إتباع المثلث للكيان الصهيوني .. فالهجرة إلى الزرقاء

 

 

محمد شريف الجيوسي

في وقت مبكر من الهجرة الفلسطينية ، ارسله والده وشقيقه الذي يصغره بعامين وشقيقة تكبرهما بنحو 4 اعوام ونيف عبر طريق برية بصحبة ابو العبد سارة ابن عم الأب ، على دابة أو دابتين ، إلى قريتهم شرقا ، وقد زودهم بما يكفي من المواد التموينية بعض وقت .

وأبقى الوالد زوجتيه وشقيقتين أحدهما تكبره بسنتين ونيف والثانية بنحو 7 سنوات .. هو لا يعلم وجه الحكمة التي جعلت الوالد يرسلهم ربما لأن الولدين كانا الأصغر سناً ، والبنت لرعايتهما ، رغم انها كانت هي الأخرى تحتاج لمن يرعاها، وما لبث الأب ومن معه أن التحق بمن سبقوه .

لقد بقيت في ذاكرته قريته ، والطريق الى بيت العائلة الذي قطنه عمه دون انقطاع حتى وفاته إلا من سفرات قصيرة، وفي أول زيارة لهالى البقرية منفرداً بعد نحو 10 سنوات ، تبدل خلالها كثيراً كطفل ، توجه إلى بيت العائلة دون دليل ، قرع الباب ففتح له ابن عمه (اللزم) ، الذي سأل ، أمر ، قال له انا ابن عمك ، فاستقبله بحفاوة ، كانت صورة ابن عمه راسخة في الذاكرة ، حيث لم يكن قد طرأ تغير يذكر على ملامحه ، فيما هو تغيّر كثيراً ، كان ابن العم يأخذه غرباً متباهيا به ، حيث تمتد سهول فلسطين نحو 10 كيلومترات حتى البحر . . كانت تشاهد بالعين المجردة زرقة البحر وحركة البواخر والقطارات في فلسطين المحتلة .

لكن خوف الأسرة على الإبن الذي رزقوا به بعد لأي ومعاناة وطول انتظار ،  كان يحرمه من نزنهة جميلة كما يحرم  الشاب ابن العم من اصطحابه مع شعور ممض انه غير مؤتمن على ابن عمه .   

لقد كان صعبا على الأب الذي غادر القرية شاباً فرداً ، أن يعود إليها وقد بلغ الأربعينات ومعه كل هذا الحِمل من الأبناء وزوجتين ، بعيدا عن تجارته أو إمكانية للعمل ، فلم يكن أمامه إلا الانتقال إلى مدينة طولكرم  ، عله يستأنف تجارته هناك

عندما انتقلت الأسرة الى طولكرم لم تكن اتفاقيات الهدنة قد وقعت بعد ، وكانت منطقة المثلث الفلسطينية ما زالت في ايدي العرب ، وكانت شقيقة جديدة قد ولدت بالتزامن مع الهجرة ، والمفارقة أنها تزوجت بالتزامن مع نكسة 1967، واضطرت لتجاوز النهر مع زوجها الى الضفة الغربية مشياً فيما بعد الحرب بأيام قليلة جدا ، ما أدى إلى إجهاضها في الطريق، تعباً وخوفاً ومصاعب عبور النهر .

وأدت خسارة منطقة المثلث إلى إصابة طولكرم بتراجع اقتصادي كبير ، بالتوازي مع تعرض المحل التجاري للأب لسرقات متكررة ، وهي السرقات التي فيما يبدو فرضتها الحالة الاقتصادية السيئة التي تسبب بها احتلال فلسطين من قبل العصابات الصهيونية ، وتردد في حينه أن بعض رجال الشرطة كانوا متورطين بعمليات السرقة ، وقد تراجعت أحوالهم بعد الاحتلال .

ومن المفارقات أن يهوديا كان الأب يشتري منه بضائع بالتقسيط قبل الاحتلال ، في مدينة حيفا أو يافا ، ادعى أنه له ذمة غير مدفوعة على الأب ، معتمداً على حالة الفوضى التي عمت الهجرة الفلسطينية جراء العمليات الإرهابية التي نفذتها العصابات الصهيونية في العديد من القرى والبلدات والمدن، ما خلق حالة فزع بين المواطنين الفلسطينيين وزاد من حالة الرعب تخلي دولة الانتداب البريطاني عن مسؤولياتها في حفظ الأمن وضعف الاستعداد الفلسطيني ونقص كبير في السلاح والعتاد والتدريب والتنظيم ، وما استتبع من مطالبة الفلسطينيين في مدنهم وقراهم ، مما أطلق عليه ( جيوشا ) عربية بمغادرتها لمدة اسبوع أو أسبوعين .. فكان الكثير منهم يغادرون بيوتهم دون ان يحملوا معهم حتى الحد الأدنى من الاحتياجيات والثبوتيات.

لكن الأب الذي استدعته لجنة الهدنة للتحقيق معه في الذمة المزعومة للتاجر اليهودي ، فوجئت بأنه قد سدد له كل الذمم المدّعاة بموجب ايصالات أصولية عليها طوابع وتوقيعات اليهودي ؛ الذي أسقط في يده !؟

لقد أثّرت هذه الحادثة التي رواها الأب والتي بقيت وثائقها موجودة عقوداً ، في نفس الإبن ، كثيراً عندما أصبح شاباً ورجلاً ، حيث حرص على عدم التخلص من أية وثيقة مهما تدنت اهميتها ، والحرص على تذكر مضمونها تفصيلا عندما يضطر لفقدانها ، وهو الأمر الذي أتاح له استرداد ذمة له على بحريني بعد 19 سنة بقيمة 1650 ديناراً بحرينيا ولتلك قصة.

تنقلت الأسرة في غير بيت في طولكرم ومنها ( الإقامة ) لفترة وجيزة في كراج مهجور للحافلات التي توقفت خطوط سيرها عن الحركة بعد فقدان المثلث ، ومن البيوت التي سكنتها الأسرة بالأجرة ، بيت باتجاه طريق نابلس ، وكان أمام البيت شجرة ( جُمّيز ) كبيرة ، ما زال يتذكرها ، ويتمنى أن يشاهدها وان يأكل من ثمارها التي تشبه التوت ، في حال لم تجتث .

في ذاك البيت ولدت شقيقة له تصغرة بـ 4 سنوات ، بعد النكبة بنحو سنتين ، كان للبيت برندا مكشوفة والوقت ليلا وما من كهرباء والعتمة تعم المكان ، فيما كانت نجوم السماء تتلألأ ، كان يجلس مع زوجة والده التي كان وأخوته واخواته يخاطبونها كوالدتهم تماماً ، ويدعونها باسمها (يمه حليمة )ومعهما شقيقته التي غادرت معه الى قريته في البدايات . كان بالكاد يستطيع التعداد لكنه فيما يبدو حاول ذلك ، فقالت له يمه حليمة أن من يعدّ النجوم يصاب بالنسيان !؟.

وسكنت الأسرة فترة في الحارة القريبة من الطريق الى قلقيلية ، وفي ذاك البيت يذكر ذات يوم ، كان مع شقيقيتة التي تكبره بعامين ونيف وشقيقه الوحيد الذي يصغره بعامين الا شهراً ، كانت الشمس تظهر وتغيب ، كما هو حال غالباً أيام أواخر شباط وشهر آذار .. غنوا الأغنية الشعبية على مستوى بلاد الشام  ( شمّست شميسى ع بيت عيشة ، عيشه في البيارة بتاكل خياره.. ) هذا ما تبقى في ذاكرته منها .     

أما قطيع الأغنام التي امتلكه الوالد ، فكان مصيره الخسران بين شاردة مزقها شريط الحدود الجديد الذي فرضه احتلال فلسطين من قبل العصابات اليهودية الصهيونية  ، وجشع الرعاة الذن فيما يبدو استغلوا غياب الأب عن متابعة رزقه ، بما في ذلك الشاة الحمراء الشامية التي كان حليبها مخصصا للإبن،  الذي يخاطب أبناءه وبناته انظروا أسناني ما زالت بحمد الله أحسن من أسنانكم وقد بلغت ألـ 70 .. ويبتسم ..

أدت سنوات أربع من الإنفاق دون دخل لاستنفاذ كل شيء ، فسعى الأب الى استخراج بطاقة مؤن ، فكان له ذلك ، وتوجه إلى الزرقاء شرقي الأردن حيث وجد عملاً بسيطا في متجر كمحاسب ، وأسكن الأسرة في الحارة الشرقية قرب المقاطعة

عانى الإبن في سنة دراسته الأولى ، فقد سجله والده بصعوبة في قرية ذنابة شرق طولكرم ، كان يذهب اليها ويعود ماشياً ، فهو التلميذ الوحيد من خارج القرية وعليه أن يمشي كل هذه المسافة ، ذات صباح لاحظ أنْ لا أحد يمشي على الطريق الترابي ، فيما شاب يمشي باتجاه طولكرم ، سأله كم الساعة ، فأدرك الشاب مغزى سؤاله نظر الى ساعته ، لكنه لم يقل له كم الساعة وإنما أجابه : شد رجلك ، فأسرع باتجاه المدرسة .

ذات مرة كان وزملاؤه في الصف يركضون ويلعبون فحدث ان انزلقت ساقه ، جاء احد زملائه فقبله من خده بوسة سريعة وهرب ، وعندما عاد الى متجر والده بدا وجهه وقد احمر وجهه لكثرة ما لعب فضلا عن مسافة الطريق ، فوق ما هو عليه من احمرار ، سال الأب ليش وجهك أحمر ، ولما كان الولد لم يعتد الكذب وظن ان البوسة تركت اثرا ، قال ولد باسني ، وحيث أن هذا الإبن ( إجا بخيط وفتيلة ) كما يقال في المثل الشعبي للأمور التي تأتي بعد استعصاء، توجه الأب في صبيحة اليوم التالي إلى المدرسة مصراً على استدعاء الطفل ومعاقبته، وارضاء لوالده قام الإبن بصفع الطفل بوجود مدير المدرسة والأب .

انتهت السنة الدراسية لكن المدرسة لم تمنح الإبن فرصة النجاح ، فسجله في مدرسة عمر بن عبد العزيز بطولكرم ، وحيث قيل أن من يترك أملاكه تصادر اضطر الأب إلى العودة  ، كان خلالها يذهب في الحافلة الى طولكرم كل صباح ويعود بذات الحافلة مساء ، بعدها استأجر الأب منزل الحارة الشرقية ،  وتوجه كما اسبقنا للزرقاء ، نحو سنة ، وبعد شعوره بشيء من الاستقرار نقل أسرته الى الزرقاء صيف عام 1952 .

نقلت الأسرة ( شماشيرها ) فوق ترك ، وبعد تجاوز مدينة نابلس باتجاه الأغوار ، كانت الطريق تمر من منطقة جبلية مسننة الصخور ، فيما كانت العائلة تجلس ( مطنطزة ) فوق الأثاث البسيط ، فبدى للإبن أن أي انحراف أو ميلان سيودي بالجميع الى كارثة ، فبكى ، فيما أخذت الأسرة في تهدئته .

كان المسكن الجديد في الزرقاء مقابل جامع االشوام ( جامع عمر بن الخطاب ) على مقربة من عمل الأب ، وفي المتجر المقابل وهو لتاجر شامي عتيق ، كانت واجهته تزخر بحكم مكتوبة بخط جميل ، كان يحرص على قرائتها باستمرار ، مثل : من راقب الناس مات هما ، والقناعة كنز لا يفنى ، وسوى ذلك، وكانت المدرسة الثانوية على مقربة شديدة من البيت .

كان البيت الذي قطنته الأسرة ككل بيوت الزرقاء مبني من الطين، وقد قطنته خالته قبل قدوم اسرته، حيث انتقلت الى بيت آخر، ويبدو أن سوء فهم كان يجمع الخالة مع جارتها التي أصبحت بانتقالها جارة الأسرة ، وحدث أن تطرقت للخالة بمفردة ، فانبرت لها شقيقته التي كانت ترافقه الى قيادة المنطقة عندما كنت يدرس في ذنابة ، فقد كانت أقوى شقيقاتها ، قائلة (الفرع مني ولو مال ) فصمتت الجارة ولم تعد الى ذم خالته .

كان البيت صغيرا ، لكنه قريباً من الخدمات والمسجد والمدرسة وعمل الأب ،  وكان يضم بركة ماء ، وحدث أن غرقت فيها شقيقته التي ولدت ذات ليلة معتمة تعج بالنجوم .. ومرة لا أحد يعلم كيف خرجت من البيت ، فالتقطها ابن حلال وسلامها لمخفر الشرطة الذي قام عناصر المركز بلفها ببطانية، وأعلن من مئذنة المسجد أنً من له طفلة صغيرة ضائعة  فليذهب لإستلامها من المخفر، فذهب الأب ليرى إن كانت ابنته هي المعنية ، والطريف أنها عندما سمعت والدها يسأل صرخت بابا ، كان مشهدا جميلا مؤثراً وفي آن دل على ذكائها .

هي ضاعت مرة قبلها في طولكرم ، ومرة وقعت عند عتبة البيت ، وكانت تظن نفسها كشقيقيها وهي ابنة سنتين أو دون ذلك ، فتحاول تشبيههما عندما يدخلون للحمام قبل النوم .

كان الإبن يمر في المعتاد على مكان عمل الوالد قبل أن يعود للبيت الجديد الذي استأجره الأب قرب قطعة اشتراها من تاجر الأراضي الذي هو نفسه صاحب المحل التجاري، كان هذا التاجر  داهية يقوم بالبيع لجنود معسكر الجيش والبدو بالآجل، وعندما يعجزون عن السداد أو يتقاعسون في ذلك يستد الدين؛ اراض ، وبعد فرزها والحاقها بالتنظيم يقوم ببيعها بأضعاف مضاعفة من ثمنها ، واستطاع اقناع الأب بشراء قطعة أرض في منطقة نائية ، بالقياس لتلك الأوقات ، وعلى مقربة منها مسكن بناه ( كلوب باشا ) لوكيل في الجيش كان مقرباً منه ، لكن أحداً لم يكن ليقدر على السكن فيه لأكثر من أيام ، فساد اعتقاد بين كل من خاض التجربة أو كان على مقربة من بعض بيوت الشعر الفليلة أنه مسكون بالجن ،

فاستأجر الأب البيت ، حيث لم يكن ليخشى الجن حتى لو كان الاعتقاد حقيقياً ، وليتمكن من الإشراف على بناء بيت متواضع من اللبن الترابي ، فيوفر كلفة الاستئجار .

وفوجيء الإبن ذات يوم ، أن شخصاً آخر يجلس مكان والده ، فأسرع الى البيت مبلغاً والده ، الذي فيما يبدو انشغل ببناء البيت  ، ولما وصل الأب المحل ، قال التاجر ببساطة للأب : الزرق ع الله . أسقط في يد الأب الذي تورط بشراء الأرض والبدء بالبناء عليها بالاعتماد على دخل معين ـ فعاد مكسور الجناح مهيضاً في غربة لا ترحم وسن لم يعد معه قادرا على عمل يحتاج الى همة الشباب وعمامة تفرض عليه وضعاً خاصا .  

كان الأب قد اختار مجاورة ( قصر شبيب ) فيما عديله اختار السكن قبالة قائمقامية الزرقاء ، حيث كان يعمل كاتب استدعاآت أمامها ، كانا ( شحمين على نار ) في كل شيء ـ وكان العديل يقول ، ان الشيخ اختار السكن مع الضباع ، فيرد الأب ، انا لست أذكى من شبيب الذي اختار بناء قصره في هذه الرقعة المشرفة الجميلة من الأرض .

الجمعة 20/2/2015 م

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.