازين قوى استراتيجية جديدة في المنطقة والعالم.

في هذا السياق يمكن ملاحظة وتأكيد بعض ملامح المشهد الناشئ… بما يعنيه ذلك من حقائق سياسية وعلاقات جديدة في المنطقة والعالم.

صمود الدولة الوطنية السورية وحلف المقاومة والانتقال من الدفاع إلى الهجوم… إلى جانب اكتساب خبرات هائلة في التنسيق والقتال بين الجيش العربي السوري النظامي والمقاومة… والأهمّ ترسيخ حقيقة امتداد جبهة المقاومة وترابطها من إيران وصولاً إلى جنوب لبنان… وفرض قواعد اشتباك جديدة لصالح حلف المقاومة.

مقابل هذه الحقيقة يتجلى انكشاف «إسرائيل»، وهنا لا أعني التقليل من قوتها العسكرية التي لا يُستهان بها، إلا أنّ تلك القوة لم تعد قادرة على تخطي المعادلات وموازين القوى التي تمّ فرضها في غمرة المواجهات… وقد اعترف نتنياهو وبوضوح أنّ «إسرائيل» باتت تواجه الآن ثلاث جبهات متصلة: الجنوب اللبناني – غزة /فلسطين الجولان العربي السوري… وتستند هذه الجبهات إلى عمق إيراني – عراقي استراتيجي شامل. ولعلّ أهمّ ما تشير إليه حقائق الميدان والحسم الذي يجري الآن في جنوب سورية بإرادة وعقل الجيش العربي السوري والمقاومة… هو أنّ «إسرائيل» قد أصبحت محكومة بمعادلة توازن رعب واضحة وعليها التعوّد على هذه الحقيقة… وهذا يضع علامات استفهام كبيرة حول قدرتها على القيام بوظيفتها الاستراتيجية التي أنشئت من أجلها في قلب العالم العربي.

لقد انتهى عصر التفرّد بما في ذلك استراتيجية الهجوم والعربدة «الإسرائيلية»… فمن يواجهها اليوم أعدّ لها واستعدّ، وقد أثبت في الميدان أنه قادر على الذهاب إلى النهايات القصوى، ما يضع «إسرائيل» في مهبّ الرياح العاصفة… لهذا باتت النخب «الإسرائيلية» مشغولة اليوم بالبحث عن تعزيز وتطوير استراتيجيات الدفاع بدلاً من الهجوم هذا ليس استنتاجاً نظرياً بل خلاصة ما يدور في مراكز الدراسات الاستراتيجية «الإسرائيلية» .

وهناك في الشمال تمكنت روسيا بقوتها وصلابتها وقدراتها من وضع حدّ لعربدات «الناتو» و»ولدنات» نظام كييف، حيث رسّخ بوتين قدميه وسيطر على شبه جزيرة القرم وغيّر معادلات أوكرانيا التي أرادت أميركا تحويلها إلى عامل استنزاف وابتزاز دائم لروسيا. كلّ هذا بالإضافة إلى إمساك روسيا وبقوة بمفتاح سيل الغاز المتدفق إلى أوروبا المرتبكة والمتردّدة، وإلى جانبها يقف العملاق الصيني الذي يعيد رسم معادلات العالم الاقتصادية، ويتصدّى لاستراتيجة الهيمنة الأميركية في شرق آسيا والقارة كلها…

أما إيران… فهي تتقدّم وبثبات نحو ترسيخ وجودها ودورها كقوة إقليمية استراتيجية وكقوة عالمية فاعلة… ومعادلاتها تستقرّ على الاعتراف بها كدولة نووية…

فيما اليمن السعيد يغيّر وجه الخليج وينهض من جنوب جزيرة العرب ليكمل قوس الصمود… ويحاصر عربان النفط في قصورهم…

وبالنسبة إلى مصر، كنانة العرب… فمع أنها لا تزال متردّدة إلا أنّ سياقاتها الاستراتيجية تدفعها قسراً نحو مثلث العرب الذهبي: بغداد دمشق القاهرة… لكي تلتقي الأنهار الثلاثة دجلة والفرات والنيل… ربما تحتاج هذه الإزاحة الأساسية إلى مدى زمني وسياسي مناسب… لكن مصر ستستيقظ خاصة وهي ترى وتلمس وتعي الآن ما يخطط لها بهدف إشغالها وإغراقها في حروب استنزاف طويلة في سيناء وليبيا بما يضعف جيشها ويحدّ من دورها الإقليمي والدولي…

أما أوروبا فلا تزال تتحرك بتردّد وحيرة وارتباك… فهي تواجه تحدّيات هائلة… وفي سياق واقعها هذا تحاول ألمانيا، بقوتها الاقتصادية الضاربة التصرّف بعقلانية وحكمة لكي تحفظ لنفسها ولفضائها الأوروبي المكانة والدور… فالرسالة التي وجهتها اليونان إلى وعي تلك القارة قوية وحازمة… فاليونان التي دفعت من وعيها واقتصادها ورفاهية شعبها ثمن وصفات البنك الدولي والهيمنة الألمانية تعلن أنّ هناك بدائل، مشيرة بذلك إلى روسيا والصين المستعدّتان للتحرك فوراً… ولهذا لم يكن شعار «اليونان ليست مستعمرة عند ميركل…!» الذي رفعه المتظاهرون اليونانيون في قلب أثينا عفوياً أو بلا معنى.

وغير بعيد نجد تركيا… التي تنكفئ على مقامراتها بعد أن لجمت موازين القوى الإقليمية وهزيمة أدواتها الإرهابية في سورية تهوّرها… هذا إلى جانب هشاشة فسيفسائها الاجتماعية التي تنذر بالانفجار والتشظي… ولهذا فقد ارتدّت نحو خيباتها… وفي سياق هذا الإخفاق الكبير انكشفت ضحالة عقل تركيا الاستراتيجي حين وضعت كلّ بيضها في سلة حركة «الإخوان المسلمين» في مصر وتونس وسورية والمنظمات الإرهابية الدموية وعلى رأسها «داعش»… لقد فشلت خطط أردوغان وسقط في كلّ الميادين والامتحانات… وانتقلت تركيا من معادلة «مشاكل صفر إلى معادلة 100 مشاكل».

أما عربان الخليج… فهم مرتبكون وحائرون على كلّ المستويات… حيث انفجرت في وجوههم أخيراً، وبعد عقود، فقاعة النفط وقوة المال الوهمية، فهوت منظومات الخليج السياسية والإعلامية والعسكرية والثقافية المتخلفة كبيت من ورق…

وفي ذات السياق وصل الإرهاب الديني والفكري الوهابي إلى منتهاه، فسقط الرهان على إحراق المنطقة بحرب مذهبية وطائفية لا تبقي ولا تذر… لقد أدّى هذا الإرهاب وظيفته وها هو يتحوّل اليوم إلى عبء على من خلقه وحماه وموّله، أقول ذلك رغم الدماء والويلات والآلام التي سبّبها ولا يزال… فهو الآن مجرّد آلة قتل فكري وسياسي وأخلاقي عابرة للحدود والأديان والطوائف والشعوب والقوميات…

في ضوء هذه الحقائق، وبعد أن اختبرت الولايات المتحدة أوراق قوتها ومنحت أدواتها الوقت والدعم الكافيين لصدّ وكبح هذه التحوّلات والحفاظ على هيمنتها وتفرّدها في المنطقة، إلا أنها وبعقلها العميق وبراغماتيتها تدرك طبيعة وعمق التحوّلات الجارية كما تعرف حدود القوة وخفايا الصراع… ولهذا فهي تتجه نحو المساومات الكبرى لترتيب أوراقها وعلاقاتها بما يحفظ مصالحها ويحافظ على قوتها من التآكل…

هذه هي أهمّ مؤشرات المرحلة وجغرافية الصراع والقوة…

هذه الحقائق والمحدّدات تفرض على العقل السياسي في كلّ مجتمع ودولة وحركة وطنية الاستجابة والتحرك بدينامية وقوة ووضوح وذلك من أجل توظيف هذه التحوّلات الكبرى وترصيدها على شكل منجزات سياسية تستعيد الحقوق وتفرض الاحترام وتستعيد الأدوار… بما يستجيب لمصالح وطموحات الأمة العربية وشعويها…

هنا بالضبط تحضر فلسطين وتقف في المقدمة… فهي فرصة تاريخية بكلّ معنى الكلمة لكي تستعيد ذاتها وتوازنها عبر القطع مع الاستراتيجيات والرهانات العقيمة القاصرة والبائسة… وأن تخرج مرة واحدة وبصورة نهائية من معادلات أوسلو المذلة والمهينة… وأن تنهي ذلك الانكسار المزمن في أحضان المشروع الأميركي الإسرائيلي الأوروبي الرجعي العربي… وأن تتموضع وبصورة كاملة لتأخذ موقعها الطبيعي كمكوّن عضوي في حلف المقاومة وجبهتها الكونية المساندة… وهذا لن يكون إلا بتحوّلات سياسية عاصفة في الداخل الفلسطيني…

يشمل هذا الاستحقاق حركة فتح التي عليها أن تغادر تردّدها ورهاناتها، وأن تذهب نحو خيارات سياسية أمينة لتاريخها وتضحياتها، والأهمّ أن تكون أمينة لمصلحة فلسطين وشعبها وأمتها…

كما يشمل أيضاً حركة حماس التي تواجه اليوم لحظة الاختبار والحسم بدون مراوغة… وذلك بعد إخفاقها في إدارة التناقضات بمهارة وحكمة… إذ عليها أن تتحرك وأن تعيد تقييم سياساتها بجرأة وشجاعة… وأن تعترف بأنها قد أخطأت في البديهيات… وبأنها قد أضرّت بمكانتها عندما تجاوزت دورها الأساسي والجوهري كحركة تحرّر وطني فلسطيني… فذهبت بفلسطين نحو حركة «الإخوان المسلمين» بدلاً من أن تأتي بالحركة لتكون في خدمة القضية الفلسطينية وشعبها… وهذا يشمل مواقفها وبؤس خيارها المدمّر عندما وضعت نفسها في مواجهة الدولة الوطنية القومية السورية… فأساءت إلى فلسطين وجرحتها في قلبها قلب دمشق… أقول ذلك من دون التقليل من تضحيات الحركة وشهدائها وصمودها الباسل في غزة…

بطبيعة الحال هذه الاستحقاقات، المطلوبة من أكبر حركتين سياسيتين فلسطينيتين، لن تتحقق إلا بتحوّلات جذرية تطال البنى التنظيمية والقيادية التي عليها أن تدفع ثمن رهاناتها ومقامراتها الخاطئة…

وفي السياق ذاته يأتي دور اليسار الفلسطيني الذي عليه أيضاً أن يتجاوز ضعفه وجموده في المستويات السياسية والتنظيمية والفكرية والكفاحية… وأن يستعيد دوره الثقافي كقوة صدّ للفكر والثقافة الرجعية والدينية المتخلفة، وأيضاً كقوة صدّ في مواجهة ثقافة التغريب والاستلاب والاستهلاك الرأسمالي الجشع والوحشي الذي يسحق الطبقات المنتجة والطبقة الوسطى في المجتمع الفلسطيني بسبب سياسات وشروط البنك الدولي… وأن يمسك اليسار الفلسطيني من جديد براية التحرّر الاجتماعي والسياسي… وأن يغادر دائرة الاستهلاك الفكري إلى دائرة الانتاج والإبداع الثقافي والنظري بما يعيد قراءة تحوّلات الواقع الاجتماعي سواء على المستوى الفلسطيني أو الإقليمي أو الدولي بصورة تؤسّس لدور فاعل على كلّ المستويات…

كما أنّ الأردن مطالب أيضاً وفي ذات السياق بأن يعيد وبصورة جذرية تموضعه وخياراته السياسية والاقتصادية والاجتماعية… كي لا يتحوّل إلى خاصرة رخوة للمخططات «الإسرائيلية» التي تسعى وبدأب لتمرير مشروع الوطن البديل في الأردن… والخيار الوطني – القومي المنطقي أمام الأردن يكمن في سياق في تموضع عمان مع خط الصمود القومي العربي ليصبح: بغداد دمشق القاهرة عمان… بهذا يحفظ الأردن وجوده وأمنه ووحدته وهويته ودوره وشعبه…

الوقت من ذهب… ومن يراهن على انقلابات في اللحظة الأخيرة أقول له وبوضوح: لقد انتهت اللعبة ونحن في ربع الساعة الأخير… حيث لحظة الحقيقة… لحظة فعل موازين القوى هي التي تتكلم… وليس الأمنيات والشعارات والكلام الفارغ.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.