فاطمة الفلسطينية: 16 عامًا من وهج العشق خلف الأسوار

 

الثلاثاء 17/1/2017 م …

الأردن العربي – كتبت نجوى ضاهر … 

يقول المفكر إدوارد سعيد “على كل فلسطيني أن يروي روايته”، ومع روايات الحب المحاطة بالأسوار والحُراس الذين يُصرون على مطاردة عيون العشاق وهي تختلس عمرًا قصيرًا من زمن تتسع فيه الأحلام الصغيرة وتضيء في ثنايا ذاكرته الجراح العميقة رغم قيود السلاسل، تُطلُ حكاية أسطورة حب فاطمة ومجد الفلسطينية في كل تفاصيلها بصمودها أمام الهزيمة، الحكاية التي كبُرت بلقاء كان ميعادًا للعُرس، لكن أبى الإحتلال المُتربص دومًا بومضات الروح الفلسطينية إلا أن يَسْرُق جنين الفرح قبل إكتماله، ليختبر الرفيقان رحلة العذاب والقهر والإنتظار والتجول بين الزنازين ومسافات الطريق البعيدة التي تصقل التجربة متحديةً عناد الريح ومُكر الجلاد معًا.

يكتب مجد عبد الرحيم بربر (أبو المنتصر) إبن بهية المدائن القدس، المُعتقل منذ 16 عامًا لحكم ممتد لعشرين سنة، لرفيقته وزوجته فاطمة بربر في رسالته التي تُطيب حروفها جراح فاطمة وتحمي حبهما من غبار أكاذيب الحياة الموجعة وأسئلتها المستمرة: “حبيبتي فاطمة، أتعرفين أنّه دائمًا ما يكون هناك شيءٌ يحدث ليسمو بمستوى انتباهنا ويبعث إشارة قوية جدًا تُؤكد على أن علاقة الحُب التي جمعتنا ليست كأي علاقة، بل هي خاصة واستثنائية جدًا، إنها علاقة حب إتحدت بها القلوب وامتزجت الأرواح الواحدة حتى غدت بمثابة قلب واحد ينبض هنا في الأسر المُصغر وهناك في السجن الكبير، في جسدين وروحين رهائن انتظار أمل اللقاء، فالحكاية التي بدأت هناك سنكملها حتمًا وإن طال البعاد بكل مشاعر اللهفة والشغف والإشتياق”..

وكانت فاطمة تتلقى رسائل حبيبها مجد وتقول في سِرها كما أخبرتنا “بروحي وقلبي رجل يُلغي كل رجال الأرض”، حارسةً لقسمها الأبدي الذي تحدّت به المجتمع “لا أحد يمتلك روحي إلّا مجد القلب”، موجهةً رسالة صارخة للسّجّان “إن استطعتم أن تسجنوا حبيبي ورفيقي على امتداد الزنازين البعيدة فلن تتمكنوا يومًا أن تُباعدوا بين روحنا الواحدة”..
في حديثٍ مع فاطمة طال وحاول الإحتيال على دمع عيون العاشقة الصابرة، قالت: “أحببت مجد في مرحلة المراهقة وبقي حبنا مزهرًا كما هوية القدس ونار أحيائها المتوهجة دومًا ببطولات أبنائها، واكتمل الحب بيننا بلقاءٍ كنا نتصور أنه سيجمعنا إلى الأبد تحت سقفٍ واحد لا أن يكون كما مواعيد المطر رغم خصوصية طقوسها، إلّا أن لها حدود وقت سينتهي بعد خمسة وأربعين دقيقة هي المدة المسموحة لي لرؤيته خلال زياراتي إلى السجون التي حُبس فيها زوجي جسدًا لا روحًا، لنعاني معًا من حمل ثقيل لا حامي له إلّا سر الحب الكبير الذي جمعنا ولم ينكسر يومًا رغم كل العواصف”. وتتابع فاطمة قائلة: “تمّ زواجنا عام 1998 وأنجبت إبني منتصر وإبنتي زينة، وكان عمري يوم اعتقال زوجي في الثالث من آذار لعام 2001 ثلاثة وعشرين عامًا ومجد خمسة وعشرين عامًا، وإبني منتصر سنة وسبعة شهور وإبنتي خمسة عشر يومًا، وقد مرّ على زواجنا عامين ونصف. وجاء اعتقاله بمناسبة اقتراب ذكرى يوم الأرض الخالدة من مكان عمله في القدس بتهمة تفخيخ سيارة في القدس لم تنفجر لخلل فني، وتهمة الإنتماء إلى أحد التنظيمات. وفي نفس الوقت الذي تمّ فيه اعتقال مجد، كان الجنود الصهاينة في بيتي يعيثون خرابًا ويفتشون في كل زواياه لمدة فاقت الأربع ساعات، وكنت وحدي مع أولادي ولم أكن أعرف وقتها أن زوجي قد تم أسره، وبقيت طوال الليل أنتظر عودته. وبعد يومين من الإنتظار والقلق علمت بخبر اعتقاله”. 
في بداية الأمر، تقول فاطمة: “كنت أعتقد أنّ الإعتقال سيكون احترازيًا فقط، وأنّ مجد سيخرج حتمًا ولكنه بقي 68 يومًا في التحقيق، ولم يسمحوا لي برؤيته طوال هذه الفترة إلّا في المحكمة، وكنت أعاني وقتها من آلام ما بعد ولادة ابنتنا “زينة”، وبعد أيام جاءت أجهزة الإستخبارات “الإسرائيلية” إلى البيت مرة أخرى في الصباح واقتادوني إلى التحقيق لمدة خمس ساعات كنت خلالها أتألم لأني أريد إرضاع طفلتنا، وأحضرت الأجهزة زوجي وأخي المعتقل خلال التحقيق وجعلوا مجد يراني من وراء ثقب الباب من أجل تهديده وليّ ذراعه للإعتراف، لكنه ظلّ ثابتًا صلبًا لأنه يؤمن كما كل الأحرار أنّ الإعتراف خيانة. 
وفي المُقابل، تقول فاطمة إنّ المُحامي لم يستطع فِعل شيء بذريعة أنّ التحقيق مع مجد سري، وتتابع قائلة: “رآني زوجي وكان مقيدًا خلف الباب ولم أتمكن من رؤيته، لكني سمعت صوت قيد السلاسل، وطوال فترة جلسات المحاكم كنت أراه من بعيد، حيث خاض زوجي معركة طويلة وتعرّض للتعذيب بسبب رفضه للإعتراف بالتهم المنسوبة إليه، وكنت أرى الشحوب في وجهه والهزال في جسده خلال المحاكم لكن من بعيد، حيث منعوني من الإقتراب منه والحديث معه ولكني كنت كثيرًا ما أتحداهم وأركض نحو زوجي وأعانقه غصبًا عنهم، وفي إحدى هذه المرات تم إعتقالي في المحكمة وأخذوني إلى التحقيق مجددًا، وخرجت بعد ساعات، وتعددت جلسات المحاكمة لمجد إلى حوالي خمسٍ وعشرين جلسة لأنه استمر معتقلًا مدة عام حتى صدور الحكم”. 

وعن يوم صدور الحكم النهائي، قالت فاطمة “إنّ المُحامي قال لنا إنّ الحُكم لن يتعدى خمسة عشر عامًا، ولكن كانت المفاجأة الصادمة لنا جميعًا بصدور حكم 21 عامًا وثلاث سنوات مع وقف التنفيذ، ورفعنا طلب استئناف لمحكمة العدل العليا وتمّ تخفيف الحكم سنة واحدة حيث أصبحت مدة الحكم عشرين عامًا، وقد تبقّى لمجد أربع سنوات من الأسر أنتظرها على أحرّ من الجمر. والآن بعد مرور ستة عشر عامًا من اعتقاله، يصبح عمر إبني منتصر في آذار المُقبل سبعة عشر عامًا”. 
وقالت فاطمة إنها طوال فترة سجن مجد بقيت تعمل حيث لا مُعيل لها ولعائلتها الصغيرة، ومرّت بمصاعب عديدة في تربية أولادها وحدها، وكان أهم ما تحرص على فعله طوال هذه السنوات زيارة مجد في جميع السجون التي نقلوه إليها من عسقلان إلى نفحة الصحراوي إلى هشرون وريمون وبئر السبع والنقب. وكانت فاطمة تخرج لزيارة مجد من الساعة الخامسة فجرًا وتعود إلى بيتها في سلوان في الساعة الخامسة عصرًا. كما أكدت فاطمة على حرصها أن تأخذ منتصر وزينة لزيارة والدهم معها منذ الطفولة وعدم حرمانهم من شيء حتى لا يشعروا بغياب الأب، وقالت إنّ أولادها في طفولتهم المبكرة أدركوا مع الوقت أنّ والدهم في السجن ولن يستطيعوا رؤيته بسبب الإحتلال، معبّرةً بالقول إنها تشعر باقتراب الموت إذا لم تزُر زوجها حتى لو مرة. وأضافت أنها خلال إحدى الزيارات إلى سجن نفحة الصحراوي في شهر رمضان أُضطرت للعودة إلى بيتها في الساعة التاسعة مساءً لأن إدارة السجن افتعلت مشكلة مع أهالي الأسرى، وكانوا يريدون تجريد جميع الزوار من ملابسهم للتفتيش ولكنهم رفضوا جميعًا. 
أما عن عزيمتها، فقد أكدت فاطمة أنّ الإرادة القوية كانت تستمدها من قرار ذاتي بدأ مع عيد ميلاد إبنتها الثاني، حيث أقام أهلها حفلة لزينة بهذه المناسبة، وقتها أحست فاطمة بعد حالة شرود وعدم تصديق دامت عامين بضرورة النهوض من حالة القهر النفسية إلى الإهتمام الكامل عن وعي بكافة مسؤولياتها بعيدًا عن الضعف والتخاذل كما وصية مجد. تضيف فاطمة: “وخلال صفقة الوفاء للأحرار “شاليط” عانيت من حالة انهيار، حيث كنتُ أتامّل بأن يكون إسم مجد في قائمة الأسرى المحررين لكنه رفض قرار الإبعاد إلى غزة”. وأكدت أنها عاودت النهوض من جديد لإكمال مسيرتها في الحياة، وأنه “بدعم مجد وبحبه توطدت العلاقة بيننا حيث لم يقُل لي يومًا أنه يشعر بالتعب أو الندم أو الوجع رغم إضرابه عن الطعام مرات عديدة آخرها خلال تمديد إعتقال الرفيق بلال كايد، حيث تضامن مع قضيته بالإضراب عن الطعام وخسر خلال معارك إضرابه 22 كيلوغرامًا. 

تستفيض فاطمة بالحديث عن مجد، وتصفه بأنه “مقاومٌ يُقدس قيمة الحب وحرية المرأة فعلًا لا قولًا، وكان دومًا حريصًا على الإحتفاء بعيد ميلادي وزواجي وتقديم الهدايا لي من خلال إخوانه خلال زيارتهم له، عدا عن الهدايا الخاصة التي كان يعملها بنفسه في السجن من مشغولات الخرز المعبرة عن حبه، وأكثر ما يردده في كل زيارة “لولا الأمل شو بنكسر أرواح”، وكانت هذه العبارة الشيفرة السرية بيننا كي لا نضعف يومًا”. 
وأضافت أنّ “مجد خلال السجن أنهى دراسة البكالوريوس والماجستير، وأنهى قراءة حوالي 300 كتاب سياسي عدا عن الروايات والكتب التاريخية، وكان دومًا يقول لي أنّ تجربة الأسر علمته الكثير رغم المعاناة اليومية، كما ويُشرف مجد على تثقيف الشباب وتوعيتهم وطنيًا وسياسيًا، إضافة الى كتابته سلسلة من المقالات في جريدة القدس، ولديه أصدقاء من كافة التنظيمات السياسية وهو من القيادات الفاعلة والعتيدة داخل السجون ومواقفه صلبة في درء الإنقسامات والنزاعات الفصائلية وحماية إنجازات الحركة الأسيرة”. وعقّبت بالقول إنّ “استشهاد الرفيق أبو علي مصطفى كان من أكثر الأحداث الفاصلة المؤثرة في حياته، كذلك رحيل صديقه الدكتور أحمد مسلماني ووفاة أعمامه وإبن عمه”.

وحول علاقته بأولاده، قالت فاطمة إنه شارك بتربيتهم معها رغم الأسوار الفاصلة بينهما، وكانت تشاركه همومهما ومشاكلهما وكان حريصًا على كتابة رسائل لهما”. وعن صورتهما معًا قالت: “هذه الصورة ستبقى محفورة في قلبي، حيث قمنا بالتقاطها بمناسبة يوم الأسير في 17 نيسان الماضي، ويومها عانقت إبنتي زينة والدها بعد خمسة عشر عامًا وتصورت معه بعد آخر صورة لهما يوم كان عمرها يوم واحد”، وختمت حديثها بالقول إنّ “إبنتي اليوم في الصف العاشر وإبني في الثانوية العامة، وكل حلم مجد بعد التحرير أن يعيش معي كما بقية العوائل في العالم، لأنه على قناعة أننا نستحق الفرح بعد هذه المعاناة الطويلة دون أن يتنازل يومًا عن خيار المقاومة الذي دفع ثمن موقفه نصف عمره، حيث سيحتفل في شهر أيار القادم بعيد ميلاده الواحد والأربعين”. 

من جانبها، تقول أخت فاطمة دلال، التي اعتقل إبنها بكر الذي لا يتجاوز الخامسة عشرة من عمره مع مجد، أنّ أختها عانت من ألم الفراق للحبيب والزوج ومعاناة تربية وإعداد أولادها لحياة كريمة حرة أساسها حب الوطن والتفاني من أجله ،وعذاب مواجهة قرار هدم منزلها وتحمل مشقة العمل والواجبات الإجتماعية والتضامنية مع الأسرى دون كلل أو ملل، وألم التغافل عن قضيتها، مؤكدةً أنّ مجد يستحق كل الحب أيضًا، فهو عميد من عمداء أسرى القدس الذي رفض الإعتراف كما رفض الحرية مقابل الإبعاد، وستبقى رسائله إلى منتصر وزينة ذخيرتهم الثورية التحريضية على التعليم والثقافة مؤكدًا لهما دومًا أنّ الحياة لا تتوقف في محطة، فالزمن هو عمرها المديد الذي يجب استثماره وترتيب أولوياته في ما يفيد. كما ستبقى فاطمة تردد أغنية الحب الفلسطيني التي تُحب “وحين يهشمُ رأسي الجنود… وأشربُ بردَ السجون… لأنساك.. أهواكِ أكثر..””.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.