نعم.. نحن من سيغير وجه المنطقة ويكتب تاريخها / د. فايز رشيد
د. فايز رشيد ( الأردن ) الخميس 2/2/2017 م …
لعل شاعرنا محمود درويش، لو كان حيا، لقام بتغيير كلمات بيت شعرٍه من قصيدته «طوبى لشيء لم يصل»، من القول «مرحلة بأكملها أفاقت ذات موت.. من تدحرجها على بطن الهزيمة»، إلى «مرحلة بأكملها استمرت ذات موت.. في تدحرجها إلى بطن الهزيمة».
ذلك أن أمتنا العربية تعيش مرحلة من أسوأ مراحل تاريخها، انكفاء كل دولة على ذاتها، انكسارات متتالية، تمزق في وحدة النسيج الاجتماعي للشعوب، بعضها يعيش تناقضات تناحرية، صراعات دامية تهدد بتقسيم البلد الواحد إلى دويلات طائفية وإثنية متحاربة، بمعنى أننا نعيش مرحلة «سايكس بيكو» جديدة، من خلال صراعات بينية مستديمة، إلى جانب الصراع في البلد الواحد.
وجود إمكانية فعلية لتقسيم كل من العراق وسوريا، وغيرهما كاليمن وليبيا والسودان، كما تهديدات جدية بنقل الصراعات إلى أقطار أخرى جديدة. إرهاب دموي بضرب الكثير من العواصم العربية، تباهي بعض الرسمي العربي بإقامة علاقات وتبادل الزيارات مع العدو الصهيوني علنا وأمام كل الجماهير العربية، في الوقت الذي تتنكر فيه إسرائيل للحقوق الوطنية الفلسطينية والعربية، وترفض تنفيذ قرارات الشرعية الدولية، وتوغل في استيطانها وتهويدها للقدس، ومصادرتها للمزيد من الأراضي، وترتكب قتلها اليومي المبرمج لشاباتنا وشبابنا، تغتال، تعتقل، تهدم البيوت، وغير ذلك من الموبقات الفاشية. لعل الأهم، أن جميع المؤتمرات الاستراتيجية التي تعقد في إسرائيل على مدار السنتين الأخيرتين، وصلت كلها إلى نتائج، من بينها أن إسرائيل لم تعش منذ عام 1948 مرحلة أمن، كما هذه المرحلة، وأن لا خطر يهدد إسرائيل من الدول العربية، وأن الحاجة أضحت ماسة لقيم تحالف استراتيجي بينها وبين الدول العربية المعتدلة.
هذا الكلام يقوله ويدركه كل مواطن عربي من المحيط إلى الخليج، إذا ما جرى تداول بين الناس عن الوضع العربي الحالي، غير أنه لا ردود فعل رسمية وشعبية عربية على ما يجري تنفيذه من مخططات، غير بيانات الاستنكار والشجب، التي ملّتها جماهيرنا، والتي قال عنها رابين يوما، إن مصيرها الرمي في سلة المهملات.
الأكثر غرابة أننا لا نقرأ حتى عن المخططات المنشورة علانية، لتقسيم الوطن العربي إلى 52 دويلة، هذا ما خططه المفكر الصهيوني البريطاني الأصل برنارد لويس، والمسمى باسمه، لقد أفاد لويس الدوائر الغربية بتفصيلات تشريح وتقسيم الدول العربية، حيث وصفه الصهيوني مساعد وزير الدفاع الأمريكي الأسبق بول ولفوويتز قائلاً: «لقد تمكن لويس في شكل باهر، من وضع علاقات وقضايا الشرق الأوسط في سياقها الأوسع، وبفكر موضوعي وأصيل ومستقل دوماً. لقد علّمنا برنارد كيف نفهم التاريخ المعقد والمهم للشرق الأوسط، وكيف نستعمله لتحديد خطوتنا التالية، لبناء عالم أفضل لأجيال عديدة».
لقد كتب كثيرون عن مخططه، أخيرهم ولن يكون آخرهم، الكاتب الصحافي البريطاني المهتم بالصراع الفلسطيني العربي – الصهيوني جوناثان كوك في كتابه «إسرائيل وصدام الحضارات»، يورد الكاتب المخطط الإسرائيلي لتفتيت الوطن العربي، فيقول نقلا عن أحد القادة الإسرائيليين: إن تفتيت مصر والعراق إلى دويلات عرقية ودينية، على غرار ما جرى في لبنان، هو الهدف الاستراتيجي البعيد لإسرائيل على الجبهة الشرقية، أما إضعاف هذه الدول عسكريا، فهو هدفها القريب. سيجري تفتيت سوريا إلى ثلاث دول: دولة للعلويين ودولتين للسنة في دمشق وحلب.
الأغرب أيضا، أن معظم السياسيين والمسؤولين العرب، لا يطالعون تقارير الهيئات الدولية السنوية، التي تصدرها مراكز بحثية عديدة، على قاعدة الاستفادة منها، وتغيير المنهج من أجل تخطيها. هذه التقارير في العادة، تُكتب بشكل موضوعي عن البلدان العربية ، وتتحدث عن معضلاتها وظروفها في المناحي المختلفة، فمنها مثلا: تقارير التنمية الاجتماعية في الوطن العربي، منذ أوائل القرن الحالي، التي تصدرها الأمم المتحدة، تقارير «مؤسسة كارنيغي»، وأخيرها صدر حديثا تحت عنوان «انكسارات عربية: مواطنون، دول، وعقود اجتماعية». وقد أعده باحثون عرب، يجمعهم الألم على مستقبل العالم العربي برمته. أشار التقرير إلى فجوات واضحة في الحريات والمعرفة وحقوق المرأة، يجب معالجتها، كما يشير إلى التصدعات الاجتماعية القائمة، بالشكل الذي يؤثر على المسيرة السياسية للدول، وإلى التحديات الجديدة الطارئة منذ اندلاع أحداث الربيع العربي عام 2011، كانهيار العقود الاجتماعية القديمة وانتهاء حقبة النفط… الخ. بعض النظام الرسمي العربي للأسف، وبدلا من تعميم هذه التقارير، يحاول منع إصدارها، كالتقرير الذي أعدّته لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا)، الذي كان مقررا صدوره باسم المنظمة، لكن هذا البعض كما الكيان الصهيوني، مارسوا ضغوطا كبيرة لمنع نشر التقرير باسم الهيئة، بل كأبحاث فردية لأصحابها. كما يحذّر التقرير من «ثورات دموية» في العالم العربي إذا استمرت حالات القمع، ويشير إلى أنه، لا يمكن الحديث عن العدل والتنمية، من دون وأد الفتنة الطائفية، التي تشكّل تهديداً وجودياً للعالم العربي. كما أشار للقتل العشوائي، الذي يتعرض له الفلسطينيون منذ عام 1967، ورأى أن «مظلمة أهل فلسطين، ليست بحال من الأحوال، أخف وطأة أو أقل أثراً من مظالم سائر المواطنين العرب. خمسة ملايين منهم لاجئون ينتظرون تطبيق حقهم في العودة إلى أرضهم، لإعادة بناء حوالي 500 قرية ومدينة دمرتها إسرائيل. فالفلسطينيون اقتُلعوا من أرضهم منذ أريبعينات القرن الماضي، لأغراض مشروع إقامة دولة إسرائيل على أسس دينية/عرقية».
على صعيد الساحة الفلسطينية، الوضع ليس أفضل حالا للأسف، فمن جهة، ما زالت السلطة تتمسك بنهج المفاضات كخيار وحيد لنيل الحقوق الوطنية، رغم تأكيد قادة العدو، بأن لا دولة ثانية ستقام بين النهر والبحر غير إسرائيل، كما أن الكيان، يقترح شروطا جديدة للتفاوض مع الفلسطينيين، كالاعتراف بيهودية إسرائيل، ومفاوضات من دون شروط مسبقة، عدم تدخل الأمم المتحدة ولا أي دولة. من جانب آخر، جرت اجتماعات في بيروت وموسكو للتحضير لانعقاد المجلس الوطني الفلسطيني، بقوام انتخابي جديد للأعضاء (وفق ما أمكن ذلك)، واتفاق على إنجاز المصالحة، تم الاتفاق على أهمية تحقيقها على طريق الوحدة الوطنية، كشرط رئيسي للانتصار. في اليوم التالي مباشرة، أصدرت محكمة عسكرية تابعة لحركة حماس، سلسلة أحكام متفاوتة بحق 8 من حركة فتح، متهمة اياهم بـ «النيل من الوحدة الثورية». (أرجوكم فسروا لي معنى التهمة). لقد حكم على ثلاثة من «المدانين» بالسجن المؤبد، بينما تتراوح الاحكام الصادرة على الاخرين بين سبع سنوات و15 سنة. نتساءل اين هي الوحدة أساسا، حتى تكون ثورية أو رجعية؟ ثم هل اتصال أعضاء من فتح مع تنظيمهم الأم، يعتبر جريمة؟ باختصار ما زلنا بعيدين عن المصالحة، رغم أهمية وإلحاحية الحاجة إليها.
الأحوال العربية الرديئة الحالية، تذكّر بأحوال أكثر سوءا مرت بأمتنا، أثناء الاحتلال المغولي لأجزاء من الوطن العربي، حين كان الواحد من التتار يوقف الإنسان العربي بجانب جدار، ويطلب منه الانتظار حتى يذهب ويحضر سيفه ليقتله. الغريب، أن العربي لم يكن يجرأ على الهرب، رغم عدم وجود أحد يراقبه. ربما ينسى المغولي الأمر، لكن العربي يظل واقفا. صحيح، أننا لم نبلغ هذه الدرجة من الهوان بعد، لكننا في حالة، لا يحسب أحدٌ حساب أمتنا، ولا ردود فعلها على ما يستفزها. إننا أمة يكثر فيها الزعماء، حيث تجد بين كل قائد وقائد، قائدا آخر، حيث بات يُخشى أن لا يظل بيننا مواطنون عاديون! المؤلم، أنه رغم كثرة القادة الجهابذة، فإن الواقع العربي يزداد رداءة وسوءا، ليس هذا فحسب، بل نزداد انكسارات وهزائم متتالية.
رغم كل ما سبق، إلا أن شعبنا الفلسطيني وأمتنا العربية قادران على الانطلاق من تحت الرماد كطائر الفينيق. ندرك مصائر كل الغزوات التي تعرضت إليها فلسطين والوطن العربي على مدى التاريخ، وقد ارتدت مهزومة، سيأتي زمن يكثر فيه القادة القادرون، وستنتصر أمة جعلت من التضحية عنوانا لها، وتحقق حريتها واستقلالها وعزتها. المشروع الصهيوني لن يكون أفضل من مصائر أشباهه من الغزاة، وسيهزم آجلا أم عاجلا، لأن شعبنا وأمتنا سيغيران وجه المنطقة، وبالحتم سيكتبان تاريخها.
التعليقات مغلقة.